Culture Magazine Thursday  09/12/2010 G Issue 324
مراجعات
الخميس 3 ,محرم 1432   العدد  324
 
استراحة داخل صومعة الفكر
العشق ينبع - سعد بن سعيد جابر الرفاعي
سعد البواردي

من منا لا يغني على ليلاه.. وأحياناً على ليله.. وشاعرنا الرفاعي رفع نبرة صوته عالياً في غناء وحداء لمعشوقته ينبع وهل توجد معشوقة أكبر من أرض نما فيها عودا.. وترعرع شابا.. واتكأ على حيطانها شيخاً.. لينبع المدينة نبع لديه إحساس بالدَّين لها اصطفاه عنواناً محبباً إلى قلبه.. لم يكن هو العنوان الوحيد لديوانه.. وإنما العنوان الذي خطه بوجدانه وإيمانه أكثر وأكثر.. لن أتعجل الحكم قبل أن استعرض تلك المحصلة من شعره.. ولتكن البداية من منطلق الترتيب والبداية.

بدايته بوح أمام بحره بعد أن ضلت خطاه وخارت قواه لطول الدرب.

أتيتك عبر المدى تائها

لتحملني هاربا عن مداي

لأودع فيك انطفاء المنى

وأفصح للموج عن مبتغاي

أجيئك حلما تشظى سناه

فمزقني حائرا في دنياي

لماذا كل هذه الحيرة.. والحسرة..؟ صوت حزن يعلو على صوت معركته..؟ يؤكد هذا الزعم من خلال أبياته وبيانه..

أتيتك بعد أنين حزين

صدى لانكسار المنى في رباي

يهيم الكرى في عيون الورى

وكحلَّ جفنيَّ سهد أساي

فما عاد للسهد إلا جفوني

وما عاد للحزن حلم سواي

جاء إلى بحره منذ طفولته كي يغسل مآقيه بملح مائه لفرط بكائه.. حنان مناه هو ما ينشده كي تشتد وتستد خطاه فهل نجح؟! لقد أعاد الكرة مراراً ومرارا كلاجئ يبحث عن سكينة وسكن وعلى فمة أنشودة أمل.. وأغرودة حلم يزفها إلى ذلك الصديق وقد عاد إلى حلمه القديم بعد أن ظفر به:

وها أنت بعد زمان تعود

إلى حلمك الغض قبل الصدود

تعود إلى ذكريات مضت

جموح المنى.. وانحدار الصعود

ويعود إليه التساؤل مرة أخرى:

أعود يعني اعتدال الرؤى؟ وإشراقة الحب بعد الركود؟

حالتا بوح أمام البحر.. وعودة إلى مرافئ الحلم لا يمكن فصلهما عن بعضهما.. إنهما قصة شكوى مبرحة لا يعافيها مجرد سؤال.. المشهد هذه المرة يرسم صورة رقصة حياة بائسة:

دمعَتْ ووشم الذل يخنق صوتها

وبكت بحر الصمت ظلا ممحلا

وروت بماء العين حلم براءة

موؤودة. فالفجر أورق ذابلا

رقصت. وحزن الكون فجر صمته

نغم تعمق في الفؤاد. تغلفا

رقصت وعين الليل تحسب رقصها

فرحا يناغم ليله متهللا..

كثير يا شاعرنا على أية فرحة أو ترحة حزن كون بكامله.. وعيون ليل مليئة بالسواد.. حتى ولو جاء الحدث بحجم الحديث.. شاعرنا المتألق يخاطب مدينته التي يدين لها بالعشق.. (ينبع).. أن يقف أمام لوحتها المتجددة مبهوراً:

يا منبع الآمال يا فجر الرؤى

يا قصة الإشراق بعد ركود

أنتِ الرؤى ترسم للغد

أملا يعزر للبناء رصيدي

يتذكر لوحة الماضي يوم أن كانت طفلة قبل أن تنمو ويشتد ساعدها.. في ظل خوف.. وتخلف

كنتِ الظلام مجاعة وجهالة

مأوى لوحش في الفلاة شريد

واليوم كما رسمتها ريشته:

وإذا بينبع بالصناعة نبعها

تجري لتحصد أعظم المحصود

يا ينبعي هاهم بنيك تسابقوا

نحو الإخاء برغبة التعضيد

ومن ينبع التي شبت عن طوقها وتحولت إلى مدينة صناعية تأسر العين يعود بنا شاعرنا دون إخطار إلى الرجوع المستحيل:

تهشم وجه الحياة الجميل

تحطم فيه شموخ النخيل

وغابت نضارته فجأة!

تعمق فيه اصفرار الذلول

لوحة من التشاؤم دفعت به إلى اليأس البؤس.. هكذا اختار لنفسه:

بكيتك حلماً. بكيتك وهما

دفنت الهوى في جليد الفصول

وودعت زيف المنى راحلا

رجوعي من سابع المستحيل

هكذا الشاعر يرسم خطوط حياته كما يعيشها.. قزحية تارة.. سوداوية تارة.. ووردية أخرى.. الحياة ألوان وأكثر من عنوان.. هذه المرة يختار الإفصاح.. عن ماذا؟ هو سيقول لنا:

الليل يدق بأعماقي

والفجر يُلاك بأحداقي

والصمت يسربل أوعيتي

والضحك يموج بإخفاقي

لعل الضحك الذي قيل عنه.. وشر البلية ما يضحك.. وقيل عنه أيضاً.. ولكن ضحك كالبكاء..

اضناني البعد وطوقني

بجحيم يقتات بإحراقي

ويتساءل مع نفسه:

ما الأمر. أحلم يدفعني؟!

أم خوف كبلني بوثاق؟!

نيابة عنك وضعت علامات استفهام وتعجب لازمة. وفي النهاية ينتهي افصاحه بجراح لا تندمل..

احترم. وضلت قافيتي

في حومة فكري.. إطراقي

لا يقين مع الحيرة يا شاعرنا..

يغني من أعمق أعماق لطيبة الطيبة.. حيث أشرق نور الهداية على الأرض.. اختار منها هذه المقاطع..

مدينة النور يا إشراقة سطعت

شموسها بضياء الحق في القمم

مدينة الطهر. يا ريحانة عبقت

وحلقت في سماء الكون بالقيم

وسافرت بعبير الخير تنشره

سحائبا تغمر الأكوان بالنعم

ترابك الطهر. كل الطهر زينته

من السمو وشاح باسق الشمم

وينتهي بهذين البيتين المعبرين:

مدينة الحب عفوا إن قافيتي

لم تسعف اليوم. جفت أحرفي بفمي

عباءة النثر تكسو صوت قافيتي

وأعذب الشعر يبقى سابحا بدمي..

لا وجود في مقطوعتك عباءة نثر تكسوها.. بل عباءة طفل فلسطيني مشرد يتساءل..

يا عجبا كم حار سؤالي

عن أذلة القوم. المضلالْ

إرهابا قد ملأوا فعلي

هل سألوا عن سر نضالي؟!

عن كف مازال جريحا

من شدة قيد الأغلال

عن أم مازالت تُرثى

وئدت في جوف الأهوال

عني. عن دمع أسكبه

في فقد الوالد. والخال

لم تأت قصيدتك يا شاعرنا بحجم المأساة وهول الكارثة.. كان صوتها مرتبكا.. بل أكاد أقول مفكك الأوصال على غير ما اعتدنا عليه في قصائد سابقة.. ربما لم تستحضر فكرك.. فجاء حضورها خجولا.. ليتك تعيد صياغتها من جديد..

(جدة غير) قال عنها:

أأنتِ السحر؟ أم أنتِ الكمال؟

يقينا كنتِ؟ أم أنتِ الخيال؟

عروس البحر يا ألق الأماني

وزهر الحلم تزرعه الفعال

على شطيك. جدة.. قد تنامى

بهاء الحسن ينسجه الرمال

على إيقاع قصيدته عن الطفل الفلسطيني لمست نفس الضعف في البناء الشعري.. والإيقاع.. والقافية.. والمفردات.. وهو يتحدث عن جدة غير.. بقدر ما أتحدث عن قصيدته عنها أنها جاءت على غير ما أتمنى حبكة في جُملها ووظائفها الشعرية.

وفاء لمدينة ساحرة اسمها جدة.. عروس البحر الأحمر دون منافسة..مقطوعة شعرية وفائية جادت بها ريشته..

بيني. وبينك للوفاء رباط

شوقا إليه قلوبنا تشتاط

ابدا يحلق في مزارع حلمنا

عن كل عاصفة به نحتاط

حتى تورق بالأزاهير التي

من حسنها كل الظنون تماط

يبقى الوفاء الخيط يجمع خطونا

في ثوب آمال الشموس يخاط

وعن العراق بعيد احتلاله:

أيها الباغون إنا أمة

وهبت للكون نورا وهدى

قد وعينا الحق دينا ورؤى

واتبعنا عن يقين أحمدا

هذه بغداد والمجد الذي

أنعش التاريخ حتى غردا

هذه بغداد هارون التي

بددت بالعلم ليلا سرمدا

هذه بغداد حصن لم يزل

يردع الغازين في جوف الردى

ويناشد أمته.. وعالمه الصامت:

أيها الغافون في حضن الأسى

ترتجون الأمن من سم العدا

لعبة بالسلم بتنا لهوهم

مذ تركنا للعدو المقودا

أمتى هيا أفيقي وانهضي

جددي العزم وادين الموعدا

أعوام. وأعوام مرت.. ومازال الصمت يطبق إلا من بعض مناضلين يكيلون للغزاة ضربات موجعة يدفعون ضريبتها ثمنا لغزوهم واحتلالهم.. ونحن وشاعرنا العزيز الرفاعي بصدد العودة من رحلتنا مع ديوان (العشق ينبع) نختتم الرحلة بأغنيته للرحيل:

وصلنا إلى آخر المفترق

فهل يسعف الوصل نبل الخلق؟

مضينا وللصمت فينا اشتعال

فهل يسأل الحرف كيف احترق؟

وهل يسأل الحلم عن يأسه؟

وعن فجره في الدجى إذ غرق؟

يحزم شاعرنا أمره.. ويمتطي راحلة العودة

فما عاد غير الرحيل اشتياق

فلا ضوء يلمح عبر الأفق

وما عاد إلا الفراق طريقا

فقد اغلق الليل كل الطرق

ويساءل حلمه الجميل قبل أن يودعه:

فهل تذكرين ابتلاع الرؤى

وهل تذكرين احتراق الورق

وهل تحفظين لنا أننا

رحلنا. وكان الرفيق الشفق

يا شاعرنا الحبيب.. وأنت ترحل مع حلمك.. وترحل معنا.. ونستودع ونودع رفقتك أشعر أنك منحتنا سويا أجمل قصائد ديوانك.. وأكثرها توفيقا في رسم الصورة. والعبارة الجمالية.. وهذا يدلنا على أن لك قدرة الشاعر متى انفعل أعطى.. ومتى افتعل خانه التوفيق كأي شاعر.. الشعر أحيانا بالتجربة والتأني يحلق.. وفي غياب الذهن والحضور الشعوري يخفق.. لا عيب فكلنا ذلك الشاعر الذي تسمو به أجنحته إلى الأعلى.. وتدنو به أجنحته إلى الأدنى.. العطاء ليس كله نجاح.. وليس كله فشل.. والذين يحسنون التدبر يتخذون من ضعفهم قوة. ومن خطئهم صواب.. وأنت واحد ممن يملكون القدرة على العطاء لأنك تملك سلاح المعركة متى أحسنت استعماله وتوظيفه للنصر.

الرياض ص. ب 231185الرمز 11321 فاكس 2053338
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة