تحية ومحبّة..
أكتبُ عنكَ وفيكَ وإليك بعضاً من خواطري، وقد تابعتُ وَقْعَ محنتكَ الأخيرة التي أتمنَّاها -بإذن الله- إلى زوال، وكنتُ قد أرسلتُ لكَ عبر البريد كتابين في «الأدب الساخر» بعنوان «قهوجيات» كتحية للتعارف.. أما كتبك فهي ومنذ البدء تُتَوِّجُ مكتبتي.
استشعرتُكَ عن بُعْد وقرأتُكَ عن قُرب، وجَعَلْتَني في كل ما خطَّ قلمُك من ذوي قُرباك.. لا سيّما وقد حَبَّبني بشخصك رجلٌ محبّ أديب ثِقة هو الأستاذ عبد الله الناصر.
أحياناً كنتُ أتخيلّك خفيفاً ليّناً سلساً مُستنداً على غَيم عابر، وأحياناً أتصورك صلباً قاسياً تتكئُ على صخرٍ موغلٍ في الأرض مكينِ الجَذْر.
وغالباً ما كان طيفُكَ ممتطياً عَبَقَ أحلامك طائراً محلّقاً ومحوِّماً بجناحين نصف ريشهما من الضنى والانتظار، والنصف الآخر من الشوق والشغف والحنين، وأنت المترحّل الدائم في المقام، والمسافر المقيم في الدواخل، بخطوٍ سار ويسير على نصل صراطٍ يفصل دقيقاً ورهيفاً بين وميض البرق وقصف الرعد، حيث يَهزُّكَ التمرّد عنيفاً وتُثنيكَ عنه هيبةُ الموروث ورهبتُه، وقد أَسَرَكَ على قبولٍ ورضا أريجُ الزهر البرّي، وأسكَنَكَ وشماً على باب «هند» وريف نافذة «رابعة»، فَشَهِدْتَ «لشهرزاد»: بأن كلّ ما لا يؤنَّث لا يُعوَّل عليه!!
وكان مسارك من دون انقطاع بين رفِّ حمامٍ وسرب سيوف، وأنتَ مَنْ أضاء نار الشَجَنِ في الجوانح، وَنَذَرَ نفسَه للصحو الدائم، راصداً ليل الصحراء الساحر في لبّ حَلَكِ المدن، فارشاً رمل الواحات وحكاياها مديداً حتى خَفِيَتْ عنّا الديار والطُلول وتمادى القلبُ في التلفُّت وبناء الحلم، غِبَّ الأيام الملتبسة التي أَجْبَرَت على النواح كل عصيِّ دمع، ودَجَّنَتْ كلَّ رأي مغاير..
أيّها الضاربُ في عمقِ مهوى الحيرة وعلى هواك، محاوراً شتاتنا المزمن.
أيّها الزائر الوفي لمقامات شعراء العرب واضعاً عُشْبَكَ البريّ البريء على أضرحةِ بعضهم، قارئاً عن وعلى أرواحهم «فواتح» أشهر قصائدهم لتأخذكَ حالُ «الماضي» فتنشد «الآتي» وتسلو «الحاضر» وتَشرَعُ بطرح هواجسنا في أوديةٍ غير ذي زرع.. وفي أرضٍ أُرْدِيَتْ فيها الردود وارتدَّ عنها الضوء فَلَيَّلَ ليلُها وانْتَفَتْ أمامها نعمةُ وجدوى البَصَر.. فما أروع سلطان النوم يا صديقي لو استطعنا اختيار أحلامنا في الغفوة... وَظَهَرْتَ لي شريداً «أندلسياً» خيَّم طويلاً في «وادي الحسرات»، وقد تاهَ زمناً كأمير ضليِّل بين الأمر والجمر والخمر، واستيعاب هول هزائم الروح مستعيداً على لوعةٍ موروثة وَقَفات جدودنا «الطلِّيلية»، من عشاقِ المطارح والمضارب المهجورة، وأسياد ترقُّب انبعاث من رحلوا أو ترحَّلوا ليصبحَ الانتظار طقساً، والوهم حقيقةً والغياب مقدساً... هكذا نحن: كُلَّما هَلَّ حبيبٌ بمجيء، وهَمَّ خِلٌّ برواح..
أيّها المغاير بين الرائج والسائد والمألوف..
يا صديقي البعيد: كم تمنّيْتُ عند «الكبائر» أن أكونَ عشبةً «مجهولة» في الصحراء لا تعرف بها أربع مياه الأرض، بعيداً عن أمكنةٍ لا زال فيها «يوسف» في غيابة الجبّ، ويؤتى عند مطلع كل فجرٍ على قميصه بدمٍ كذب!!
يا صديقي الأقرب، كم قرأتُكَ وكم عرفتُك.
يا صديقي المؤمن الحق، لربما كنَّا معك في الزمن الغابر على موعدٍ ولقاء مع آخرين أمام الفلك الراسي على التراب عند نداء «نوح»!؟
أُرجِّح أنّ تواصلَنا كان قبلَ بدء الطوفان، وقد فاتتنا مع من يُشبهنا فرصةَ النجاة!!
فطوبى للذين فاتهم سماع النداء، «أن اصعدوا إلى السفينة»، إذا كان الناجون حينذاك وورثتهم اليوم لا زالوا هم وحدهم الصفوة، وقد ملكَتْ أيمانهم، السفينَ ومجرى اليمّ ومهبّ الرياح!!
لك أيها الصديق الكبير كل مقادير الحب والتمني بحياة أطول وأغْنى في العطاء والإبداع فحاجة الأمة إليك كبيرة وتكبر... كنت - وما زلتَ - في الصفوف الأمامية: لأنك الأخصب والأرقّ والأقوى والأطيب...
أيها المبدع المتميّز: الناس على هذه الأرض يأتون ويرحلون... ومثلك يا ساكن العين والقلب والذاكرة فإنهم فقط يأتون...
د. غازي قهوجي