قراءة - سعد بن محارب المحارب
تبقى الكتابة عن منتديات الإنترنت في السعودية مسألة تكتنفها صعوبات متنوعة، أهمها إيجاد سبل لبلوغ مصادر المعلومات، ففي غالب الأحوال لا يمكن التعرف على ملاّك المنتديات، فضلاً عن أبرز كتّابها ذوي الأسماء المستعارة. وفي الحالات القليلة التي تتمكّن فيها من التعرف على الأشخاص، فهم يعرضون عن الحديث في الأمر، وفي الحالات الأقل التي يتحدثون فيها، تسمع أكثر من رواية، وفي حالات نادرة يجيز الشخص نسبة حديثه إليه. هذا الواقع يجعل كفاءة الكتابة عن المنتديات معقودة بمهارة المتابعة، وعمق التحليل، وهي نتيجة تخفض على نحو لافت من عدد، وقيمة، أغلب ما يكتب عن المنتديات، وتحصره في العناية بالمضمون. وتجدر هنا الإشادة بمبادرة أقدم المنتديات السعودية، منتدى الإقلاع، حيث وفّر للقراء بمناسبة مرور عشرة أعوام على إنشائه، خلفية معلوماتية مميزة عن مراحل نمو وتطور المنتدى، عبر موضوع موسع نشره أحد أعضائه نهاية العام الماضي.
هذا التقديم لا يعني امتناع الكتابة عن هذه الظاهرة الأساسية في مشهد الرأي العام المحلي، وإنما تخفيض سقف التوقعات فيما يتعلق بالمعلومات الموثقة، والاستنتاجات المختبرة، ولعل في هذا كثير من العذر الذي يستغفر به عن قلة، وتواضع، محاولات الكتابة التي تتناول ظاهرة المنتديات، من حيث الوظيفة، والنشأة، والشخصيات الفاعلة، وجماعات الضغط. ويرتفع مستوى الصعوبات حين يكون الخيار هو الكتابة عن المنتديات السياسية. فبالإضافة إلى حالة التواري التي تفرضها طبيعة المنتديات، فإن الحديث السياسي هنا له حساسيته الخاصة. إذ لا تتوفر في البلاد أي منابر للحديث العام في الشأن السياسي، ما خلا وسائل الإعلام، وهي في الداخل، كما في المحيط، تتحرك ضمن تفاهم يجعل السقف منخفضاً، ومن هنا تحديداً اكتسبت منتديات الإنترنت وخصوصاً في سنوات نشأتها الأولى أهمية استثنائية لرصد وتحليل إشارات تدل على اتجاهات ضمن الرأي العام.
في مارس من عام 1997م، وقبيل دخول الإنترنت إلى السعودية، بأشهر معدودات، ولدت منتديات الساحات، وصدّرت من ساحتها السياسية خطاباً مختلفاً عن الخطاب الإعلامي المحلي. أتى بقراءة ثانية للمشهد السعودي، حملت رؤية غير تيار إسلامي، قبل أن تتسلسل منتديات الإسلاميين. وكان مجرد بروز قراءة ثالثة، تحتفظ بمسافة عن الرسمي، وتخالف طرح التيارات الإسلامية، فرصة نادرة -في حينها- لرؤية الأشياء بطريقة مختلفة.
مدخل
يمثل مصطلح «الليبرالية» حالة إشكالية، لا تخلو من التعقيد، في السعودية. ولا يكاد نقاش يثار حول هذا المصطلح، اليوم وهنا، إلا وتشتبك الآراء في جدل إلى العقم أقرب، في ظل غياب تحرير دقيق للمصطلح، ولا شيء في هذه المسألة الغامضة يملك وضوح الفكرة المكررة؛ إن الليبرالية في تراكمها الفلسفي، وتطبيقاتها الغربية، ليست هي المقصودة بالليبرالية في السعودية. ولعله يكفي هنا الاكتفاء بالتوصيف التالي: ثمة مجموعات غير منتظمة من المثقفين، والإعلاميين، هنا، بدأت منذ سنوات حالة تراص خلف رغبة في التحديث، وهي رغبة اتسمت بخلوها من تبني رؤى الإسلام السياسي، وحرصها على التزام إطار الدولة القائمة. ورغم أن هذه المجموعات لم تبلور حتى اللحظة رؤية محددة لما تنشده، وهي بذلك لا تملك مشروعاً يمكن تمييزه عما سواه، إلا أن بعض المتابعين يختار أن يصفهم بالتيار الليبرالي. وليس هذا المقام ملائماً للتساؤل حول دقة التوصيف، واسترجاع الجدليات الثقافية في صحته. إلا أن هذا الإطار العام ضرورة كي يميز القارئ غير المتابع لهذه المنتديات معنى تعبير «المنتديات الليبرالية». فهي مجموعة من المنتديات التي نشأت على شبكة الإنترنت، وعنيت في ندوتها الرئيسة بطرح موضوعات تتعلق بالشأن العام في السعودية، وغلب على كتابات المشاركين فيها الرؤية الليبرالية، بالمعنى المشار إليه آنفاً. وهذه الكتابة هي محاولة نحو استرجاع شيء من سيرة هذه المنتديات، واستخلاص ما أمكن من تجاربها، سواء من قضى منهم نحبه، أو من ينتظر.
البداية
يقترح بعض المتابعين منتدى «الصحفي الإلكتروني» التابع لموقع صحيفة الرياض، على أنه منطلق المنتديات الليبرالية في السعودية، والذي أطلق في عام 2001م، أي بعد أول ظهور للصحيفة العريقة على شبكة الإنترنت بحوالي ثلاث سنوات. ويقترح غيرهم البدء من منتدى «ندوة إيلاف» التابع لموقع الصحيفة الإلكترونية الأقدم محليا، محتجين بأن الموقع الأول لا يمثل منتدى إلكتروني إلا من حيث توفيره مساحة للقراء للتعبير عن الرأي. وفي كل حال شهدت بدايات 2002م إغلاق هذين الموقعين على التوالي. وفي ربيع العام الماضي تحدث ناشر إيلاف عن الأمر إلى صحيفة اليوم، وذهب إلى أن حجب موقع الصحيفة كان بسبب «تجاوزات الأعضاء» في ندوة إيلاف. ربما تمنحنا هذه الإشارة تفسيراً لإغلاق الموقعين، ولما تلاهما من تطور.
البداية الثانية
المرحلة الثانية في عمر المنتديات الليبرالية، تمثل البداية الفعلية لها، إذ كانت المرحلة الأولى أقرب لإرهاصات سبقت أول انطلاقة جادة. هذه الانطلاقة أتت بظهور أول منتدى ليبرالي مستقل عن المؤسسات الإعلامية، وهو منتدى «طوى»، الذي أبصر النور في أغسطس من عام 2002م. وشكّل هذا المنتدى نقلة استثنائية في المنتديات السياسية، فقد عرفت منتديات الإسلام السياسي -وخصوصاً «الساحة العربية»- المنفردة في تلك اللحظة منافساً قوياً للمرة الأولى، تسبب لها في إرباك ظاهر في مواجهة المختلف. وقد استفاد «طوى» من اللحظة الكثيفة التي صادفت ولادته، أو إن شئت أنتجت ظهوره، فهو بدأ في المرحلة البرزخية بين التفجيرات في نيويورك (سبتمبر 2001م)، ونظيرتها في الرياض (مايو 2003م). وهي أحداث أفرزت جملة من المراجعات والتحولات المحلية، العميقة والمؤثرة، على امتداد السنوات الأخيرة، لكن لحظاتها الأولى كانت الأكثر اضطراباً بما أتاح للمنتدى حضوراً أشد زخماً مما لو جاء في ظروف أدنى تأثيراً.
وحيث لم ينهض بعد مشروع بحثي جاد لتحليل الخطاب في المنتديات، ومع تعذر حصر ما يكتب فيها، فإن الحديث هنا عن سمات عامة لخطاب غالب، ستجد شواهد تستثنى منه، لكنها لا تؤسس قاعدة بديلة.
برزت السمات العامة للخطاب الغالب في «طوى» في أربعة وجوه. الأول هو تقديم قراءة ثالثة للراهن السياسي، والاجتماعي، تختلف عن قراءة المؤسسة الرسمية، أو خطاب الإسلاميين، المتفاوت بينهم، والمنثور في المنتديات السياسية الإسلامية. والثاني هو إحالة ما يوصف محلياً بالثوابت الدينية من موضع للمزايدة في التمسك، والتشهير في التخلي، إلى مسألة قابلة للنقاش والمراجعة. والثالث هو مناوءة الإسلاميين، بمختلف اتجاهاتهم. والرابع دعم الانفتاح الاجتماعي، وخصوصاً ما يندرج تحت عنوان «حقوق المرأة». وهذا بدوره مصطلح إشكالي آخر، فهمه لا يخلو من تعقيد، في السعودية.
غير أن مسألة «مناوءة الإسلاميين» أخذت مع تراكم التجربة تتقدم لتكون الوجه الأبرز للمنتدى، في ردة فعل تبعت إلحاح منتديات الإسلاميين على ممارسة أكبر قدر مستطاع من التشهير والمزايدة على «طوى». وفي النهاية أفضى هذا الواقع إلى أن يبدو المنتدى الليبرالي مجرد معارضة لطرح الإسلاميين، بما لخصه في ردة فعل اعتراضية، لا ترقى إلى مستوى رؤية تقدم لمشروع بديل. وقيمة هذه الملاحظات تزداد أهمية إذ انتبه المتابع أنها شكلت طابعاً للخطاب الليبرالي في المنتديات اللاحقة.
الفصل الأخير من حياة «طوى» تكتنف روايته جملة من الصعوبات، لكن الأمر الذي يبدو مؤكداً، أن الجهة المنظمة اضطرت إلى حجبه، ثم صدر توجيه رسمي بإغلاقه في مايو من عام 2004م، بعد أن ظهرت في المنتدى كتابات في المسألة الدينية جاوزت النقاش والمراجعة إلى التعدي والتجديف. ويمكن أن تضيف من الأسباب غير المتفق عليها، الاختلاف بين القائمين على المنتدى في درجة الحرية المقبولة، وبروز ضعف القدرة الفنية بما ساهم في تعثر الوصول إليه.
وفي كل حال، بقي «طوى» أكثر المنتديات الليبرالية إثارة، وربما تأثيراً، فقد قدم تجربة أولى، نسختها ولو بشيء من التحوير جميع التجارب التالية. وحتى لحظة مجهولة قادمة تحمل البداية الثالثة للمنتديات الليبرالية، سيبقى «طوى» مقياساً لتقييم المنتديات التي أتت بعده.
إعادة النظر
كانت مرحلة التضييق على «طوى»، بالإغراق والحجب، ثم الإغلاق، لحظة عصيبة للمعنيين بالمنتديات الليبرالية، والتجربة القاسية أفرزت جملة من الدروس، كان من أهمها ضرورة ترشيد طرح المنتديات الليبرالية بما لا يسهّل استهدافها من خلال إبراز وتضخيم مجازفات هامشية بالنسبة إلى خطابها العام. وهذا هو طابع المرحلة الثالثة للمنتديات الليبرالية، وهي تبدأ بنشوء منتدى دار الندوة، في يناير من عام 2004م، وهذا المنتدى جاء بديلاً لمنتدى «الجادة» ضمن شبكة الإقلاع. غير أن القائمين على أمر الإقلاع عدلوا خلال أسابيع عن القرار، وأعادوا إطلاق منتدى الجادة. بينما استمر «دار الندوة» منتدى مستقل.
المنتدى الجديد، حمل الكثير من ملامح «طوى» على مستوى المضمون، إلا أنه أضاف بعداً جديداً، هو الاصطفاف خلف المشروع الإصلاحي للملك عبدالله بن عبدالعزيز –ولي العهد آنذاك-. وهو الأمر الذي منح المنتدى هامش حركة أكبر من سابقه، وساهم في إحراج المزايدة الدينية عليه، وفي هذا الإطار رفع المنتدى شعار «الوطن أولاً» بما أظهره خطاباً يتجاوز القدرة على المنافسة إلى المقدرة على المزايدة الوطنية على الإسلاميين. إلى ذلك اتسم الطرح العام فيه بدرجة أكثر انضباطاً حيال التعامل مع المسألة الدينية، كما فاق المنتدى سابقه بصورة واضحة على مستوى الدعم التقني، وإن لم يمنع هذا نجاح أكثر من اختراق للموقع.
غياب «دار الندوة» قصة أخرى غير مكتملة، في هذه السيرة، والأمر الثابت أن المنتدى الليبرالي الأقل تعرضاً للحجب، توقف لصيانة دورية في نهاية عام 2005م، لكن هذا الإجراء المؤقت لم ينته أبداً.
تجدر الإضافة هنا، أن هذه المرحلة شهدت ظهور أكثر من منتدى ليبرالي، ومع أنها لم تبلغ درجة التعدد الموازي لمنتديات الإسلاميين، إلا أنها حالة نادرة في تاريخ المنتديات الليبرالية. ظهرت أكثر من تجربة في الوقت نفسه، لكن أي من هذه التجارب لم تكن ذات حضور مؤثر، وإن تفاوتت فيما بينها، وعرف بعضها لحظات توهج عابرة. وأبرز الأسماء هنا منتدى الطومار الذي قدّم خدمة جليلة للمهتمين بالمنتديات الليبرالية تمثلت في ضمه أرشيف «ندوة إيلاف». ومنتدى الحرية الذي اتسم بمحدودية المشاركة، وإن لم يخل من موضوعات مشاكسة. ومرة أخرى توقف هذا المنتدى لأسباب غير معلومة، أو على الأقل غير مؤكدة.
المرحلة الرابعة
تبدأ هذه المرحلة في عام 2006م حيث برز «منتدياتنا» بوصفه المنتدى الليبرالي الرئيس، ورغم أن هذه التجربة لم تكتمل، إلا أنه يمكن تسجيل ثلاث ملاحظات تحت عنوانها. أولاها أنه أول منتدى يقدم نفسه بإعلان واضح بالانتساب إلى الليبرالية، وهو أمر غير مسبوق. وهو ما يحيل إلى تطبيع المصطلح من جهة، وإلى التوقف عن ظاهرة إنكار وجود الليبرالية محلياً، والتحول إلى الجدل في دقة الوصف، أو درجة الاتجاه.
والثانية أن المنتدى الليبرالي الجديد جاء ضمن موقع إلكتروني أوسع تحت اسم «الشبكة الليبرالية»، وهو يضم «جريدة منتدياتنا» كموقع إخباري مصاحب، لكنها حالة مختلفة عن التبعية لمؤسسة إعلامية، كما في المرحلة الأولى، أو الاستقلال بالمنتدى كما في المرحلتين التاليتين.
والثالثة هي التراجع، بالقياس إلى «طوى» و»دار الندوة» في مستوى عمق طرح الرأي والتحليل، مقابل العناية بتقديم الخبر والمعلومة –والإشاعة-. وهي ملاحظة قد تفسّر النقل المتزايد لمقالات من الصحف المحلية، لمجموعة من الكتّاب المعنيين بالشأن الاجتماعي. وهذا المنتدى الذي قيل إنه انتقل إلى إدارة جديدة في عام 2008م، ساهمت في تخفيض سقف طرحه، ورفعت من كفاءته التقنية، توزعت حياته بين الحجب ورفعه، وأسلم الروح في 10-4-2010م، إذ تم إيقاف المنتدى بصفة نهائية ووضع رسالة موجزة، جمعت إلى الإبهام الركاكة اللغوية، ولم تقل أكثر من أن اعتبارا مالياً كان وراء القرار المفاجئ.
خلاصة
شكلت ظاهرة المنتديات الليبرالية السعودية على الإنترنت فرصة مفيدة للتعرف على أصوات ثقافية، ورؤى سياسية واجتماعية، مختلفة، بما قد يساعد على تكوين تصورات أكثر شمولاً عن تعددية الخيارات المحلية. واتسمت هذه المنتديات بشكل عام بالدعوة إلى التحديث والإصلاح، وحثت على انفتاح اجتماعي قاعدته تحسين أوضاع المرأة. ولم تحافظ المنتديات الليبرالية طيلة مسيرتها على شيء مثل مناوءة طرح الإسلاميين. لكنها في التفصيل مرت بمراحل تطور لم تخل من عثرات جعلتها تعيد بناء توقعاتها أكثر من مرة، لنا هنا أن نتذكر أن شروط الكتابة في «ندوة إيلاف» كانت ستة، وفي «منتدياتنا» جاوزت الثلاثين، وهو مؤشر على الاستفادة من الدروس المتكررة.
وحيث إن الكتابة الجيدة تصنع الأسئلة، وهذه الكتابة تحاول أن تكون كذلك، فإن غير سؤال يبرز بعد هذا الطواف في تاريخ المنتديات الليبرالية؛ والسعي لمقاربة الظاهرة، ومنها ما هو حجم ونوع، تأثير هذه المنتديات في المجتمع ومؤسساته. وما هو الحجم الدقيق لما، ومن، تعبر عنهم هذه المنتديات. ثم هل مازالت المنتديات الحوارية على الإنترنت في موقع متقدم محلياً رغم توالي ظهور خيارات تعبير منافسة على الإنترنت.
مصادر:
«للإقلاع ثم للتاريخ: عقد من الإبداع»، (طخ طيخ)، منتديات الإقلاع، 27-12-2009م.
http://vb.eqla3.com-showthread.php?t=540639=
مراحل تطور موقع صحيفة الرياض، 29-12-2009م.
http://www.alriyadh.com-2009-12-29-article485171.html
عثمان العمير، حوار أجرته صحيفة اليوم، 12-4-2009م.
http://www.elaph.com-Web-Oyoon-2009-4-429104.html
كلمة الناشر عن ندوة إيلاف، وشروط الكتابة فيها، منتدى الطومار.
http://tomaar.selfip.com-elaf-kalemah.html