Culture Magazine Thursday  31/12/2009 G Issue 292
فضاءات
الخميس 14 ,محرم 1431   العدد  292
نعم: لوطنٍ تُمثّلهُ كلُّ الضمائر... لا: (للإمَّعيّة)
د.أشجان هندي

 

لو أقمنا حوارًا وطنيًّا، وتخيّلنا وجود تيار مستقل، ثم أسميناه تيار (محبو الوطن)؛ فإنّ أعضاءه سيكونون ممن يتفقون مع (هم) في أشياء، ومع (نحن) في أمور، ومع (هؤلاء) في قضايا، ومع (أولئك) في أفكار.

أولا: لأن كل هذه الضمائر تمثّل الوطن.

وثانيًا: لأن من يمثّلون هذا التيار ينتمون بهويتهم، وذاكرتهم ومرجعيّتهم وثقافتهم - شاءوا أم أبوا- إلى كل هؤلاء، وينشغلون - إنسانيًّا- بمصلحة هؤلاء وهؤلاء، ويحترمون كل الضمائر؛ المتصل منها والمنفصل وإن اختلفوا معها.

والأهم من هذا وذاك أنهم ينتمون - وفقًا لتصنيفهم البشري- الى (مجموعة الإنسان غير القابضة).

إنّ استراتيجيّة هذا التيار - المُتخيّل- وأهدافه تتمثّل في مصلحة الوطن، والعمل من أجله حتى لو عاش من ينتمي إليه خارج الوطن. فعشقُ الوطن وتقديم مصلحته على كل المصالح لا تحده الحواجز الجغرافية التي يرسمها البشر، ولا ينبغي أن تحدّه.

هذا التيار لا يرفض (الآخر) كلّه، ولا ينحاز إلى ضمير (نحن) كلّه؛ سواء على مستوى الوطن، أو على مستوى العالم أجمع. ومنعًا للبس، وتفادياً للأحكام الجاهزة والأخرى المتسرّعة؛ فإن من الخطأ أن يُصنّف هذا التيار الذي يتواصل مع كل الضمائر دون تحزّب أو تحيّزٍ ؛ فاتحًا باب الحوار مع الجميع وفقًا للمصلحة العامة على أنّه تيار (الإمّعون والإمّعات).

فإن تكون (إمّعة)؛ يعني أن تحرّكك - أنت ومن معك من المتماثلين أو المتشابهين- رياحُ الأهدافِ والمصالح الشخصية؛ فتهدم اليوم ما بنيته بالأمس، وتخالف بقولك وفعلك أفكاراً تبنيتها أو تحمّست لها البارحة، لا لأنك أدركت عدم صحتها أو معقوليتها، بل لأنك غيّرتها وتغيّرت معها وفقاً لمصالح شخصية بحته تُحرّك أسهمَها استراتيجيّةٌ (أنَويّة) خاضعة لبورصةِ سوقِ السياسة أو الثقافة، أو غيرها من الأسواق.

وأن تكون (إمّعة) يعني أن تقبل الآخر كلّه، أو أن ترفضه كلّه؛ متّفقًا بذلك مع من يشبهونك أو يماثلونك، ومختلفًا مع العقل. وفي هذا تكمن الكارثة.

قد يكون من المزعج أن نعترف بأن بعضَ من يمثّلون (التيار الثقافي) من مثقفاتنا ومثقفينا (إمّعات وإمّعون) وإن كانوا يصنفونَ أنفسهم ضمن الطليعة والنخبة، ويظنون أنهم يتفوقون على غيرهم بحدّة خصومتهم مع من لا يشبههم، وأنهم يتميّزون عن غيرهم بمصادرتهم غير الواعية لآراء من يختلف معم أو ينتقدهم، وبإصرارهم على مشاهدة الآخرين من أعلى.

وفي المقابل فإن هناك (إمعات وإمعون) يمثّلهم بعضٌ ممن يحسبون أنفسهم على (التيار الديني)، ويظنون -بتطرفٍ منقطع النظير- أنهم يتفوقون بضجيجهم، أو بتسفيههم العلني لكل من خالفهم، وأنهم أوصياءٌ شرعيّون ووحيدون على دين الله، وعلى تطبيقه بالحديد والنار على أجسادِ وعقولِ عباد الله فوق أرض الله.

إنّ من صنّفوا أنفسهم ضمن الفئتين السابقتين يُسيئون من حيث يظنون أنهم يحسنون صُنعا. وإنهم يعملون - جهلاً من عند أنفسهم- ضد مصلحة الوطن؛ حيث تقومُ أبجدياتُ سياستهم على الإلغاء، أو الإقصاء في أحسن الأحوال، كما تقومُ على نفي الآخَر إلى آخِر حدود الحب فقط لأنه يختلف، لا لأنه يعمل عكس المصلحة العامّة. والأدهى من هذا وذاك أنك تراهم يطبّلون لأنفسهم متباهين بحبهم للوطن، وبحرصهم على استمراريّة الحوار بين أفراده. وأيّ حبٍ للوطن ذاك الذي نُخضعه لرياحِ تحزباتنا القائمة على (الإمّعيَّة) الشلليّة، ونسيّرهُ وفقًا لبوصلة أهوائنا، وانشغالنا بأنفسنا، وانتفاخنا بذواتنا حدّ الانفجار؟. وأيّ حوارٍ ذاك الذي يدّعي من يمثلون الفئتين السابقتين أنهم قادرون عليه؟

إنّ الحوار بمفهومه المتسامح غير المتشنّج، والقابل للأخذ والرد، وغير المستند إلى سياسة الإقصاء والإلغاء وتسقّط أخطاء الآخرين، وتقصّي جوانب نقصهم لا يقومُ إلاّ على مبدأ الانحياز إلى كل الضمائر تحقيقًا لمصلحةٍ واحدة هي مصلحة الوطن. وبالتالي فإن تيار (محبو الوطن) -في الحوار وبالحوارِ- هم الفائزون.

وإنّ من مظاهر (الإمّعيّة) أن تجد من يُعاتبكَ، أو يعجبُ منكَ، أو يُشككُ في فهمك ووعيك وربما في قدراتك العقليّة أيضًا حين يراك تبتسمُ، أو تنسجمُ في حوارٍ هادئ، أو ودّي مع آخر أو اُخرى ممن يمثّلون تيّارًا يختلف هو معه، وليس بالضرورة أنك أنت نفسك تتّفق مع جميع أفكاره وطروحاته، ولكنك في المقابل لا ترفضه كلَّه.

ومن مظاهر (الإمّعيّة) أيضًا أن تجد أن هناك من يُقيم حواره على نار (الفزعة)؛ فتجده متحفزًا متربصًا مُهيئًا كلّ حواسه في وضع الاستعداد ليهبّ أثناء الحوار لنصرة أبناء أو بنات جلدة تياره تحقيقًا لمبدأ (انصر إخوانك في الإمّعيّة مصيبين أو مخطئين). لن نهبَ حوارتنا الوطنية رئةً صالحةً للتنفس حتى نؤمن بحق التعايش الإنساني السلمي مع من لا يشبهوننا، أو مع من لا نتفق معهم. ولن نحقق التعايش السلمي حتى نؤمن بحرية غيرنا كما نؤمن بحريتنا. ولن نحقق هذه الحرية حتى نكفل لها قانونًا ونظامًا يضبطها، ويحمي جميع التيارات المختلفة التي تمثل الوطن من أن يتجاوز بعضها على بعض، أو أن يبغي بعضها على بعض، أو يستبدُّ بعضها ببعض. فالقانون هو من يحمي هؤلاء من هؤلاء، وهو من يكفل سلامة حريّات كل الضمائر المتصل منها والمنفصل. ولعلّ فيما مثله مؤتمر (الحوار الوطني) الأخير الذي اختتم أعماله منذ أيام في مدينة الأحساء، والذي تشرفتُ بالمشاركة فيه مع عدد من الزميلات والزملاء ما يُثبتُ قدرةَ النظامِ على ضبط الحريّات وحمايتها. فقد أحاط (مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني) أجواء الحوار بودٍ شفيفٍ قادرٍ على الحزم والحسم وقتَ الضرورة. وأُديرت الجلسات بحرفيّة عاقلة متأنية، قادرة على هندسة روح الحوار في ظلّ الاختلاف. الأمر الذي أكّد أنّ التعايش بين مختلف الضمائر يُمكن أن يتحقق ما كَفلتْ حريّةَ أطرافه رزانةُ النظامِ والانضباط ولو كان الجميع يجلسون فوق جبلٍ من الاختلاف والضجيج.

جدة

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة