فاتحة:
حين كنت أشتغلُ على مقالتي السابقة (حزن الغذامي ماذا يخفي وراءه؟) لم يدرْ في خلدي أنّ أحداً سيفهمها على أنها مدحةٌ له أو ذيادٌ عن حماه، ولم أكنْ أتوقع أنها ستؤذي أناساً طالما أوهموني بنقاء ضمائرهم وسلامة صدورهم، وما كنتُ أقدِّر أنّ آخرين سيمرون بها دون أن يفهموا معانيها... لكنني بعد نشر المقالة، ووصولها إلى القُرَّاء، واطلاعي على عشرات الردود والتعقيبات، وجدت ذلك كله حقا، ومثله معه أيضا، وأحطت علما بأبعاد أخرى لحزن الغذامي وأحزاننا، فرأيت أن أثني بهذه المقالة؛ رغبة في معالجة أعمق.
خطيئة التلقي:
ينبغي أن نقرر أن مشكلتنا الأكبر تكمن في التلقي، وأن تعبيرنا المأزوم أبدا لا يكشف عن شيء قدر كشفه عن عجزنا وخمولنا.
نملك - نحن العرب - قدرة فائقة على إطلاق الأحكام دون عمليات إجرائية، وعلى التموقف قبولا أو رفضا دون منطلق منهجي واضح، ولستُ مبالغا حين أقول إن فشلنا في إنتاج أحكام دقيقة، أو إحراز مواقف علمية مقنعة، يعود في الأصل إلى غياب المنهج، ومن ثم عملية الإجراء، أو حضور أحدهما في ظل غياب الآخر؛ لذلك يجلل أحكامنا صخب لا يفضي في الغالب إلى شيء، تماما كما العربة الفارغة، والأغرب في هذا السياق أن دفاعنا عن أحكامنا المهترئة، وذيادنا المستميت عن حياض إجرائنا البائس أشد وأقوى من ذياد أصحاب النظر العلمي والتدبر المستميت، ويكاد يكون هذا الوصف ملازما لسياقاتنا الثقافية المتعددة، دون أن أستثني منها سياقا واحدا.
التلقي الذي أحاط بمقالتي السابقة مثال على هذه المشكلة التي نعاني منها؛ فبعد أن تدبَّرتُ التعليقات على المقالة من خلال موقع الجريدة، ورسائل البريد الشبكي، والهاتف الجوال، وجدتها تنقسم ثلاثة أقسام:
- تلقيها بوصفها مدحا للغذامي (وهي تبعا لهذا التلقي مقالة احتفائية لا تحمل قيمة مستمرة).
- تلقيها بوصفها دفاعا عنه (فهي إذن متأسسة على رد فعل خاص).
- تلقيها بوصفها قراءة للواقعة الثقافية (وهي تبعا لهذا القسم مقالة نقدية لعلاقة السياقات بعضها ببعض في الساحة الثقافية).
وكما هي العادة استأثر القسم الأول بالنصيب الأكبر من التعليقات التي تلقيتها، حتى إن بعضهم شكر لي أن أحييت الغذامي من جديد!! وبعضهم الآخر أثنى على كلمات الوفاء التي قلتها في حقه!! وجميع هذه التعليقات تعطي مثالا كبيرا على عجزنا عن إدارة عملية التلقي بوعي تام، وإذا كان هذا حال التلقي مع مقالة موجزة كمقالتي السابقة فكيف سيكون الحال مع كتاب مختلف ككتب الغذامي كلها؟!
لقد تأسست مقالتي السابقة على بنائية تختلف تماما عن بنائية المديحة والحماسة، وعما يندرج تحتهما من تصنيفات تحيل إلى الوجداني أكثر من الفكري، وإلى المشاعري أكثر من الرؤيوي، فهي تفترض منذ الكلمة الأولى أن الغذامي حزين، وتنطلق في سبيل إثبات هذه الفرضية من قراءة عتباتية (سريعة) لصور الغذامي، ومقاطع صوته، وعناوين مقالاته، واستهلالات محاضراته، إضافة إلى مضامين لقاءاته التي يمكن النظر إليها على أنها نص مواز خارجي، هذا إذا أجاز لي القراء الكرام أن أطلق على الغذامي - الشخصية لا الشخص - صفة النص في هذه الحالة.
ثم بعد أن أثبتت المقالة الفرضية بإيجاز انتقلت من الإجابة عن سؤالي (ماذا) و(كيف) إلى الإجابة عن سؤال (لماذا)، وفي سياق الإجابة عن السؤال الأخير تمت الإشارة إلى تعارض سياق الغذامي مع السياقات التي تحيط به، وهو ما يمكن أن نتمثله من خلال ثنائيات متعددة تجذر التفاوت الكبير بينهم، وتسوغ مقولة الغربة التي أشرت إليها: (الغذامي متغير وهم ثابتون - الغذامي نام وهم ساكنون - الغذامي متجاوز وهم عاجزون - الغذامي تأصيلي وهم توصيليون...إلخ)، وهذا الاختلاف المستمر هو ما جعل هذه السياقات تتحالف - رغم المسافة الكبيرة التي تفصل بين بعضها فكريا واجتماعيا - على محاصرة الغذامي وخنقه حتى الموت، حتى إن ناقدا أدبيا إسلاميا كتب ذات يوم يمدح ناقدا حداثيا، وحين تدبرت شأن الوئام الذي حل فجأة محل الخصام وجدت أن الأخير قد شن هجوما كاسحا على الغذامي، استغله الأول لمصلحته، وعده جميلا يستحق المصالحة.
أمام هذه الصورة ينكشف زيف الخطاب الثقافي، ويتداعى بنيان النخبوية، ويصير المثقفان الكبيران أسيرين لإحدى المقولات الأنساقية الفاعلة في ثقافتنا المحلية: «أنا وأخوي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب».
حين نتأمل موقف السياقات المختلفة من الغذامي نجدها - من حيث الجملة - تمثل هذه الصورة المُجَخِيَّة، فبين كل طرفين متباعدين نقطة يلتقيان فيها لضرب الغذامي (الإسلامي والليبرالي من جهة، والشعبوي والنخبوي من جهة أخرى...)، لا فرق بين هذه المستويات المتباينة من حيث تموقفها من الغذامي، ولا من حيث طرائق تعبيرها عن هذا التموقف؛ فكلها تتموقف منه سلبا، وكلها تهاجم شخصه وشخصيته ومشروعه، غير أن كل مستوى يحتفظ بحقه في استخدام أسلحته اللغوية، ورصيده الثقافي في هذه الحرب... وسأجلي هذه الصورة أكثر وأكثر من خلال الأمثلة الآتية:
ينظر بعض الإسلاميين إلى الغذامي على أنه علماني يتبنى مناهج الإلحاد ومقولات المبادئ الهدامة، ويصفونه - شفويا - بالحاقد على الدين والمجتمع، وفي الجهة الأخرى ينظر إليه بعض الليبراليين على أنه واعظ أو خطيب جامع أو سلفي منقلب على رؤى الحداثة، ومن يتصفح الشبكة الليبرالية يجد في هذا السياق عجبا!
حين ننتقل إلى ثنائية خطابية أخرى أكثر تباينا على مستوى البناء سنجد الشيء نفسه وربما أكبر، فالشعبوي (أعني به المستوى العامي من الخطاب) يصف الغذامي بالمتأمرك المتآمر المستغرب، ويعول كثيرا على حلقاته المقالية السبع في رواية (بنات الرياض)، والنخبوي يصفه بالخيانة الوطنية، وبالانقلاب على المبادئ الرئيسة للانتماء!!
وإن استظهرنا أكثر وأكثر فسنجد في ثنائية تقبع تحت الخطاب امتدادا معكوسا لهذه الصورة؛ فخصوم الغذامي الأصليون (المستمرون في الزمن) لا يكفون عن وصفه بالعجوز الهرم المتناقض، وأصدقاؤه الذين انقلبوا عليه - أو انقلب عليهم - ما فتئوا يصفونه بالمتناقض، المصاب بعقدة الأنا وعشق الأضواء! وهنا نلحظ تقاربا كبيرا بين أطراف هذه الثنائية، فإذا كان الطرف الأول يستهدف عقل الغذامي في الإشارة إلى كبره وتخريفه، فإن الطرف الثاني يستهدف نفسيته حين يشير إلى كبره وإعجابه بنفسه؛ وهنا يحل القرب بين الطرفين المتكارهين محل البُعد، وتصبح المسافة الدلالية بينهما بقدر المسافة الشكلية بين كلمتي (كِبَر) و(كِبْر)!!
إذن المتناقضان في الخطاب - رؤية أو بناء - اتفقا على التموقف من الغذامي، ولم يكتفيا بهذا فحسب، وإنما ذهبا بعيدا في اختيار نقطة التموقف، وصيغته، وغايته أيضا، فالذي يصفه بعبد الشيطان وبصفات الإلحاد يريد إخراجه من الدين ثم من المجتمع، ويتطلع صادقا إلى تحكيم شرع الله فيه، والذي يصفه بالواعظ والسلفي يريد إخراجه من دائرة الليبرالية، ثم من تاريخ التنوير الثقافي على الصعيد المحلي إلى حيث الجمود والترمد.
في كلا الخطابين يحكم على الغذامي بالطرد، وفي كليهما يقتل... قد يختلف زمن القتل، أو دافعه، أو طريقته، أو الأداة المستخدمة في الجريمة، لكن النهاية تقول إن هناك قاتلين ومقتولا واحدا، وهذا ما عبرت عنه في المقالة السابقة بالتحالف.
طرد الغذامي، والاستمرار في قتله ثقافيا، جعله يشعر بالغربة، والغربة مظنة الحزن، والحزن يفتح بوابات الحنين إلى الماضي، ويشعل الرغبة في التطلع إلى أعلى، وإذن فمشاهد الحزن، التي تجلل صوره وأصواته ومقالاته، نابعة - في الأصل - من حراكنا الثقافي المجلل بأورام سرطانية ما لها من آخر، وانطلاقا من هذا الأساس كتبت عن الغذامي، موقنا بأن الكتابة عنه كتابة بالضرورة عنا؛ كونه النقطة الوحيدة التي تلتقي فيها السياقات المختلفة التقاء الغريب مع الغريب في شارع ضيق من شوارع المنفى، وليس لدي شك في أن الكشف عن حزنه سيجلي لنا طرفا من الفساد الذي ران طويلا على صدر ساحتنا الثقافية، وساهم في التضييق على صوت حر من أصواتنا، وخطاب نام ومتعدد من خطاباتنا، وحين يسقط هذا المختلف الحر النامي المتعدد - وقد أسقط فعلا - فإن الوجوه والأصوات ستتشابه، وسيفقد الزمن تبعا لذلك فاعليته، وسنضطر - وقد اضطررنا بالفعل - إلى أن نتكلف الاختلاف تكلفا، ليجدنا كل من يبحث عن حقيقتنا وهما... سرابا بقيعة... أو حلما يدمى!!
الاستقلالية الفكرية، ثم التعدد وقبول الاختلاف في خطابنا الثقافي، كذبتان لم يستطع كشفهما إلا الغذامي؛ لأنه الوحيد الذي ظل متعاليا على لعب التحصن والمكاسبية، والوحيد الذي كان مفاجئا وصادما، وأقدر أن حرصنا على وجود قدر يسير منهما على مسرحنا الثقافي كفيل بإزالة حزن الغذامي وأحزان كل الغذامنة الآخرين.
هذا ما أردته يا سادة!!
***
ملحوظة: ثمة قراءة متكاملة بهذا العنوان (حزن الغذامي بوصفه واقعة ثقافية) أعدُّها الآن لتلقى في أحد الملتقيات الثقافية، وسأهديها بعد اكتمالها - بإذن الله - إلى هذه المجلة الجميلة.
alrafai16@hotmail.com
الرياض