Culture Magazine Thursday  31/12/2009 G Issue 292
فضاءات
الخميس 14 ,محرم 1431   العدد  292
مقاربة عاجلة
بين عصر الفلسفة وراهن الأدب!
فيصل أكرم

 

يقول فرح أنطون (1874 - 1922) في كتابه (ابن رشد وفلسفته) واصفاً اضطهاد الفلسفة بالعصر الذهبيّ:

(وكان في الأندلس يومئذ حزبان، حزب ينصر الفلسفة والفلاسفة وحزب يكرهها. أما الحزب الذي يكرهها فهو حزب الشعب، وسبب ذلك أن عامة الشعوب في كل مكان مطبوعة على بغض الامتياز وإعلان الحرب عليه وعلى أهله، سواء كان ذلك الامتياز بالمال أو بالفكر)*.

هكذا لخّص فرح أنطون، أحد أهم الأسباب التي أدت إلى ازدهار الفلسفة في عزّ اضطهادها، ووصف وحلل وبرر انتشار الفلسفة - أو انبعاثها - في الزمن الأندلسيّ على يد ابن رشد (1126 - 1198م) فحين يضطهد الشعبُ فئة ما، أو يبغض توجهاً ما، فإنه بذلك يؤسس مكانة مميزة لتلك الفئة وذلك التوجه.. ونستطيع إسقاط هذه المقاربة على أيّ فئة وأيّ توجه، فإن أخذنا (الأدب) كمثال وشاهد على عصر لا تجافي الشعوب العربية (العامة) فيه شيئاً كجفائها للأدب، سنكتشف أننا نعيش العصر الذهبيّ لهذا المجال، بكل تفاصيله ومسبباته وملامحه، ففي حين تسعى المؤسسات الاعتبارية لتكريس القيم الأدبية كمواد مطبوعة في كتب تضاف إلى المكتبة العربية، نجد أن عامة الشعوب - أو الأغلبية منها - بمنأى عن كل ذلك وبمعزل عن التعاطي معه كجمهور.. بل هم تمادوا في تمييزه حتى جعلوه افتراضاً كمادة للبحث العلميّ (الأكاديمي) فحسب، مبتعدين به عن تعاطيهم اليوميّ مع جماليات الحياة!

كم هو مسكين هذا الأدب (المميز)!

هو كذلك، واقعاً، حتى تسلل فتغلغل في وسائل النشر الإلكترونيّ التي لا تتطلب أدنى تميّز للوصول إلى صفحاتها كتابة وتعليقاً وتحكماً إشرافياً مشاعاً للممارسة من قبل أيّ شخص يملك ال(الدومين) اللازم لتشغيل موقع (رسميّ)!

قد يعتبر البعض - بخاصة الأدباء المعتزين بتميّزهم - إن هذه الحالة التي وصلنا إليها ساهمت وستساهم أكثر في انحدار الأدب وسقوطه من عليائه!.. غير أني أتصور أننا نعيش عصره الذهبيّ؛ كيف؟

السطور التي نقلتها من كتاب فرح أنطون، وابتدأتُ بها مقالي، تعني - كما أفهم - أن اقتصار أيّ توجه من التوجهات على فئة معينة من الناس مدعاة ومبرر لتجنب عامة الناس ذلك التوجه وتلك الفئة، وقد يصل التجنب إلى حد التجنّي المتمثل في البغض والمعاداة والاضطهاد.. فقد كان معروفاً عن الفلاسفة (بخاصة ابن رشد) الرفض القاطع لكل محاولة من غير أهل العلم للخوض في الجدل الفلسفيّ.. وكلّ محاولة من عوام الناس كانت تنتهي بتسفيه النخبة للرأي المتطفل على هذا المجال!

وهذا ما جعلني أتأمل في الواقع.. فالمرحلة التي يعيشها الأدب راهناً مفتوحة حدّ المشاع لكل محاول أو مجرّب أو حتى متطفل (وما أكثرهم!) على الكتابة والحضور الأدبي (شعراً وسرداً) وقد كنتُ أظنّ أن في ذلك مقتل الأدب والأدباء، حتى بدأت الصورة تتضح بازدياد أرقام مبيعات الكتب المهمة، وكثرة الاستشهاد بها وتداولها في منتديات العامة.. الشيء الذي يؤكد ما ذهب إليه فرح أنطون من أن (الامتياز) بغيضٌ لدى الناس!

وعليه، فإنني متفائل جداً بهذه الثورة الإلكترونية التي أثمرت مئات المواقع والمنتديات الأدبية، لأنها تساهم في تذليل عقبة (الامتياز) وتحطيم البروج الوهمية التي نأت بالأدب والأدباء زمناً كاد فيه الناس - في عالمنا العربيّ عامة - أن يصلوا مع الأدب والأدباء ما وصله الأندلسيون مع الفلسفة والفلاسفة.. حتى حللنا بعصر الفضاء الإلكتروني المفتوح للجميع، ولا أتردد في وصفه ب(المنقذ) بعد ما نال الأدب والأدباء أقصى ما يمكن من (الامتياز) المؤدي إلى بغضاء الناس..!

لهذا أجدني، في هذه المرحلة، أبارك كلّ محاولة تخرج من الفضاء المفتوح إلى غمار الرهان - أو المحك - الحقيقي للنشر والظهور، وإن أتت من هاوٍ أو حتى متطفل!

فكلما ازدادت أعداد الهواة والمتطفلين على توجه ما ازداد اقتراب الناس من ذلك التوجه ومتابعتهم لأهله والمشتغلين عليه والمحترفين فيه..

****

* فرح أنطون: ابن رشد وفلسفته، الطبعة الثالثة 2007، دار الفارابي، فقرة بعنوان (نصرة الفلسفة واضطهادها عصرٌ ذهبيّ) ص63

الرياض f-a-akram@maktoob.com

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة