Culture Magazine Thursday  01/07/2010 G Issue 317
فضاءات
الخميس 19 ,رجب 1431   العدد  317
 
رفيف
من فنون ذبح الآخرين
د. فاطمة الوهيبي

(فلان سرقاه السكينة) مثل مصري مدهش. وهو بالضرورة ذو صلة بالذبح والجزارة. ومجازًا له دلالات عميقة وقوية جدًا لوصف الشخص الذي لا يدرك ما هو فيه من خطر، ولا يحس بما يحدث له على نحو واع. وليس بالضرورة أن يكون هذا الشخص مراهقًا أو صغير السن أو قليل التجربة في الحياة، بل إن أخطر وأدهى من (تسرقهم السكينة) من لاح لهم وهج الفرصة في آخر العمر، ودخلوا في سعار الركض نحوها، لأنها في رأيهم ربما الفرصة الأخيرة التي ينتصفون فيها لأنفسهم، ويريدون من خلال ما قد توفره لهم من جاه أو مال أو سلطة أن يثبتوا شيئًا ما لأعدائهم، أما أحباؤهم فليسوا أساسًا في بؤرة الوعي أو الاهتمام، وربما يحسن التخلص منهم، ولعل ذلك من أهم شروط ودواعي المرحلة!!

فمن أين جاءت الصورة في المثل؟ المعروف أن السكين قبل الذبح تُجهز وتُشحذ حتى تنجز مهمتها بسرعة وربما من أجل ألا تتعذب الذبيحة!! (هذا إذا أدخلنا الجانب الإنساني والعامل الرومنسي في هدف الشحذ، وهذه مفارقة يا سادة وليست مزحة!) والسكين ما دامت مسنونة حين تمر على عنق الذبيحة المفروض أن الذبيحة (تفرفر) أو ترفس إشارة لردة فعل الجسد على عنف الذبح، وإشارة لبدء خروج الروح من الجسد. أما (اللي سرقاه السكينة) فالسكينة المجازية تذبحه، وتنهي حياته الحقيقية مع أحبائه والناس الطيبين من حوله الذين بنى تجاربه في الحياة معهم وربما كانت تلك أعمق تجاربه فيها وأكثرها غنى وتميزًا. السكينة المجازية تجهز على هذا كله وهو مأخوذ، ولا يبدي ردة فعل تجاه ذبحه (لا يفرفر ولا يرفس ولا يعترض!!) ولا يبدي ردة فعل تجاه الخطر الذي هو فيه، لأنه مبهور أو معجب أو مأخوذ بما هو فيه، وبما هو مقبل عليه من مزيد انجراف ومزيد تبلد وانعدام الإحساس بما ينهار منه وما يفقده تدريجيًا من نفسه ومن أحبابه وأصدقائه والمقربين منه أو الذين كانوا كذلك، لأن القطع مع الماضي وربما مع الأنقياء فيه من شروط المرحلة أيضًا!

واستخدام المثل بهذا الإطار يضرب كما هو واضح لمن هو ذاهل ومشغول (على فكرة لازم يكون مشغول جدًا حتى تكمل الصورة) عمن يجب أن يهتم بهم، ومشغول أيضًا عما يجب أن يلتفت إليه من مهام، أو يلتزم به من قيم بسبب انغماسه وانخطافه نحو أمر يعمي عليه بصيرته؛ فلا يدرك خطورة ما يتخلى عنه، ويفقده تباعًا وهو يتقدم صوب قاتله والسكينة المرهفة التي في يده.

قد يكون القاتل مشروعًا أو مؤسسة أو خطة أو عرضًا مغريًا يلوح بالمال وربما بالسلطة والجاه والنفوذ، وقد لا يكون المشروع سيئًا بحد ذاته. لكن يستسهل الشخص في سبيل ذلك أن يضحي تدريجيًا وبنعومة بأشياء عزيزة ولا تعوّض كالحب والسكينة والعلاقات الحقيقية المخلصة والثابتة، فما دام سيحصل على مرتب لرقمه يسيل لعابه، وما دام سيتدرج سريعًا في صعوده السلم الذي يحلب البقرة ذهبًا وفرصًا فلماذا يهتم أو يحس؟ ولم ينظر للخلف أو لمن هم هناك، أو لمن هم أسفل السلم. هو مهموم، وصاحب رسالة ومشغول والعالم التعبان القديم يريد أن يعطله! (لا ألهينك إني عنك اليوم مشغول!!)

إنها السكّين، ياسادة. وهي في المقابل أيضًا تذبح المحيطين أو من كانوا يحيطون به. السكينة تعمل على الجهتين؛ لأنه وهو مذبوح وسعيد بها لا يمكنه أبدًا أن يحس بمن ينزفون من حوله بسببه. فهم يعانون، ويلحظون تبدله وتغيره ودبيب التشوهات في شخصه وشخصيته بدءًا من الانتفاخ بالنفس وانتهاءً باحتقار مشاعر الآخرين وتسفيه وجهات نظرهم حينما يواجهونه بالتحولات والتشوهات التي لحقت به، وهو مسكين ما صار عنده وقت يحس!

هذه الآثار على الآخرين هي جزء مما أسميه أنا (وهو مثل خاص من ابتكاري) الذبح بالملعقة، ولهذا المصطلح حديث آخر آمل ألا يذبح أحدًا!!

****

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة«7845» ثم أرسلها إلى الكود 82244

الرياض rafef-fa@maktoob.com
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة