Culture Magazine Thursday  07/01/2010 G Issue 293
فضاءات
الخميس 21 ,محرم 1431   العدد  293
 
الحكاية رقم صفر
د. شَهلا العُجيلي

يحاول (هوراشيو) في تراجيديّة (شكسبير) الشهيرة، أن يتجرّع الشراب المسموم أسوة بصديقه الحميم (هاملت) الذي كان يلفظ آخر أنفاسه، لكنّ (هاملت) يتضرّع إليه قائلاً: «أرجوك يا هوراشيو ... ابق على قيد الحياة، لتروي عنّي الحكاية...»!

تشير عبارة (هاملت) تلك إلى واحدة من أهمّ وظائف الحكاية، وهي الإخبار والإعلام، ومن ثمّ الحضّ على الاعتبار، وهكذا هي الحكايات عموماً، تشكّل بنيات استعاريّة من بنيات أخرى معيشة، أوسع، وأكثر تنوّعاً وتبايناً في علاقاتها، إذ تأتي الحكاية، لتتناول جزءاً من هذه العلاقات المتعدّدة المتباينة، أو تكثّف وسائط الارتباط بين بعض عناصرها، وتقرّب أو تختزل تشرذم المحكيّات، وتقرّب العناصر ذات التأثيرات المتبادلة، فتبدو أيقونة لبنية ما. وتوضع الحكاية غالباً لتكون متواترة، من أجل عبرة، أو هدف تربويّ، أو تعليميّ، أو معرفيّ، وقد توضع لتوضيح نظام قيميّ لثقافة ما، حفاظاً على الهويّة، وتأكيداً على الخصوصيّة الثقافيّة لنسق محدّد، أو لتمكين توجّه إديولوجيّ معيّن. ويعدّ الإنسان شرطاً لحضور الحكاية، سواء أكان راوياً أم متلقّياً، لكن، ماذا لو كانت الحكاية بنية غير استعاريّة؟!

تكفّ الحكاية عن أن تكون بنية استعاريّة في حالة بدائيّة جدّاً، وهي حينما تأخذ شكل الواقعة الفعليّة الأولى، كما حدثت، من غير أن تُروى، أو تتناقل، أو يتدخّل في تكوينها خيال ما، أو رؤية ما! لو لم ترو حكاية (قابيل) و(هابيل) التي تعدّ أقدم حكايات الأديان السماويّة لاندثرت، ولو لم يعلم أحد بغرام (روميو) و(جوليت)، وبقي الأمر بينهما، ثمّ انتحر كل منهما على حدة، لما كانت هناك، مؤكّداً، حكاية لتروى. وكم من وقائع أنتجت حوادث أليمة أو سعيدة، لكنّ أحداً لم يعلم بها، لذا فإنّ أحداً لم يحكها! تلك كلّها حكايات مضمرة، أو حكايات لها الرقم صفر.

تتشكّل الحكاية رقم صفر من شخص واحد، يشهد واقعة مع نفسه، فيكتمها، كما قد تتشكّل من اثنين ليس الراوي ثالثهما، وستبقى الحكاية في الدرجة صفر ما لم يحكِ واحد من الاثنين لثالث. وستبقى الحكاية حيّة، حتّى لو ظلّت تدور بينهما فقط، وستبقى حيّة لو مات أحدهما أيضاً، لكنّها ستموت بموتهما معاً. سيقول قائل: إن شرط الحكاية الحكي. نعم، هذا صحيح، لكن يمكن للمرء أن يحكي لنفسه، وهو سيحكي لنفسه الحكاية الصفريّة للمرّة الأولى فقط، وبصعوبة بالغة، لأنّه سيحكيها لنفسه في المرّة الثانية مع شيء من تدخّل الخيال. إذن ستبقى الحكاية رقم صفر ملكاً لاثنين حتى يموت الاثنان، إذ مع حياة أحدهما، سيبقى هناك احتمال أن يحكي الذي بقي على قيد الحياة لآخر، فالحكاية مراودة دائماً، وتحمل في ذاتها نزعتها الإخباريّة.

الحكاية رقم صفر هي أجمل الحكايات وأخطرها، وتمتاز بسمة أخرى، وهي أننا جميعاً نملكها، فكلّ منها لديه على الأقل حكاية في الدرجة صفر!

ليس ما يفعله الكتّاب سوى تطوير الحكاية رقم صفر إلى الحكاية ذات الرقم واحد، فالحكاية ذات الرقم اثنين، فالحكاية ذات الرقم ثلاثة... لكنّهم يحتفظون لأنفسهم أبداً بالحكاية رقم صفر، ولكي نفسّر دواعي ذلك، سنعود ثانية إلى تفاصيل الحوار بين (هوراشيو) و(هاملت)، الذي يقول لحظة الموت: «آه يا هوراشيو الكريم، مجرَّحاً سيظلّ اسمي بعدي إن بقيت الأمور هكذا مجهولة! فإن كنت احتويتني يوماً في قلبك، استلّ أنفاسك، وابق على قيد الحياة، لتروي عنّي الحكاية...»!

يريد (هاملت) أن تُروى حكايته في درجتها الصفريّة، قدر المستطاع، لأنّها إن لم تكن كذلك فستتمّ الإساءة إلى تاريخه وإلى تاريخ عائلته المجيد، وستجرّح اسمه واسم عائلته. في حين يتجاوز الكتّاب الروائيّون أو القاصون أو حتّى الشعراء الحكاية رقم صفر، ليس لأنّها تجرّح أسماءهم، بل لأنّها غالباً ما تجرّح قلوبهم، وهم على خلاف (هاملت) يبقون على قيد الحياة، لكنّهم غير قادرين على الإعلان عن الحكاية رقم صفر، تلك التي لن يعرف أحد، ولا حتّى شريكهم في الواقعة، كيف يرويها عنهم!

****

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة«7875» ثم أرسلها إلى الكود 82244

سوريا

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة