Culture Magazine Thursday  04/02/2010 G Issue 297
فضاءات
الخميس 20 ,صفر 1431   العدد  297
 
التطرف: خلل الثقافة
أحمد علي آل مريع

نخطئ حين نظنّ أن التطرّف يقدم من بلاد بعيدة، أو أنه يهبط على الأرض من سكان الكواكب المجاورة؛ لأن التطرف بطبيعته الثقافية ومكوناته الفكرية، غلوٌّ ينشأ داخل الثقافة نفسها معتمدًا على بعض أبنيتها الأنطولوجية والإبستمولوجية القارَّة والفاعلة، ومستخدمًا بعضَ مقولاتها الشائعة والنافذة، ولكن وفق نسق تاريخي ومعرفي مغاير من: العلاقات المنحرفة، والنظر القاصر، واللوازم الفاسدة، والاستنتاجات الخاطئة.

والتطرف إذا كان ينشأ داخل الثقافة نفسها، ويصدر عن بعض مقولاتها وأبنيتها، وهو إذا كان يشكل طرفًا نقيضًا للتساهل والتفريط؛ فإنّ هذا يدعو إلى: ضبط المفاهيم، وتحديد الأولويات، وتحرير مكامن الانحراف، وتتبع لوازم الخلل الذهني، والكشف عن بؤر الفساد المنتجة للمعنى الشاذ والقيمة المتوهّمة، ومن ثمَّ العمل على تصحيح التصورات من داخل الثقافة نفسها، وبواسطتها (بمنطقها - أصولها وأدواتها)؛ وذلك بتعزيز فرص الفهم الصائب، للقيم الثقافية، وفق رؤية معتدلة، وهذا يقتضي تعاضد جميع الأنساق العالمة - الفاعلة في المؤسسة الدينية المعتبرة والمجتمع لتشكيل المعرفة الصحيحة والتربية القيمة، ولتقديم الرؤية السويَّة، وضبط التصورات المفرِطَة أو المُفرِّطة، فإنَّ كلا طرفي قصد الأمور ذميم!!

- التلقي عن الثقات:

نؤكد هنا على تعزيز طريقة الأخذ والتلقي عن العلماء المعتمدين في التخصصات المختلفة، في مجال العلم الشرعي؛ ففي ذلك: رعاية للعلم وحفظ له، وتوجيه إلى طرائق الاستنباط الصحيحة، وتدريب الذهن على الفهم المعتبر، الذي يوافق النصوص، وما تستوعبه الشريعة وتتسع له في مجمل نصوصها. كما أن في ذلك إحياءً لسنة السّند العلمي في تلقي العلوم عن الأكفاء الأثبات، وهي سُنةٌ أخذت في الاندثار - للأسف - مع بواكير التعليم النظامي، وانتشار الطباعة الحديثة، بالرغم من أنه لا تعارض بين الجمع بين النظامين في الدرس الشرعي.

ومن المتيسر ابتكار طريقة علمية عمليّة فاعلة ومقننة للمزج بين الصورتين (القديمة والحديثة)، ويمكن لنا هنا أن نشير - على عجالة - إلى أنه توجد اليوم تخصصات علمية وإداريّة حديثة تشترط التدريب العملي الطويل، والمخالطة (للمعتمدين = المعتبرين) من العلماء المتمرسين بالتخصص والأخذ عنهم، في حقول مثل: الطب البشري، والطب النفسي، والإعلام، والقانون، والمحاماة، والمحاسبة..

أن هناك أعرافًا، (فوقَ مهنية) تؤطّر الممارسات العلمية والفنية، وتصنّف جزءًا أصليًّا من عملية الإتقان والقدرة، ولا يكتفى - كما قد يتبادر إلى الذهن - بالقيود العلمية والمعرفية البحتة، أو القدرة الآلية على الأداء الناجح فحسب، ومن ثمَّ فإنَّ السند لا يعني مجرد التحمل والأداء (الرواية) - كما قد يظن بعض الفضلاء -، ولكنه (مدرسة) في التخلّق بأخلاق طالب العلم، والتربية الشرعية، وصقل لخصوصية النظر والفهم، ومنهجيّة التفكير، وتوجيه لملكة الاستنباط... وليس في هذا تضييق على تعدد الفهوم، ولا حجر على التجديد، ولا تقييد لأسباب النظر العبقري!! ولكنّ فيه حفظاً لجناب العلم من المتطفلين، وتحقيقًا لمبدأ مهم، وهو مبدأ: التخصص وأخذ العلم عن أهله المعروفين به، الجديرين بما نالوه من منزلة، وتربية للعقل المتعلم، وتوجيه المتلقي للطريقة الحكيمة في النظر والاستدلال والاستنباط، وفي ذلك إتيان إلى البيوت من أبوابها. ومما يؤكد أن سنة السند العلمي لضبط تلقي العلوم عن العلماء المعتبرين، وصقل ملكتي الفهم والتفكير، وتوجيه الاستنباط، لا تتنافى مع التجديد والتنوع والثراء الحقيقي! المبني على العلم والمعرفة والنظر المسدد؛ (مما يؤكد ذلك) ما نجده من تنوع في الآراء الفقهية والاجتهادات داخل المدرسة الفقهية الواحدة في العصر الواحد، وفي المدرسة الواحدة على امتداد العصور بين السلف وخلفهم، وما نجده من اختلاف بين الشيوخ وتلاميذهم، وبين تلاميذ العالم الواحد في المسألة الواحدة أو في المنزع الفقهي، وبين المدارس الفقهية والمذاهب المعتبرة بعضها مع بعض في التاريخ الإسلامي من تنوع واختلاف في الاجتهاد والنظر والمنزع الفقهي، ويكفي أن يراجع المستعجل كتابي: ابن رشد وابن قدامة - رحمهما الله تعالى - الموسومين ب: بداية المجتهد و(كفاية)

نهاية المقتصد، والمغني في الفقه.

******

ذكر ابن رشد أنه قد سمَّى كتابه: بداية المجتهد وكفاية المقتصد، ولكنه اشتهر قديماً وحديثاً باسم: بداية المجتهد ونهاية المقتصد، ينظر: ابن رشد: بداية المجتهد ونهاية المقتصد: 2-291.

باحث وأكاديمي سعودي aaljooni@hotmail.com * أبها
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة