يقول فقيه الفلسفة الدكتور(طه عبدالرحمن): «إن ابن تيمية كان سباقاً إلى ما استقر عليه المناطقة المحدثون في تعريف المنطق إذ عرفوه بأنه علم اللزوم، كما كان متمكناً من معرفة الخصائص الأساسية التي أثبتها هؤلاء القوم لعلاقة اللزوم» انظر (تجديد المنهج في تقويم التراث ص 351) وفي كتابه (التكوثر العقلي ص88) يعرف المنطق بأنه: «علم يبحث في قوانين اللزوم» ويؤكد طه عبدالرحمن وهو أستاذ المنطق الشهير أن «كل قول طبيعي يحمل إمكانات لزومية مختلفة».
ابن تيمية قدس الله روحه ونور ضريحه حاز قصب السبق على سدنة المنطق الحديث في مساق العلائق اللزومية التي يتمركز حولها النص التيمي ولذا فمبدأ التلازم لديه بكامل حمولته وبحسبه البنية التحتية لكافة العلوم فإنه يحظى بنفوذ لا تفتأ تتصاعد محوريته في سياق بناء الدليل حيث ظل ولا يزال محتفظا بحضور جوهري لافت في مجال إغناء المداليل واستكناه أسرار المعرفة وتعقيل الخواطر الدائرة في محيط الوعي وترشيد مغزاها الوظيفي.
اللزوم يمثل جوهر العقل إذ العقل ينهض عمله على أولوية إدراك المعطيات أولاً، ومن ثم إدراك البعد العلائقي الحاكم عليها ثانياً إذ إن العلاقة بين المعطيات لا تخرج عن ذلك البعد الثلاثي: إما تلازم إيجابي (اقتضاء) أو تلازم سلبي (تناقض) أو عدم تلازم (انفكاك).
اللازم والملزوم دائرتان متقاطعتان يستحيل فك الآصرة الرابطة بينهما في تلك العلاقة اللزومية التي كافة العمليات العقلية التي تفرز ضروب العلوم مبنية عليها فهي قنطرة محورية يمر عبرها السالك المعرفي. وليس ثمة ملزوم أي دليل إلا وثمة لازم - وللازمه لازم وهلم جرا- أي مدلول ملاصق له يجاريه كظله يجري على إثره ويشكل بإزائه منحيي المعادلة العلائقية القائمة على ضرورة التلازم فكل منهما يساهم في نمو الآخر، ثمة معاصرة، اقتران، الدال هنا يمارس الهداية صوب المدلول ويقنن المسالك النافذة نحوه «وكل ما كان مستلزما لغيره فإنه يمكن أن يستدل به عليه» (الرد على المنطقيين 2-49).
أما على الضفة الأخرى فثمة مناف يتحرك على نحو ضدي فهو معاكس لمساره، مشاكس لوجوده، لا ينفك عن مشاغبته فالاهتداء إليه مرهون بثبوت ملزومة، أي تموضعه على نحو من الأنحاء، كما أن انتفاء لازمه وانعدام فاعليته، وجوده في طي العدم، تمدُّده وجوديا برّانيّة إطار الوجود، ليس إلا آية برهانية شديدة الألق على انتفائه، أي هذا الملزوم، إن دلالة وجوده ينمّ عنها انتفاء منافيه، أي إقصاء نقيضه الذي يشكل بزوغ وجوده - أي هذا المنافي - سمة تشي بانتفائه.
وهكذا فنحن نستدل على ثبوت الشيء بحسبه ملزوماً بثبوت لازمه الذي انتفاء تموقعه ليس إلا برهانا ناطقا بأن الملزوم هنا محكوم بذلك الضرب من الوجود العدمي.
واللزوم هنا ذا بعدين :منطقي يجري استيحاؤوه على ضوء الربط العلائقي بين النتائج ومقدماتها ويلج في دائرته القياسان الشمولي والتمثيلي، ولزوم واقعي يتجسد في ذلك التلازم المتمثل بين الآية كعلامة وأمارة والملزوم حيث تنمّ عنه وهو بدوره يشي بها.
طبعاً اللزوم المقصود عند المناطقة هو اللزوم العقلي -وتارة يسمونه اللزوم الذهني- لا العرفي الذي لا يحكم به العقل إلا بعد معاينة المتعين وتكرر ملاحظة اللزوم فيه دون أن يكون لدى العقل ما يقتضي هذا اللزوم.
وقد تطرق مراراً ابن تيمية إلى مقتضى الدلالة الالتزامية وجلى دورها الأساسي في بناء الدليل وأنها تتبوأ مركز الصدارة في قائمة الأولويات في هذا المساق ولذا فهو لا ينفك مقرراً أن: «الحقيقة المعتبرة في كل برهان ودليل في العالم هو اللزوم فمن عرف أن هذا لازم لهذه استدل بالملزوم على اللازم» (الرد على المنطقيين 2-9).
ويقول أيضا: «بأي صورة ذهنية أو لفظية (يقصد أنها سواء كانت بصورة يونانية منطقية أو بصورة إسلامية، وقد آثرت الإشارة إلى هذا المعنى هنا لتأكيد ما مضى تقريره آنفا من أن ابن تيمية لا يرفض الطريق المنطقي بكافة مكوناته) صُوّر الدليل فحقيقته واحدة وأن ما يعتبر دليلا هو كونه مستلزما للحكم لازما للمحكوم عليه فهذا من جهة دلالته سواء صور بقياس شمول وتمثيل أم لم يصور كذلك وهذا أمر يعقله القلب وإن لم يعبر عنه الإنسان ولهذا كانت أذهان بني آدم تستدل بالأدلة على المدلولات وإن لم يعبروا عن ذلك بالعبارات المبينة لما في نفوسهم وقد يعبرون بعبارات مبينة لمعانيهم وإن لم يسلكوا اصطلاح فئة معينة. فالعلم بذلك اللزوم لابد أن يكون بينا بنفسه أو بدليل آخر» (الرد على المنطقيين ص10).
وإذا كان المناطقة المشاءون قد حصروا الأدلة في ثلاثة طرق فقط (القياس والاستقراء والمثيل) فإن ابن تيمية يعزو كافة الأدلة وبمتباين صورها بما فيها تلك الطرق الثلاثة إلى قالب واحد وهو استلزام الدليل للمدلول حيث يقول: «وأما تقسيمهم (يقصد المناطقة) إلى الأنواع الثلاثة فكلها تعود إلى ما ذكروه من استلزام الدليل للمدلول»انظر(الرد على المنطقيين 1-357).
ويسرد أمثلة لذلك الضرب من التلازم الواقعي بقوله: «الآية هي العلامة وهي تستلزم بنفسها لما هي آية عليه من غير توسط حد أوسط ينتظم به قياس مشتمل على مقدمة كلية كالشعاع فإنه آية للشمس والدخان للنار وإن لم ينعقد في النفس قياس بل العقل يعلم تلازمهما بنفسه فيعلم من ثبوت الآية ثبوت لازمها والعلم بالتلازم قد يكون فطريا وقد لا يكون» (الفتاوى 1-74). إذاً هو يقرر أن اللزوم بواقعيته أو منطقيته يتجلى بمظاهر شتى وأطر متلونة مودعة في ذوات الأناسي حيث يجري تعاطيها على نحو فطري.
وهذا اللزوم ينسحب أيضاً على الاستدلال على وجود الذات الإلهية حيث يقول هنا: «وقد تكون الآية تستلزم وجود المدلول من غير عكس كآيات الخالق سبحانه وتعالى فإنه يلزم من وجودها وجوده، ولا يلزم من وجوده وجودها، وهي كلها آيات دالة على نفسه المقدسة» (الرد على المنطقيين ص 104، 95).
والدليل هنا لا ينعكس في حقل الإلهيات فالممكنات يلزم من وجودها وجود الواجب الذي لا يلزم من وجوده وجود الممكن؛ لأن انعدام الملزوم لا يستلزم انعدام لازمه، وأيضاً يحتمل أن يكون لازما لملزوم آخر. وبالمثال يتضح المقال ولله المثل الأعلى فمثلاً: إضاءة المصباح الكهربائي يلزم جراءها انتشار الضوء لكن عدم إضاءته لا يلزم منه انعدام الضوء لاحتمال انبعاث الضوء من مصدر ضوئي آخر. ومن هنا يقرر ابن تيمية أن :»الدليل أبدا يستلزم المدلول عليه ويجب طرده ولا يجب عكسه» (الدرء1-22).
وخلاصة القراءة تلك أن ابن تيمية يحفل بالتلازم فهو في منظوره أحد مكونات السواء التفكيري الذي على ضوئه تُبنى قوانين العقل الجوهرية، حتى قوانين العقل عند(أرسطو) (قانون الهوية، قانون التناقض، قانون الثالث المرفوع) كلها مبنية على مفهوم اللزوم.
Abdalla_2015@hotmail.com
بريدة