Culture Magazine Thursday  09/12/2010 G Issue 324
فضاءات
الخميس 3 ,محرم 1432   العدد  324
 
الحوار الثقافي - الاجتماعي:
لنتحاورْ حول الحوار قبل أن نتحاور
د. صالح زيّاد

حين نقصد بالحوار دلالته الثقافية الاجتماعية والإنسانية، لا نعني - بالطبع - تبادل أدوار الكلام، كما هو الحوار المسرحي بين الشخصيات، ولا نقصد الجدل والحجاج والمناظرة والنقائض والمعارضات والمراسلات... وما إليها من ضروب الخطاب التي يتبادل أدوارها المتكلمون بقصد دحض بعضهم بعضاً، أو إقناعه أو إفهامه أو الإشهاد عليه وفضحه أو منافسته، وما يستدعي ذلك من بيان وتلاسن ومَرْكَزَة وتأليب واستعداء. وإنما نقصد دلالة الحوار على تفهم الاختلاف والإقرار به، بوصفه حقيقة وجودية لن يفلح أحد في اجتثاثها وفي إحالة الناس إلى صورة واحدة هي صورة نفسه التي لا يقبل غيرها.

وهذا المعنى الأخير هو ما يجعل من الحوار قيمة تُجَاوِز الأفراد إلى المجتمعات، والواقع إلى الوجود، والتحارب إلى التآلف، والعزلة إلى التشارك. وهي قيمة ضرورية للحياة الإنسانية التي تتشكّل من علاقات متحاورة لا مكان فيها لاستقلال فرد عن غيره، ولا جماعة عن سواها. ولو تأمّلنا مفردات اللغة فسنجدها لا تتحدّد في أذهاننا إلاّ بعلاقة اختلاف مع غيرها، فأنا أو نحن لا تتحدّدان دلالياً بذاتهما بل باختلافاتهما عن غيرهما، تماماً مثلما لا تتحدّد ألفاظ: رَجُل أو باب أو شجرة أو غيرها من الدوال بذاتها بل باختلافاتها عما سواها، ولهذا وَصَف سوسير اللغة بأنها بنية اختلافات، وهو في الحقيقة وَصْف للوجود ذاته الذي تحمله اللغة وتشير إليه، فاللغة – كما قال هايديجر - بيت الوجود.

لكن دلالة الحوار تلك، لا تقوم بمعزل عن الذات التي تعني فعل الرغبة في شيء أو عنه. ولهذا كانت قيمة الحوار موصوفة من وجهة ما يحققه من فوائد وما يدرأه من شرور؛ فَبِلا ذات تتحقق لها تلك القيمة لا يكون الحوار، وليس هناك ذات بلا آخر يمنحها ذاتيتها وتمنحه غيريته. إن الذات هنا هي فاعل الحوار وقائده، مثلما هي عقبته وعائقه، وهي – حتماً - ذات راشدة وحُرة وقوية ومنفتحة، وتجني ثمرات ذلك في تماسكها وكثرتها واستنارتها واغتنائها بالمعرفة في الحوار، وعلى العكس من ذلك، في تضادها مع الحوار، خائرة ومنغلقة ومنعزلة وقليلة وتعاني تبعات ذلك أو أسبابه في سطحيتها المعرفية وتصدعها الاجتماعي وتقليديتها.

وقد يكون مفارقاً للذاتية تلك، أن الحوار دال موضوعية، فهو يعلو بالذات عن ذاتيتها، أو يحجبها بطريقة ما من أجل أن تتفاعل مع الآخر وتكتشف ما عنده وتتسامح معه وتعرف – على الرغم من الاختلاف - وجوه توافقها معه. وهذا - عملياً - ليس سهلاً، ودونه – في العادة - عقبة كأداء، هي التخلِّي عما ألفه المرء واعتاده، وما تَشَرَّبه من نرجسية الذات، وعبادة الأسلاف، والتعصب للعادات، والاطمئنان إلى التقليد، والتوحش من الآخر، وتحاشي المختلف، ومعاداة الغريب ... إلخ. وهذه الخصال التي ينطوي عليها سلوك الأفراد هي دال ذاتيتهم الفردية وذاتية مجتمعاتهم فيهم وهي دال قوة وسلطة ونفوذ، بحيث يغدو التحاور مع الذات مثلما التحاور مع الغير متاحاً غالباً لنخبة نوعية من العلماء والمثقفين والفلاسفة والقادة الاجتماعيين، دون عامة الناس.

إنّ الحوار صراع نوعي مع الذات ومع الآخر، وهو صراع يقصد تحاشي الحرب ويقصد تحاشي العُزلة، فهو بين هذا وذاك، مستوى الحياة الذي يُحْسِن الوعي بالاختلاف ويحيله من تقاطع إلى تواصل ومن تعاد إلى تسامح. وإذا كانت العلاقة الحوارية بين الذات والآخر تُنْتِج الكينونة الاجتماعية والكينونة الإنسانية، وما تنطويان عليه من عقود ومواثيق ومؤسسات وطنية ودولية، وما تفضيان إليه من تعاون وتبادل للمصالح، فإنها تُنْتِج المعرفة. ولذلك قال بول ريكور: «إن التواصل بنية للمعرفة الحقة تتشكل عبره» فلا أحد يمتلك الحقيقة البشرية، ولا أحد يبدأ المعرفة من الصفر ولا من دون مسلمات ومسبقات. والمؤلفات والطروحات في الكتب بين أيدينا شاهد على ذلك بما تحيل عليه من مصادر ومراجع وما تتضمنه من أقوال وأحوال، وما تشير إليه من أسماء.

وتاريخ التطور المعرفي، وحقب الازدهار العلمي والإبداعي، في المجتمعات ومنها الحضارة العربية الإسلامية في أوجها، هي الوجه الآخر لتنوُّعها وتعدُّدها واختلافها ضمن دائرة اجتماعية متحاورة ومتماسكة ومع تواصلها مع العالم وانفتاحها عليه. ولذلك لا نستغرب اهتمام ابن رشد بالفلسفة اليونانية بجانب اشتغاله بالفقه وعلوم الشريعة، لأن ذلك يجري في مسافة الاتصال بين أن كان – مثلاً - وزير الخليفة أو طبيبه يهودياً أو نصرانياً وأن يؤلف في علوم اللغة العربية سيبويه وعبد القاهر الجرجاني وغيرهما ممن لا ينتسب إلى أرومة العرب وإثنيتهم، وأن تمتلئ دار الحكمة في بغداد بالكتب المترجمة عن ثمرات الفكر والثقافة اليونانية والهندية والفارسية وغيرها.

صحيح أن المساحة لم تكن خالية من الصراع والدس والتنافي المتبادل، حتى في أقصى حالات الاستقرار والازدهار، وكان صنيع ابن رشد وعقلانيته محط الحرب عليه وتغريبه، وذلك هو الوجه الآخر من الحرب على أحمد بن حنبل وأهل الحديث على يد المعتزلة الذين آلوا – بدورهم - إلى محنة أخرى تبرهن على الانتقام المتبادل وعلى خطورة انضواء الفكر في عباءة السلطة الزمنية. لكن هذا يؤكد ولا ينفي الحاجة إلى مبدأ الحوار وقيمته، بقدر الحاجة إلى الحرية والمعرفة اللتين تتصلان ببعضهما وتفتحان الحدود أمام العقل وأمام النظر. وهذه الحدود هي حدود الاختلاف والغيرية التي يُعَبِّر عنها أبو حامد الغزالي في وصف موقف المعترضين عليه لاستشهاده بأقوال من لم يَحْسُن اعتقاد المعترضين فيهم: «فإذا نسبت الكلام وأسندته إلى قائل حسن فيه اعتقادهم، قبلوه وإن كان باطلاً؛ وإنْ أسندته إلى من ساء فيه اعتقادهم ردّوه وإنْ كان حقاً. فأبداً يعرفون الحق بالرجال ولا يعرفون الرجال بالحق، وهو غاية الضلال».

إنّ الحوار مبدأ قرآني في الإسلام، فالقرآن الكريم يقرر أن (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) (سورة البقرة: 256) وأنّ الاختلاف بين الناس من طبيعة خلقتهم وهو صميم الوجود: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)... (سورة هود: 118-119)، (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) سورة يونس: 99. وهكذا لم يكن القرآن خطاباً إلى مجتمع محدود زماناً أو مكاناً أو سلالةً بل كان للناس كافة (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ) سورة سبأ: 28، وبالقدر نفسه تماماً فهو خطاب للعقل والضمير وتزكية لهما، مثلما هو تأكيد على المسؤولية الفردية التي تقتضي الحرية والكرامة وتأبى القهر والعنصرية وتؤكد على الحقوق الإنسانية، وتبارك - كما في صحيفة العهد النبوي لسكان المدينة - مواثيق المجتمع المدني بمختلف إثنياته وعقائده، والشواهد القرآنية في هذا الصدد عديدة.

أما تراثنا البشري، فهو كتراث الأمم والشعوب قاطبة، مليء – إجمالاً - بمنتجات إيديولوجية وثقافية طافحة بالاحتقار للآخر القريب والبعيد، والإقصاء للمختلف، والنزوع إلى المطابقة واستمراء التقليد، والصدور عن ذات متضخمة بأناها بمستوياته الفردية والاجتماعية. ومن يطالع المديح والهجاء، وهما معظم مساحة النتاج الشعري التقليدي العربي، فستروعه العصبية والعنصرية التي تبلغ درجات قاسية في مجافاة الإنسانية، وسيجد التهاجي والتمادح بالألوان والانتماءات والأحساب والأنساب! ولا تكاد القبلية تختلف في هذا الصدد عن الشعوبية التي يقوم التمييز العنصري فيها على الإثنيات، وإذا كان العرب هم مادة الازدراء الشعوبي في مساحة غير يسيرة من مدونتنا التراثية، فقد كان الأعاجم في الموضع نفسه من النبز والشتم والاحتقار. وهي الوجهة نفسها بين المختلفين سياسياً وطائفياً ...إلخ وهذا التاريخ ضروري من أجل الفكاك منه والقطيعة معه، كما فعلت الأمم المتقدمة، التي تصنع الزمن الحديث.

ولا أشك أبداً في أنّ الهوية لازمة وجودية مثلما هي لازمة إبداعية وثقافية، وأمة بلا ذاتية وهوية هي - قطعاً - أمة بلا وجود. لكن المتعصبين دوماً يفهمون الهوية في مستوى واحد، ولهذا يَبْدون بلا وطنية وبلا قومية وبلا إنسانية ... إلخ لأنهم لا يبصرون تعدد ذواتهم الذي يتيح لهم أن يبصروا ما هو أبعد، وما هو مختلف؛ أن يبصروا العالم. وأعتقد أننا عشنا بتسلط حركة الصحوة الإسلامية أسرى لسؤال الهوية، وهو سؤال تَضَخَّم في هذا الأفق حتى سد منافذ غيره من الأسئلة، فكان الهاجس: كيف نحافظ على هويتنا؟ والهوية دوماً ليست شيئاً نظرياً إنها ما نَكُوْنُه ونعيشُه ونمثِّلُه عملياً، ولو رأيت إنساناً يسأل نفسه: «من أنا؟!» لأدركت تواً أنه خارج عن السوية. ولا زلنا اليوم نعيش هذا السؤال في مواجهة السؤال الذي أشرق به عصر النهضة العربية الإسلامية الحديثة، وهو: كيف نتقدم؟ وكيف نتطوّر كما تطوّر غيرنا؟

الرياض
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة