Culture Magazine Thursday  01/07/2010 G Issue 317
فضاءات
الخميس 19 ,رجب 1431   العدد  317
 
ما يأخذه الموتى
لمياء باعشن

من قال إن الموتى لا يأخذون معهم شيئاً؟

حين توفي والدي رحمه الله، تحاشينا الدخول إلى غرفته لفترة، ثم استجمعت قواي ووقفت على بابها ذات يوم.. كان لا بد من إفراغها من محتوياتها بعد أن فرغت منه.

كدت أن أدق الباب ليأذن لي بالدخول.

دخلت إلى غرفته، جلست على كرسيه، لامست سطح مكتبه، فتحت خزانة ملابسه، وشعرت أني أقتحم وأتطفل بلا استئذان لأول مرة، فكل أشيائه قد زال عنها رداء خصوصيته وبقيت من بعده مكشوفة دون حمايته. هذه أحذيته كانت تريح قدميه، وهذه نظاراته كان تعين عينيه، وتلك مخدته كانت تسند رأسه.. كل شيء تركه ظل في مكانه من بعده، لكنه فقد (هاء) كانت تعود به إليه..

أشياؤه كانت تمثله، حملت سماتها من ضرورتها الوجدانية له ووظيفتها عنده. كل شيء عاد بدونه إلى حيادية صامتة، فقلمه مجرد قلم، ومشط شعره مجرد مشط، بل وكل كتبه تحولت إلى كتب، وفي مرآته نظرت إلى انعكاس صورتي، فتسلل إلى شعور غامر بأنني ما عدت ابنته، أصبحت أنا أيضاً ابنة فقط دون أب.

شعرت لحظتها بمعنى اليتم، هو ليس الحرمان ولا الوحشة ولا الحنين، بل إن اليتم هو إحساس أعمق بانعدام الانتماء إلى مصدر الانبثاق إلى الوجود، إحساس بالانفصال التام عن وسيلة الوصول إلى موقعنا في الهنا والآن، بالانقطاع الكامل عن الشاهد الوحيد على لحظة التكون الأولى.

قرأت كثيراً في طفولتي قصة عنوانها (أطفال الغابة) تحكي عن زوجة أب لا تطيق أبناء زوجها وتجبره على التخلص منهم، فيأخذهم إلى الغابة، فينامون مطمئنين في أحضانه، ويتسلل هو خلال الليل تاركهم وحدهم. هل يتخيل أحد شعور أولئك الأطفال صباح اليوم التالي؟ مهما بلغت براعة الكتاب في وصف ذلك الرعب فلن يعرفه حقيقة إلا من ذاق لوعة اختفاء الوالدين. اليتم هو أفول الحياة كما نعرفها وتحولها إلى غابة كئيبة مخيفة، طرقها متشابكة، ومحاولة الخروج منها دخول في متاهة عويصة.

عبأت أشياء كانت قد حازت على اهتمامه، وكدستها مفرغة من كل دلالة، علّها تجد مالكاً آخر يمنحها دفء الانتماء المفقود. حاولت أن أحتفظ ببعضها لتكون ذكرى لوالدي. نظرت إلى ساعته واستبقيتها، لكنها كانت مجرد ساعة، كل قيمتها في نظري تكمن في أنها انتمت إليه ذات يوم، هو الذي انتقاها، هو الذي اشتراها، وهو الذي ارتداها، كانت قيمتها الحقيقية في تمسك والدي بها، كانت في المعنى الذي أعطاها إياه، معنى أخذه معه.

الموتى يأخذون جوهر كل الأشياء: المعنى. كل الأشياء من بعد الراحلين تقترب من العدمية. في لحظات الاحتضار تبدأ المعاني في الاندحار وتنخرط قسراً في غياهب الثقوب السوداء. حين مات أبي وقفت في غربة اللامعنى وقد ضاعت مني مرجعيتي، وهل كنت إلا معنى صنعه وعيه الإنساني؟ أما دلفت أنا إلى أبجدياته فتشكل وعيي بمداركه وتأملاته وقناعاته؟ كم حملت إليه أسئلتي وطرقت ذات الباب أروم أجوبة قدمها لي دون تردد، ألم تتغلغل أجوبته في كياني حتى شكلت جوانية وعيي؟

الوجود الإنساني يمثل وجوداً للمعنى وفي المعنى، وكل شيء حولنا عدم لا يعرف الحياة إلا من خلالنا، نحن نعيه ونمنحه قيمة الوجود، وحين نغيب يتلاشى في دياجير العتمة الصامتة. بل إن تفاعلاتنا التمعينية مع موجودات الكون خارج ذواتنا هي تفعيل لوجودنا وإنقاذ له من ذات العدمية التي تتهدد الأشياء. وعينا بالأشياء من حولنا هو وعي بحضورنا في الوجود، فاحتياجنا لبعضنا متبادل كما يرى سارتر.

بعد رحيل والدي، قدّم العالم لي نفسه لأدركه باستقلالية، لأعيد تشكيله بعيداً عن الصيرورة الأبوية. ولقد حاولت تجاوز الثبات الذي تربيت في كنفه، حاولت مغايرة المعرفة التراكمية في داخلي، لكنني تجمدت خوفاً وقد غمرني إحساس بالعقوق الغيابي، سكنت أسئلتي احتراماً واختارت ألا تخرج عن الطوع.

لكنني في غرفته التي خلت منه ومن أشيائه، وقفت في باطن الفراغ: أنا انتماء إليه مقطوع، أنا اتصال به مفصول! مقطوع، مفصول، وبالضرورة: مستقل. الموتى يأخذون معهم المعنى، ذلك المعنى الذي منحوه للأشياء من حولهم، لكنهم لا يستطيعون أخذ المعنى المنتظر، ذلك المعنى المرتقب للأشياء، فلكل الأشياء قابلية مفتوحة للتمعين. كل وعي يسبغ معنى على الأشياء فتصبح ذلك المعنى، وحين يغيب، تظل الأشياء في حالة ترقب لوعي جديد يعطيها معاني أخرى، قد تشابه وقد تختلف.

تماماً مثل فعل القراءة: تظل الكتب وأغلفتها مغلقة في حالة ترقب وانتظار، تظل رغم صفحاتها المزدحمة بالكلمات في وضع صامت، حتى تتلقاها يد القارئ، فتفتح دفتيها وتقابل الأحرف عينيه، فتتحرك المعاني ويرتفع صوت النص حتى الصخب، ويصبح الكتاب في عداد الأحياء. لكن حين يتوقف فعل القراءة، يعود الكتاب إلى حالة الترقب، وينتظر قارئاً آخر يمنحه معاني أخرى ويبعث فيه الحياة من جديد.

صحيح أننا نولد في عالم قيّمه الآخرون، عالم يتمثل ترجمه وعيهم، لكن انتماء الإنسان لوالديه لا يكون أبداً تماثلاً بالكامل، ذلك أن الإنسان ليس شيئاً ينتظر المعنى، بل هو مانح المعنى للأشياء، هو الوعي الذي يستوعب شيئية الموجودات فتنتظم في تشكيلات متطورة داخل نسق دلالي محكم. أشياء أبي صارت إلى غيره وانتمت إليه، وبقيت أنا ابنته، غير قابلة للانتماء إلا له، لكنه انتماء لا يكتمل إلا في سياق تواصلي يشبه ما يسميه نيكولاس لوهمان بالاستقرار الديناميكي. ما يرثه الابن من الأب هو استيداع في وعيه، لكنه إرث يترك مساحة واسعة للابتداع لأن كلاهما يتجاوز ذاته ويؤصل لاختلافها.

المعاني لا تكون إلا مفتوحة النهايات، وتعدد أوجهها يقتضيه تعدد جهات التناول التي تنتج وتداول وتروج القيم الدلالية الناتجة عن تجارب الآخرين. عملية إنتاج المعنى بهذا الشكل لا تخضع لضغوط التمثلات الجاهزة للفرد، ولا تعترف بالنمطية والانقياد المطلق. مسيرة تحقق المعنى تفتح دلالاته المعلنة و الثاوية على كل الاحتمالات.

الموتى يأخذون معهم معانيهم الخاصة المرتبطة بوجدانياتهم، لكنهم أفراد يشتركون مع الجماعة في معاني عامة تبقى خلاصة وحصيلة ومجمل يرثها أبنائهم. حمل والدي معاني والديه من قبل، ولم يكن وعيه فردياً، بل كان وعياً جماعياً، هو نتاج البشرية كلها. اندراج الأفراد في مشروع جماعي هو ضرورة تاريخية لإنتاج معاني ثابتة ومتجددة في آن لا يولدها إلا الانتماء المستقل.

****

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة 7712 ثم أرسلها إلى الكود 82244

جدة lamiabaeshen@gmail.com
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة