Culture Magazine Thursday  10/06/2010 G Issue 314
فضاءات
الخميس 27 ,جمادى الآخر 1431   العدد  314
 
القاضي والثقافية وتسطيح ثقافة الغضب
سهام القحطاني

قرأت مقالة الأستاذ حمد القاضي «رفقاً بها يا معشر الوراق» ولن أتحدث عن موقفه من المرأة، فقد استوفت الدكتورة لمياء هذه النقطة في مقالتها الأسبوع الماضي، بل سأتناول رأي القاضي في قراءة مشكلة ضعف القناة الثقافية، والمغالطات التي وقع فيها، أو هكذا أظن.

وقد يقول قائل إن تحديد المغالطات لا تخضع لقاعدة معيارية فما أعتبره مغالطات قد يعتبره غيري بما فيهم القاضي غير ذلك، وأنا لا أتفق مع ذلك القول لأن هناك دوماً سقفاً للتفكير الواقعي يضبط مسار المشروع التنموي أياً كان نوعه أو التجربة الإجرائية، وحتى التوقع الاستشرافي كونه صناعة المفترض مضبوطاً بمعطيات الواقع لأن تحقيقه مرتبط بتلك المعطيات.

إذن نحن نتحرك وفق شبكة من المتواليات وأخرى من الاشتراطات التي تبني بدورها سلم الهرم التقويمي، ولا أدري كيف غابت هذه المسلّمة الأولية للتفكير التأملي على القاضي وهو المثقف صاحب التجربة الثقافية الطويلة.

فقد طلع علينا من خلال مقالته مدافعاً عن القناة الثقافية وهذا من حقه، لكن ليس من حقه أن يفرض على المثقف الغاضب من القناة الثقافية حجته الهشة وتسطيحه لمحتوى ثقافة الغضب وخلطه بين المفاهيم وعدم التفريق بين حدود وإمكانات سقوف التوقع، وفرضه على المثقف طريقة تقويم لا تتفق مع روح الثورة الإعلامية والتنافس الفضائي العربي وقبلهما لا تتناسب مع الوعي النقدي الذي يتميّز به المثقف السعودي الآن الذي تجرد من أحادية التجربة ودخل فضاء تعددية التجارب، الذي أخرجته بدورها من جلباب وصايا المحافظين الجدد، ودفعته إلى كسر الأصنام الثقافية، وهو بلا شك أمر محزن.

لقد غابت عن القاضي مسألة مهمة وهي «عقد العلاقات» أو ديناميكية العلاقة بين المتلقي وأي قناة فضائية، فالمتلقي يرتبط بأي قناة من خلال أربع مراحل تراتبية واقتضائية من العلاقات هي»علاقة التعرّف» و«علاقة التلاؤم» و«علاقة الثقة» و«علاقة الشراكة»، ومسألة عقد العلاقات من أولويات المقرر التسويقي لأي منتَج، وأندهش لإغفال هذه المسألة عند القاضي رغم تجربته الإدارية لمجلة ثقافية.

ونجاح علاقة التعرّف بدورها تعتمد على ثلاثة عناصر هي «القوة والجدية والنفعية»، فأي قناة هي «مُنتج» في ذاتها ممكن أن تكون منتجاً ثقافياً أو ترفيهياً أو دينياً، والقوة هنا تتضمن قوة التنافس عبر ما تمتلكه أي قناة من إمكانيات في الإبهار الجمالي لأن ثقافة الصورة هي الجاذب الأول للمتلقي لتفعيل التعارف مع أي قناة، وإستراتيجية التسويق جزء من القوة تتساوى مع الميزانية والقيمة الفكرية والنفعية، وأي قناة تفتقد تلك العناصر لن تشجع المتلقي على محاولة علاقة التعرّف عليها وبالتالي عدم إتمام مراحل عقد العلاقات.

والمتابع للقناة الثقافية سيجد من أول نظرة أن هناك مأزقاً أو توتراً في علاقة التعارف بين المثقف والقناة الثقافية لأسباب عدة منها:

إن القناة الثقافية صدمت طموح المثقف في أول ظهور لها وهو ما سبب قلق العلاقة بينهما وإنتاج ثقافة الغضب، والأسباب هنا مختلفة.

* قد يقول البعض إن هذه مشكلة تصور المثقف وليست مسؤولية القناة الثقافية، وهذا القول أحسبه غير صحيح؛ لأن تصوراتنا غالباً هي حاصل معطى معرفي، والمعطى المعرفي بدوره يتكون من عدة إمكانات وقدرات أو ما يمكن تسميتها «بعناصر شريحة التوقع» أو أسس سقف التوقع.

فالثقافية كونها قناة متخصصة ظهرت على الافتراض من أجل أن «تتماثل» مع التحولات الثقافية التي يعيشها المشهد الثقافي السعودي، لا أن «تعبر» عنه فقط، وإذا كان دورها فقط محصوراً في «الإعلان» و»التعبير» كما لمّح إلى ذلك القاضي، فما الفرق بين القناة الثقافية وأي برنامج ثقافي في القناة الأولى السعودية، فالقناة الثقافية كمتخصصة ليست معادلاً لملحق ثقافي أو مجلة ثقافية تعتمد على إجراء المقابلات بصورة تقليدية مملة وساذجة أشبه بتلك التي تقدم في الإذاعات المدرسية المثقلة بكلاسيكية الإعداد، أو تقديم الأخبار الثقافية أو توفير غطاء ثقافي للفعاليات الثقافية يتفقد المنهج الثقافي والثقافة النقدية.

فكل تلك الأمور - الوظيفة التعبيرية - هي وظيفة من وظائف القناة الثقافية وليست إستراتيجية لها كمشروع ثقافي، كما لمّح إلى ذلك القاضي، ولا أدري إن كان يفرق بين دلالة الوظيفة ودلالة الإستراتيجية.

فالقناة الثقافية على الافتراض هي في ذاتها «منتج ثقافي» وليست وسيلة للتعبير عن المنتج الثقافي، وهذا ما قصدت به من مصطلح «التماثل» أي يجب أن تتوازى مع مستوى وقيمة وجودة الوعي الثقافي والخطاب الثقافي والتحولات الثقافية على المشهد الثقافي، كما تتوازى على مستوى وقيمة الحاصل، لذلك صُدِم المثقف السعودي عندما اكتشف أن القناة الثقافية ما هي سوى النسخة المرئية من أي ملحق ثقافي، وأنها لا تتماثل مع المستوى الثقافي للمشهد الثقافي، هذا التقاطع هو الذي أدّى إلى قلق العلاقة بين المثقف والقناة الثقافية ومن ثم إنتاج ثقافة الغضب، لكن يبدو أن القاضي لم يستوعب هذا المسار للمشكلة.

التقاطع بين مفهومي الإنجاز والتمثيل، في البدء روّج المسؤول الثقافي أن القناة الثقافية هي إنجاز ثقافي، وهو ما يكرره القاضي بدوره، لقد علّمنا المنطق الغائيّ أن الوجود يا سيدي في ذاته ليس منجزاً، وإلا لاعتبرنا كل كائن عشوائي منجزٌ، فالوجود هو تمثيل لشيء أو لمجموعة من الأشياء أي حضور عيني لمعرفة خاصة، أما الإنجاز فهو القيمة التي يقدمها التمثيل أو يضيفها، والتمثيل حيثية ارتباطية للتعريف بماهية الموجود، في حين إن الإنجاز حيثيّة اشتراطية ترتبط بمسوغات الإنتاج والتنمية. وبذلك فكل موجود هو حامل بالضرورة لعلامة تمثيل وليس بالضرورة هو حامل لقيمة الإنجاز، وأظن أن هذه أول قاعدة علينا أن نتعلمها قبل تقويم الأشياء.

إن تحقيق الوجود لا يلزم تحقيق الإنجاز، وتحقيق الإنجاز يلزم توفر تمثيل وفق مواصفات خاصة.

وفي ضوء ذلك «فالقناة الثقافية» حتى الآن لا تُعتبر إنجازا إنما هي ممثلة لوجود معرفي خاص باعتبار تصنيفها «وسيلة تعبيرية» وليس منجزا ثقافيا «منتَج»، والفرق بينهما أن الأول غطاء ثقافي والثاني قيمة تغيرية وإضافية.

كما أن الإنجاز قيمة بعدية والبعدية تعتمد على إجرائية التنفيذ، وحامل الإنجاز دون إجرائية لا يعد إنجازا، فلا نستطيع أن نقرر صفة الإنجاز للقناة الثقافية باعتبارها مشروعاً حاملاً لإنجاز؛ لأن الإنجاز قيمة فعلية وليست قيمة تخطيطية، في حين إن الإستراتيجية قيمة تخطيطية وليست قيمة فعلية.

والإنجاز حاصل المنظومة التنموية وليس حاصل للتجريب، فحاصل التجريب عبارة عن مرفقات فكرية.

وبذلك فقد وقع القاضي في مأزقين الأول تحديد المفهوم الوجودي للقناة الثقافية والثاني تسذيج السلم التقديري للقيمة.

اكتشاف المثقف أن القناة الثقافية ما هي سوى تجربة ثقافية وليست مشروعاً ثقافياً، وهذا سبب من أسباب صدمته في القناة، ولا شك أن هناك فرقاً بين التجربة الثقافية والمشروع الثقافي ويبدو أن القاضي يخلط بين الأمرين.

فهل القناة الثقافية تجربة ثقافية تُبنى وفق عشوائية الصواب والخطأ كما نظر إليها القاضي؟ وهو منطق كما أحسبه يدفع إلى التروي الثقافي وسوء استعمال المال الثقافي العام.

وإلا ما معنى أن نتغاضى ونغفر لضعف القناة الثقافية ونسمح لها بخوض عشوائية التجربة وفوضويتها لتتعلم على حساب مستوى الوعي الثقافي وهدر المال الثقافي العام! إنه منطق غريب يصدر من مثقف متمرس في الحقل الثقافي.

هذا الأمر قد نسمح به لمرة واحدة في الأندية الأدبية لغياب التأهيل الثقافي والكفاءة الفكرية وضعف الميزانية، ولا نسمح بتكراره، لكن على مستوى مشروع ثقافي باسم الوزارة ويعتبر مشروعاً ثقافياً محلياً، لاشك أننا لن نسمح بأن يتعامل على أنه تجربة يمارسها كل «من هبّ ودبّ».

ثم من قال إن «ستة أشهر» فترة غير كافية للاستدلال على فشل أي تجربة هذا القول اعتباري على مستوى اكتشاف عقاقير لمعالجة العقم ، لكن في عالم الثورة الإعلامية وتعدد الفضائيات والتنافس القوي والتسابق نحو الإبهار والجودة وسرقة المتلقين، ستة أشهر ضابط موضوعي للتقويم، «فليالي العيد تبان من عصاريها» كما يقول المثل الحجازي.

كما أنه في منطق الثورة الإعلامية من «يبدأ قوياً يظل قوياً» ومن «يبدأ ضعيفاً يظل ضعيفاً» على مستوى «عقد العلاقات» ويبدو أن هذه الشريحة الارتباطية قد غابت عن القاضي.

وإذا اعتبرنا أن القناة الثقافية هي مشروع ثقافي بل يجب أن تكون كذلك وهذا ما كان يحلم به كل مثقف وهو ينتظر ظهور هذه القناة، فما هو معلوم يكشف عما هو مجهول!

يقول القاضي إن القناة الثقافية هي «مشروع ثقافي» وأنا أتفق معه وفق الصفة الاعتبارية، لا وفق مقتضى الحال كما يحسبها هو.

فأي مشروع ثقافي يلغي فرضية التطور عن طريق الصواب والخطأ باعتبار أنه يملك إستراتيجية مسبقة مبنية على أهداف وغايات، إضافة إلى تخطيطات مرحلية مسبقة تسير وفق خطة واضحة تتحقق معها التنمية الثقافية تدريجياً؛ أي أن القناة الثقافية ظهرت كمشروع ثقافي مكتمل البنية والإستراتيجية، ومرحلة الظهور يجب أن تقتصر على تنفيذ أهداف وغايات إستراتيجية، ذلك المشروع أي تحقيق التنمية الثقافية عبر الفعل الإجرائي من خلال إعداد البرامج والفعاليات الثقافية التي تتوافق مع أهداف وغاية إستراتيجية القناة كمشروع ثقافي، وليس بناء إستراتيجية من خلال تجربة الصواب والخطأ.

وهذه النقطة تثير الشك عند الكثير من المثقفين فيما يتعلق بمسار القناة.

هل الوزارة عندما قررت إظهار هذه القناة أسست لها إستراتيجية ثقافية وجدولة تخطيطية؟ أم جعلتها مثل أولاد الشوارع تربي نفسها بنفسها؟.

إن المتابع للقناة سيلاحظ بعد أسبوع أن القناة تفتقد القاعدة الاستراتيجية والإطار التخطيطي.

وفي هذه النقطة يجب أن نفرق بين أمرين؛ المسار العام للقناة والذي يمثل القاعدة الإستراتيجية والإطار التخطيطي، والمسار الفرعي الذي يخدم المسار العام، أو ما نسميه التكافؤ بين معطيات البنية/ المسار العام وتشكلات التمثيل/ المسار الفرعي.

والتشكلات التمثيلية في القناة ستلاحظ أن كلاً منها يحمل بنية مستقلة عن الأخرى، في حين إن المفترض أن يتشاركوا في البنية وأن يختلفوا في التمثيل، لا أن يختلفوا في البنية والتمثيل.

وهذا المسار يؤكد على أن القناة الثقافية لا تملك قاعدة استراتيجية وأنها تسير وفق مزاجية فردية أو اجتهاد فردي وكلاهما في نهاية المطاف لا يحقق أي ثراء ثقافي أو قيمة تغيرية أو إضافية، لأن فائدة الإستراتيجية إضافة إلى أنها تقود التنمية وتضبط مسارها، فهي أيضاً تحمي المشروع حامل التنمية من المزاجية والاجتهاد الفرديين، كما تحميه من استغلال الأفراد له، وبذلك يصبح الفرد هو خادم للمشروع الثقافي وليس المشروع الثقافي هو خادم الفرد.

كما أن وجود قاعدة إستراتيجية لأي مشروع ثقافي تحميه من الفساد الإداري والفساد الثقافي لأنها تحمل نظماً للمساءلة والعقاب.

ولو آمنا بمضمون ما تقتضيه مواصفات المشروع الثقافي أي جاهزيّة الإستراتيجية والتخطيط، لمَا قبلنا ما لمّح به القاضي من أن القناة الثقافية تعتمد في نموها على فوضى التخطيط وعشوائية الصواب والخطأ.

وإن كان القاضي يرى أن العشوائية والفوضى هي مصدر إغنائي للقناة، فأنا أراى أنها دليل على غياب الإستراتيجية.

* كما أن التراكمية التي لمّح لها القاضي لا تتضمن دلالة التطور، فالتراكمية تحدث بتقادم الخبرة، في حين أن التطور ينتج عبر تجديد التجربة الذي لا يشترط توفر اكتمال الزمن بل يشترط ضرورية الاقتضاء، والتراكمية لا تنتج بالضرورة تغير. في حين أن التطور يؤدي إلى التغير، التراكمية لا تشترط المهارة والحرفية التقنيتين في حين أن التطور يشترطهما لتحقيق التغير أو التعديل أو الإضافة.

إذن الثقافية لا تشترط التراكمية لتنتج إنجازاً بل تحتاج إلى مهارة وحرفية وثقافة لصناعة المنتج الثقافي الإعلامي وتسويقه واستثماره.

وبما أن القناة الثقافية لا تملك من يملك تلك الطاقات والقدرات والمهارات المهنية الاحترافية، فلا يضر أن نستورد خبراء في صناعة الإعلام من دول عربية أو أجنبية يشرفون على القناة وأن يصمموا لها إستراتيجية إن كانت تفتقد ذلك، لأن القناة هي مشروع استثماري ثقافي فلماذا لا نتعامل معه وفق هذه الزاوية لنضمن جودة وكفاءة المنتَج.

واستيراد خبراء الإعلام أراه أفضل وأنفع من أن تفتح القناة أبوابها لكل عابر سبيل ولكل من يملك ربع موهبة، أو الهواة المبتدئين الذي يحاربون البطالة عبر القناة.

أنا لست ضدّ الكوادر الشابة الموهوبة والمبدعة بل معها، لكني ضد أن تعطى الفرصة لمن لا يستحقها على حساب من يستحقها، وحتى لا يُدخل الإعلام المرئي كل من هبّ ودبّ لأن هذه الفوضوية تمنع التحكم في مهارة وحرفية مهنة صناعة المنتج الثقافي وبالتالي على جودة القناة، فالجودة ليست محصورة في البرامج بل الأهم في الكوادر خيراتها وثقافاتها ومهاراتها وحرفية مهنيتها ومع كل ذلك قدرتها على صناعة الثقافة على مستوى الإضافة والتغير وتسويقها واستثمارها في إنتاج إنجاز آخر وهذه هي «الدورة التنموية».

والمهارة والحرفية المهنية في المجال الإعلامي وخاصة المرئي لا تتحقق بالكمية؛ لأن الكميّة دلالة تراكمية، بل تعتمد على الكيفيّة لأن الكيفية دلالة تطوريّة.

هل عرفت الآن يا أستاذ حمد لماذا تُثير الثقافية غضب الكثير من المثقفين؟

أعتقد أن من الموضوعية أن تقوم وزارة الثقافة بتصميم استفتاء بعد مرور سنة على القناة لأخذ رأي المثقفين في جديتها ونفعيتها ولو أثبت الاستفتاء فشل القناة الثقافية، أظن من الأجدر أن تغلق ويستفاد من ميزانيتها في دعم المشاريع الثقافية التي تقف متأرجحة على قدم واحدة ولا تستطيع السير، أتمنى ذلك.

ولا أتمنى أن يستمر منطق فشلنا كما يرى القاضي، بقاء الموجود كما هو موجود حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.

وأخيراً: رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب.

جدة seham_h_a@hotmail.com
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة