Culture Magazine Thursday  01/07/2010 G Issue 317
فضاءات
الخميس 19 ,رجب 1431   العدد  317
 
مثقفاتنا من (قراءة الواقعة الثقافية) إلى (صناعتها)
خالد الرفاعي

في مقالتي السابقة عرضتُ لنموذجٍ واحد من نماذج قراءة المرأة السعودية للوقائع الثقافية المحلية، وأبرزتُ كيف أنّ التماسك البنائي، والتراتبية، والتعددية، والضبط المفاهيمي الإجرائي...، سماتٌ لبنية قراءتها من حيث الكلّ، وهي سمات تفضي بمن يتدبرها إلى التشكيكِ في مقولات التبعية والتحقير والتهوين التي ربطها النقد السلطوي بمنتج المرأة ربطاً لا يمكن حلُّه بكلمة واحدة أو كلمتين. وفي هذه المقالة سأكمل بناء الصورة التي ابتدأتها في المقالة السابقة، منطلقاً من سؤال وجهه إليّ أحدُ القراء، قال فيه: "ما الذي جعل قراءة المرأة للواقعة الثقافية أكثرَ نضجاً من قراءة الرجل؟"، ولقد اتخذته منطلقاً هنا؛ لكونه سؤالاً متشظياً، لا يكشف عن أسباب الحالة الراهنة للخطاب النسائي الثقافي فحسب، وإنما يتجاوز بنا ذلك إلى الكشف عن مآلاته أيضاً -كما سيتضح-.

بالنسبة إليّ لا أجد إجابة عن هذا السؤال أصدق من القول بأن النضج الذي نلمسه في قراءة المثقفة السعودية -قياسا على قراءة المثقف- يعود إلى كتابتها من موقع الأقلية؛ ذلك بأنّ وجودها داخل دائرة الأقلية لأي سبب من الأسباب يفرض عليها أن تتجهز بالكثير من الأدوات القرائية الفاعلة، وأنْ تتسلّح بقدر كبير كبير من الموضوعية؛ لتفرضَ نفسها داخلَ عالمٍ استولى عليه الرجل منذ ابتدأ تاريخ الكتابة، ولتحفر لاسمها مكاناً في أرضٍ يصعبُ فيها الحفرُ والتنقيبُ لمن لا ينتمي إلى قبيلة ذات عدة وعدد، ولا ينطوي على علم بجغرافية المكان والزمان، وهذا ما لا يحتاجه المثقف (بالطبع)؛ لكونه من حمام الدار -كما يقولون-، فهو ولد وترعرع في نسق لغوي مذكر، وفي سياقات ثقافية لا تعارض رجولته ولا تشاغب ذكوريته، فما عليه -والحال هذه- إلا أن يقرِّب ريشته ودواته؛ ويكتبَ ما شاء متى شاء على الصيغة التي يشاؤها.

ما أقوله عن الخطاب الثقافي النسائي يقوله الراصدون الواعون عن خطابات الأقليات كلِّها دون استثناء، فهي تتأسس على مستوى هادئ من اللغة، وعلى رغبة واضحة في الحوار، واستعداد مكشوف للتعايش مع الفكر المختلف، وما إلى ذلك من سمات تقل كثيراً في خطابات (الأكثرية) التي لا تحتاج إلى مساعدات لإثبات الوجود، ولا إلى كسب قبول المتلقي أو السياق.

نضج الخطاب النسائي مرتبط -إذن- بالكتابة من موقع الأقلية، وهو ارتباط وثيق، مستمر في حالات السعة والضيق، والوجود والعدم، وإذا تقرر هذا قادنا باطنه إلى أن هذا النضج سيتفكك وسيتخلخل عندما تتجاوز المرأة موقعَ الأقلية إلى موقع الأكثرية، أو حين تبرح الشعورَ بالأقلية إلى عدم الشعور بها، وعلى هذا الأساس يمكن أن نقول: إنّ تقدّم المرأة على المستوى الاجتماعي يقابله بالضرورة تأخرها على المستوى الذهني/ الثقافي، وهي مقولة مستمرة في الزمان، وليست خاصة بخطابات المرأة وحدها، نجدها حين نوازن بين خطاب المترشح أثناء الانتخابات وخطاباته بعد أن يتربع على كرسي الرئاسة، وحين نوازن بين الخطاب العلماني في البلاد الإسلامية والخطاب العلماني في غيرها، وحين نوازن بين خطاب المفكر خارج مؤسسات الدولة وخطابه داخلها، بل حين نوازن أيضاً بين خطاب المثقف في صحيفة وخطابه في صحيفة أخرى...إلخ، إنها خطابات تستحضر موقع الذات من ذات المتلقي، أكثر من استحضارها موقع الأفكار من سياقات التلقي، وهي امتدادٌ طبيعي لمقولات أنساقية، نتحسس نتوآتها في أدبنا العربي من مثل قول أحدهم:

شجاعٌ إذا ما أمكنتني فرصةٌ

وإن لم تكنْ لي فرصةٌ فجبانُ

موقف المثقفة السعودية من الإعلامية ميسون أبو بكر يمكن أن يكون مجالاً لاستشراف واقع الخطاب الثقافي النسائي حين ينتقل من حال الأقلية إلى حال الأكثرية، أو من حال الشعور بها إلى عدم الشعور؛ لكون هذا الموقف نشأ خارج الدائرة التي تنشأ فيها مواقف الخطاب النسائي المحلي عادةً، فهو أولاً من مثقفة عن قضية تخصُّ المثقفة ولا دخل للرجال بها، ثم هو -ثانياً- يعالج قضية طرفها الأول امرأة وطرفها الآخر امرأة أيضاً، وليس للرجل موقع مهم فيها، وهذا ما يفسِّر دخول عدد من المثقفين على الخطّ، وتضامنهم الجميل مع المثقفات الصانعات لهذا الموقف/ الواقعة.

حين نتدبر المقالات التي عبرت عن تموقف معين من ميسون نجدها تتضمنّ عدداً من النقاط، أهمُّها الآتي:

- الاعتراض على منح ميسون امتيازات خاصة.

- الاعتراض على تمثيلها المثقفة السعودية مع وجود مثقفات سعوديات قادرات على تمثيل أنفسهنّ وبلادهنّ.

- إدانة تسلطها على المواهب الشابة في الإعلام السعودي.

نقاط ثلاث، هي من الأهمية بمكان، ولستُ مبالغاً إذا قلت: إنّ كل واحدة منها تصلح لطرح خاص، وإنّ طرحها يجعل منها واقعةً ثقافيةً بامتياز، لكننا حين نتدبر طريقة عرض هذه النقاط نسجِّل انحرافاً سافراً في بنية الخطاب النسائي، تحلُّ فيه الأحادية محل التعددية التي رصدناها في المقالة السابقة (حيث الكتابة من موقع الأقلية)، وتغيبُ فيه الكثير من الأدوات القادرة على التأويل الجيد، والتحليل الفاعل، والإنتاج الكاشف، وكأننا مع هذه المقالات أمام صورة جديدة للذكورية، لكنه بين مثقفة وأخرى...، فقط تغيرت نبرة الصوت، وملامح الصورة، وظلت السلطة قاسماً مشتركاً بين الصورتين !!

(بكل تأكيد) لا أجد ما يضير في أن تطالب المثقفة السعودية بالمساواة التامة بينها وبين ميسون (التساوي في الفرص)، أو بين كل مثقفة وأخرى، أو حتى بينها وبين المثقف (المساواة)؛ لكونها مطالبات حضارية وواعية ومشروعة أيضاً، وربما بدت واجبةً في بعض تعرجات الزمان، لكنني لا أفهم أن تقوم هذه المطالبة على الإقصاء التام، وشخصنة القضايا، وتشويه الآخر، والحطّ من قدره، والاستعداء عليه، وكلّ هذه السمات كانت حاضرة فيما كتبته المثقفة السعودية عن هذا الموقف، ويكفي أن نستظهر بعض الأسطر لنرى تهكماً بارزاً بموهبة ميسون الشعرية، وتعددها الإبداعي، وعملها الإعلامي، يجاوره عزف بغيض على وتر الجنسية، وتقليل من شأن برامجها الثقافية، واعتماد على قال وقالت وقالوا وما يندرج تحت مؤسسة (يقولون)، بل إن إحدى المثقفات تحولت من المطالبة بتساوي الفرص إلى المطالبة بمصادرة الفرص من ميسون، عبر تقديم تقويم لنشاط ميسون الإبداعي والإعلامي لا يخلو من كلمات ساخرة، وأخرى قيد السخرية، ولكي نعرف أن هذا الخطاب سلطوي أكثر منه ثقافياً، علينا أن نتساءل لماذا سكتت المثقفة السعودية عن نقد إبداع ميسون الشعري، أو عملها الإعلامي، أو حضورها الثقافي إلى حين علمها بتعيينها مستشارة ثقافية (لست متأكدا من حكاية التعيين)؟ لماذا فتحت قضية الاستشارة باب النقد على مصراعيه بعد أن كان مقفلا بآلاف الأقفال؟

سؤال تؤكده قراءة الخطاب الذي صنع هذا الموقف، فمن يتتبع المقالات التي تحدثت عن ميسون يجدها على المستوى البنائي متفككة من الداخل، لا على مستوى عرض الرؤية فحسب، ولكن على مستوى الأساس اللغوي أيضاً، حيث التحول من حالة الجدية والعلمية والموضوعية إلى حالة من السخرية، وعلى مستوى الإجراء أيضاً حيث التخلي عن الاعتماد على حقائق مشتركة إلى الاعتماد على حقائق خاصة لا يمكن للمتلقي أن يطلع عليها؛ لتعطي المثقفة لنفسها في هذه الحالة زاوية الرؤية الوحيدة، فتكون الراوية العالمة بكل شيء، وهي صيغة من صيغ الإقصاء في بنية الخطاب الثقافي - كما نعلم -.

إن بنية خطاب هذا الموقف تبدأ بمقولة (عاملونا كما تعاملون ميسون) لكنها سرعان ما تتحول إلى مقولة مناقضة، هي: (عاملوا ميسون كما تعاملوننا)، وإذا اتفقنا على أن الخاتمة منتهى زحف السياقات، ومظنة تلخيص الرؤى -خاصة في المقالة-، فإنني أرى أن هذه البنية تجاوزت إقصاء الآخر (كما هو المعتاد في الخطاب الذكوري) إلى إقصاء الذات أيضاً إذا كان إقصاؤها سيؤدي إلى إقصاء الآخر، وهنا نجد أنفسنا وجها لوجه أمام (غيرة الحريم)، ذلك المفهوم الذي كرسته الثقافة الشعبية، وجعلته سيفا مصلتاً على فكر المرأة في الخطاب الشعبي، وسأشير هنا إلى (نكتة) تخدم هذا السياق، تقول إنّ هناك رجلاً أراد اصطحاب زوجتيه إلى مكان ما، وحين همّا بركوب السيارة أمر زوجته الأولى أن تركب في (الصندوق) وأن تخلي المكان الداخلي في السيارة له ولزوجته الجديدة، وفي الطريق ضاقت المرأة الأولى بحالة الحبّ التي جمعت بينهما، فرفعت يديها إلى السماء بكل خشوع، ودعت عليهما بحادث شنيع!!

تعي جيدا تلك المرأة أن الحادث الشنيع سيضرُّ بها أكثر من إضراره بهما؛ كونها في (صندوق) السيارة وهما داخلها، لكنّ حالة الانفعال التي سيطرت عليها قوّضت أساسها الفكري، وجعلتها ترحب بالموت إذا كان يحمل معه موت ضرّتها !!

صورة هذه المرأة لا تختلف كثيراً عن صورة المثقفات حين انصرفن عن المطالبة بالمزيد من الحقوق إلى المطالبة بمصادرة الحقوق التي حصلت عليها ميسون، وهنا ينبغي أن يعي المتلقي أنني أتحدث عن خطاب (منتج لغوي) وليس عن فكر، وأنني أتحدث عن شخصيات المثقفات لا عن شخوصهنّ، إذ ليس من المنطقي إطلاق صفة الغيرة على أكاديمية واعية بحجم الدكتورة باعشن مثلاً، لكن الخطاب الذي تنتجه باعشن لا يخضع للحالة التي انتهت إليها فحسب دون أن يمرّ بحالات خضوع مماثلة لحالات مرّت بها من قبل، تتجلى فيها سطوة الأنساق والسياقات معاً.

لا تسمح لي المساحة المحددة لتقديم تحليل بنائي للمقالات التي كتبت في هذه الواقعة، لكنّها من حيث الجملة تتأسس على صخب لغوي، واختلال على مستوى الرؤية، وارتباك على مستوى الإجراء...، وكلها -كما نرى- تقف في حقل دلالي مقابل للحقل الذي تنتمي إليه صفات الخطاب النسائي من موقع الأقلية -كما في مقالتي السابقة-. وعلى هذا يمكن القول إن انتقال المثقفة السعودية من قراءة الواقعة إلى صناعتها يعني وضعها اللبنة الأولى لانهيار خطابها الناضج، مالم تقم بقراءة واعية لتاريخ الخطاب الثقافي الذكوري، الذي يستعد قريباً للاحتفال بموته روحياً.

خاتمة: بما أن هذا العدد هو العدد الأخير من المجلة فإنني أتوجه بالشكر الصادق، والتقدير الكبير، للدكتور إبراهيم التركي، وأعضاء قسمه المشرق مقابل الخدمة الجليلة التي قدموها لثقافتنا من خلال (الثقافية)، وكلي رجاء لنا ولهم ولكتاب المجلة وقرائها بإجازة سعيدة، وبحياة مملوءة فرحاً وسروراً، وعلى الخير نلتقي - بإذن الله -.

Alrafai16@hotmail.com حائل
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة