Culture Magazine Thursday  06/05/2010 G Issue 309
فضاءات
الخميس 22 ,جمادى الاولى 1431   العدد  309
 
ما بين الحجاج بن يوسف وعبدالله الجاسر
سهام القحطاني

« إني لأرى رؤوساً قد أينعت وقد حان قطافها»

قرأت تصريحات وكيل وزارة الثقافة والإعلام الدكتور عبدالله الجاسركما قرأت التحليلات التي كُتبت عن تلك التصريحات، لكني اليوم سأتناول تلك التصريحات من زاوية مختلفة أو أحسب ذلك.

من زاوية تحليل الدلالات التي تحملها تلك التصريحات ذاتها ومدى تأثيرها على أعراف الكائنية الثقافية عندنا؛ فتلك التصريحات نفسها تتحدى قوانين الكائنية الثقافية ولذلك اعتبرها البعض صادمة للذهنية الثقافية الكائنية.

إضافة إلى نقطة مهمة وهي أن التغير يجب أن يبدأ من المنطق الرسمي لقرار التغير قبل مُنفِذه،وهذا ما لاحظناه في تصريحات الجاسر كونها تحمل تغيراً في نبرة وصياغة المنطق الرسمي وهو أمر يشير إلى جديّة التغير وليست صوريته التي تعودنا عليها من خلال تصريحات مسئولي الإدارة الثقافية السابقين.

وقد يرى البعض أن عدم التوازن بين سقف تلك التصريحات وتطبيقها قد لا يحقق الجدية المرجوة للتغير، ويُثبت الصورية بطريقة مختلفة، وهذا المحور تناولته سابقاً الدكتور لمياء باعشن بعمق موضوعي تحت عنوان «تهديدات الوكيل».

وهو رأي بلاشك لا يمكن تجاوزه، لكن غياب التوازن المفترض ليس بسبب غياب إمكانات التطبيق لأنها متاحة بل بسبب هيمنة الكائنية الثقافية على الخطاب الثقافي الرسمي وعلى الإمكانات المتاحة، وبذلك يصبح الاختلال في التوازن هو نتيجة غياب قوة وجرأة الخطاب أو التصريح الرسمي لتغير قوانين تلك الكائنية الثقافية التي سيطرت على حركة التصريحات والخطابات الرسمية للإدارة الثقافية السابقة، فهل ستنتصر تلك الكائنية على الخطاب الرسمي للإدارة الثقافية الجديدة كما انتصرت على القديمة؟.

والمتأمل لتصريحات الجاسر سيلاحظ أنها تخالف قوانين الكائنية الثقافية وتتمرد عليها، لكن تحديد المنتصِر في هذه المعركة الفكرية مازال مبكراً.

و قبل البدء أريد أن أُحيّ الدكتور عبدالله الجاسر على جرأته من خلال تصريحاته المتعلقة برؤساء الأندية الأدبية ومستوى العمل الثقافي وأهدافه وغاياته واقتصاديات الثقافة، وأعتقد أن إدارة الثقافة عندنا تحتاج إلى «رجل قوي» يضبط المشهد الثقافي ويُحرر القنوات الثقافية من بعض العاجزين فكرياً الذين سيطروا عليها نتيجة سوء اختيار من قبل الإدارة الثقافية السابقة ويعيد صياغة مبادئ إدارة الثقافة.

كما أن من الأخطاء الشائعة لدينا أن القوة لا تجتمع مع الديمقراطية، والصواب أن العنف لا يجتمع مع الديمقراطية والظلم لا يجتمع مع الديمقراطية، كما أن الضعف واللين ليسا من صفات الديمقراطية بل السلبية، وقد يرى البعض أن صوابية المتلازمات السابقة مسألة نسبية تتحكم فيها الكائنية بما تفرضه من قوانين على التفكير الاجتماعي من طبائع وجدانية ومسلّمات حقوقية وأعراف الاختيار ومعايير التقويم.

صحيح أن فكرة الكائنيّة غالبا تلتزم بمنطّقة درجة التوقع والصدق المتفق عليهما عند الأغلب الأعم، لكن هذا لا يعني أنها منطق في ذاته أو أنها تسن منطقا وفق مُقتضى؛ رغم تحكمها في قوانين التفكير الاجتماعي، لكن أريد أن أنبه إلى أن قوانين التفكير الاجتماعي غالبا تُؤسس على بنية عرفية تبعا لتأثير الكائنية لا على بنية عقلانية.

وقد يعتبر البعض أن توفر درجتا التوقع والصدق للفعل والتفكير الكائنين يحققان قيمة المعيار وهو تحقق يرفع حكم الضرورة أو الاستثناء عن حاصل النسبية الذي تنتجه الكائنيّة ويجعل العقلانية صفة حقيقية لقوانين الكائنيّة لا صفة مجازية وخاصة أنها تحمل القدرة على الإنتاج.

وهذا الرأي فيه خلط بين الصفة والمعيار فالتوقع والصدق ليسا معيارين لسلامة الحاصل إنما صفتان لنوع الحاصل وكما قلت سابقا يتحكم فيهما اتفاق الجماعة «العرف الاجتماعي»، كما أن تحصيل القدرة على الإنتاج ليس من الضرورة أن يتضمن التنفيذ الجودة، ونفي وجود الضرورة لا يعني عدم قيمة وأهمية تلك الضرورة بل يعني أن الاستسلام لمقتضى الكائنية التي تُفقد الضرورة أهميتها وقيمتها، وتكرار القدرات الخالية من الضرورات هي التي تحول صفات الكائنيّة إلى معايير لتشكيل قوانين منظومة تفكيرنا نحو الأشياء وتقويمنا للنتائج.

لا يُفهم من قولي السابق أنني أرفض الكائنيّة أو أنكر تأثيرها على طريقة تفكيرنا، على العكس فالكائنيّة شاهد عيان رئيس لتشخيص الواقع وتحليله وعلاجه، وليست هي النموذج الذي يُقتدى به لبناء واقع موازٍ لها.

وقد يسأل البعض وما علاقة الكائنية بتصريحات الدكتور عبدالله الجاسر؟ وأظن أن العلاقة واضحة بينهما؛ فتصريحات الجاسر ماهي إلا ردة فعل لهيمنة قوانين الكائنية على المشهد والسلوك الثقافيين، و باعتبار أن الواقع الثقافي يتمثل من خلال تلك الكائنية وبالتالي فإن تصريحات الجاسر تقوم على ثلاثة محاور هي: تشخيص الكائنية -الواقع الثقافي- وتصميم معيار لتقويم التفكير الكائني ووضع طريقة لتغير تمثيلات الكائنية، وهي محاور تقترب من أسس فعل الإنجاز، ماذا تريد أن تنفذ؟ ما أهمية ما سوف تنفذه؟ كيف ستنفذ؟ وقيمة ما نفذّته، ولو لاحظنا أن تلك الأساسيات تتجاوز الكائنيّة؛ لأنها تقتضي التخطيط ومحتوى التخطيط على الاعتبار يتجاوز التكرار، والتكرار صفة من صفات الكائنيّة، كما أن الإنجاز يقتضي الإضافة «ما أهمية ما سوف تنفذّه»؟ وقد يرى البعض أن التكرار يحقق الإضافة والتراكمية وهذا غير صحيح فالتكرار يُحدث توسعاً عرضياً للموضوع لا تطويراً أفقياً للأنطقة المعرفية، والانجاز يقتضي ابتكار آليات التنفيذ واستثمار التقنية واقتصاديات الثقافة، كما يقتضي الإنجاز تحقيق قيمة لحاصل التنفيذ وتلك القيمة لابد أن تُحدث تحولاً أو تغيراً أو إضافة على مستوى المناهج الثقافية أو الفنون أو طرائق التفكير أو السلوكات أو الوجدانيات؛ أي تفكيك خلايا الكائنية الثقافية.

أما لماذا قوبلّت تصريحات الجاسر بغرابة حيناً سخط حيناً آخر واعتبارها تهديدات حيناً ثالثاً من قبل المتلقيين من المثقفين؟.

فالأمر يعود إلى سببين: أولهما أنها تحمل تحدياً لقوانين الكائنية ومخالفة لأعرافها الثقافية، وثانيهما اشتمالها على ثنائية الثواب والعقاب، ولولا هذان السببان لمرت تصريحات الجاسر على المثقفين مرور الكرام كغيرها من تصريحات المسئولين الثقافيين السابقين التي تخضع لسذاجة الدبلوماسية المعتمدة على افتراض النوايا الحسنة والأمنيات الوردية وفراغ التخطيط.

حيناً بل غالباً تفرض علينا البرتوكولات الوجدانية التي هي إحدى خصائص الكائنية من قبول الخطأ إذا لم يتوفر الصواب بحجة أن عدم تحقيق ما يمكن يجّوز استمرار مالا يمكن على غرار «الضرورات تبيح المحذورات» فمن الأفضل أن يكون لدينا رئيس نادٍ أدبي عاجز وضعيف من ألا يكون لدينا رئيس، وكلا الحالتين مولدة للفراغ رغم توهمنا خلاف ذلك؛ لان القيمة لا تتحقق بالوجود بل بنوعية الحاصل، وتصريحات الجاسر هزّت هذا الاعتقاد لأنها أتاحت التوجه لأول مرة إلى الاحتمال الغائب أي إمكانية «تعدد الاختيارات» وإيجاد معادلة موضوعية للمفاضلة وفق ظهور احتمال «تعدد الاختيارات» وهو احتمال يلغي قانون الأحادية الذي ظل مسيطراً على الإدارات الثقافية، وهو القانون الذي له شروطه الخاصة للاستحقاق، وهكذا فتصريحات الجاسر تمثل انقلاباً على البنية النسقية للكائنية «وتهديداً» لأعراف تلك الكائنية قبل أن تكون تهديداً للأشخاص.

تقتضي أعراف الكائنية لدينا ليس على المستوى المحلي بل والعربي أن يظل المسئول في منصبه حتى يتقاعد حتى وإن أخفقت كل قدراته وأكل وشرب على كفاءته الدهر، وإن أخطأ المسئول أُجبر على الاستقالة وفي كلا الحالتين يظل المسئول محتفظاً بهيمنته على المنفّذِين، وهي أعراف تُخل بالقوانين التقويمية لثنائية الثواب العقاب

وتصريحات الجاسر بإقالة العاجز تهز القوانين التقويمية لثنائية الثواب والعقاب الكائنية وتعيد المسئول إلى صفوف المنفذين وترفع عنه حصانة الكمال والإبداع، وبذلك تنتفي متلازمة أن كل مسئول هو الأفضل والأبدع من غيره وهذا الانتفاء بدوره يسقط مفهوم «نجومية المنصب» فخضوع الجميع لقوانين الثواب والعقاب يُلغي أي وهم للتميّز المعنوي ويطبق مسلّمة المفاضلة ويُعلي الإنجاز على الأشخاص.

ولذلك لا أرى في «لفظ الإقالة» أي تهديد لرؤساء الأندية بل تذكير بقوانين ثنائية الثواب والعقاب التي يجب أن تطبق على الجميع والتذكير بمسلّمات المفاضلة ومعاييرها، والتشجيع على ممارسة» تقويم الذات» فرحم الله امرءاً عرف قدّر نفسه.

لكن نحن نُصدم ونستغرب لِم خالف أعرافنا الكائنية وليس للمُخالِف لقوانين العقلانية؛ وهو دليل على عدم سلامة منظومتنا التفكيرية.

إن موقف المتلقي من تقويم التصريح أو الخطاب الرسميين يخضع لمؤثر مهم هو المقارنة بين الأشخاص المنتجين للخطاب أو التصريح الرسميين أكثر من الأفكار المقَدمة من خلالهما؛ وتلك نتيجة طبيعية لخضوعنا لقوانين التفكير التي تفرضها علينا الكائنية، فذهن المتلقي سوف يسحب بتلقائية تصريحات الجاسر ليقارنها بتصريحات مما سبقوه من المسئولين وحسب هيمنة الكائنية على قوانين تفكيرنا ستناصر المقارنة المسئول السابق، والمرء يناصر النموذج الذي يؤيد مصلحته لمقاومة التغير وحسب قوانين التفكير العقلاني ستناصر المقارنة الجاسر لأنها مُحفزّة على التغير.

وخطورة تلك المقارنة أنها تدعم منطق الكائنية وتستمد معايير الصواب والخطأ من مُتفق الأعم الأغلب، المناصر للخطاب المؤيد لتلك الكائنية، وهو أمر يدعم مقاومة التغير ويهدد تفعيله، وأعتقد أن قوة تصريحات الجاسر قد تحمي ذهن المتلقي المثقف من الوقوع في تلك المقارنة؛ لأن المقارنة تبنى عادة على التكافؤ الكمي بين الأشياء وفق متساوية خطيّة» لا غالب ولا مغلوب» تقرر الخصائص ولا تفاضل بينهما. ودخول صفتي القوة والضعف على المتساوية الخطية للتكافؤ الكمي يحولها إلى ميزان تقويمي يُنتج معايير واختيارات من متعدد للمفاضلة بين النماذج ليستقر الاختيار على النموذج المالك لصفة القوة، وبذلك لا يصبح أمام الذهنية الكائنية إلا الخضوع لِم تفرضه نتائج من يملك القوة وإن خالفت «متفق الأعم الأغلب».

وأخيرا ؛ لا شك أن تغير الكائنية الثقافية تحتاج إلى إحداث صدمة لذهنيتها وأظن أن تصريحات الجاسر انتزعت انفعالية لا بأس بها نتيجة اهتزاز تلك الذهنية التي لم تتعود على جرأة التصريحات الرسمية للإدارة الثقافية.

لكن هل حققت الصدمة التي تدفع إلى تغير تلك الكائنية؟ الإجابة متعلقة بما سيترتب مستقبلاً نتيجة تصريحات الجاسر وحتى ذلك الحين تظل كل الأمور على الجواز متاحة.

لكن المؤكد هو أن تغير الكائنية الثقافية بمرافقها المختلفة يحتاج إلى مسئول ثقافي قوي.» أو أظن ذلك».

***

ملاحظة: الأسبوع القادم الحلقة الثالثة من العقل المعرفي.

جدة
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة