Culture Magazine Thursday  30/04/2009 G Issue 281
منابر
الخميس 5 ,جمادى الاولى 1430   العدد  281
الثقافة الأفقية.. وموت النخبة!(3)
د. فهد العرابي الحارثي

 

موت الكتاب.. أيضاً

في ظل الاجتياحات التقنية الهائلة هناك أيضاً إرهاصات بموت الكتاب التقليدي في زمن الكتابة الإليكترونية، أي بعد ولادة النبع الإليكتروني الذي لا ينضب. وقد لا يموت الكتاب الورقي كلياً في الوقت القريب على الأقل، ولكنه لن يكون في مأمن من أضرار بالغة تنتظره أمام هذا النبع الذي وَضَع تحت تصرفنا، من جهة ثانية، مكتبات جوالة زهيدة الأثمان. و(إن بيع مليون عنوان إلكتروني في نهاية العام 2001م، بعد ظهور مبيعات عالية في عالم النشر الفرنسي Start-up الذي جاء بعد عامين على ظهور الكتب الإلكترونية في أمريكا، يدل على متغيرات كبرى في عالم الطباعة والقراءة والكتابة على السواء). (39) فبعد مرور أكثر من 5 قرون على طرح جوهانس غوتنبرغ أوّل كتاب مطبوع في العالم، أصبح بإمكان أي أحد اليوم حمل مكتبته معه في حقيبته أثناء السفر. ذلك أن شركة أمازون Amazon الإلكترونية طرحت جهاز (كيندل) Kindle المحمول الذي يستطيع قراءة الكتب والجرائد والمجلات الإلكترونية وتحميلها بشكل آلي من موقع الشركة.

وتبلغ أبعاد جهاز (كيندل) 19.1 × 13.5 × 1.8 سنتيمتر، ويبلغ وزنه حوالي 292 غراماً، ويبلغ سعره 399 دولاراً أميريكيا. ويمكن لفئات مختلفة من المستخدمين الاستفادة منه، مثل المسافرين من العلماء والأطباء والعمال التقنيين الذين يريدون مراجع سريعة (وخفيفة الوزن) أينما ذهبوا.

ولقد ظهر اليوم، في العالم، ما يسمى ب(الناشرون الجدد) وهم متفائلون بمستقبل نشاطهم، ويرون فيه خدمة للمبدعين الشباب الذين يئسوا من محاولات اقتحام قلاع شركات النشر التقليدية. وكثيرون يرون أن المستقبل لا محالة الآن هو للثقافة الرقمية، حيث إن معظم المنتجات الثقافية أصبحت تسوق الآن عن طريق شبكة الإنترنت، خاصة فيما يتصل بالكتب. لقد انتهى دور الناشر التقليدي الذي يمارس دور المستغل البشع للكاتب، وفي الوقت ذاته دور الوصي على القارئ. والناس لم يعودوا الآن يفارقون الحاسوب، الذي كفاهم انتظار ما ينعم به الناشرون عليهم، كما كفاهم أعباء التردد على المكتبات بحثاً عن الجديد. (40) هذا فضلاً عن زهادة ما ينفقون في هذه السبيل، فثقافة الكتاب الإلكتروني متوفرة لكل الناس، وهي ليست مقتصرة على (المقتدرين) فقط، فالجميع يصل إليها بسهولة وسرعة لم تكن في الحسبان. فلم يكن الهدف هو فقط إزاحة الكتب الورقية من مواقعها، أو إزالتها من بين أيدي المستخدمين، بل هو أيضاً وضع جهاز إلكتروني سهل الاستخدام عوضاً عنها. فالحصول على الكتاب، أو الكتب، أصبح الآن مجرد (نقرة) تكون نتيجتها تحميل الكتاب الرقمي. وهذا ما يعيدنا إلى فكرة ديمقراطية المعرفة وشيوعها بين الجميع.

إن النبوءة بموت الكتاب الورقي لا تؤخذ هنا بحرفيتها، وإنما المقصود هو أن تناول المعرفة أصبح أكثر يسراً، من حيث الوقت، ومن حيث الثمن المادي. فإذا كان إنشاء المكتبة الخاصة يتطلب في السابق حيزاً من المكان، وقدراً من الاستطاعة المالية، وجهداً ووقتاً، فإن هذا كله لم يعد لازماً اليوم. وإذا كان هذا التطور قد يوحي، للوهلة الأولى، بتضاؤل مستقبل الصناعة الثقيلة للمعرفة والثقافة والفكر، فهو، في واقع الأمر، إنما يؤدي إلى ازدهار هذه الصناعة، إنتاجاً، فهي لم تعد تخضع لمزاج الناشرين والموزعين، كما يفضي هذا التطور إلى سهولة استهلاكها، فهو يختصر الوقت، ويختزل الجهد والمال، وهي هكذا متاحة للجميع.

وكما قدمت (أمازون) أكثر من 90 ألف كتاب رقمي، حتى الآن، فقد قدمت أيضاً خيارات الاشتراك بالجرائد اليومية. ومن الجرائد الأمريكية المشهورة التي يمكن الاشتراك بخدماتها (نيويورك تايمز) و(وول ستريت جورنال) و(واشنطن بوست). ومن الجرائد العالمية الأخرى: لوموند، وفرانكوفرت الألمانية، والآيرش تايمز. أما بالنسبة للمجلات الإلكترونية فإن (تايم) و(فوربس) و(أتلانتك مانتثلي) هي بعض منها.(41)

أفقية الثقافة من جديد:

في الوقت الذي تنذر فيه الثورة التقنية والاتصالية الجديدة بموت الكتاب في صورته التقليدية، فهي تدفع بفكرة التأليف نفسها إلى أن تكون في متناول الجميع (أفقية الثقافة وتغذيتها من الأطراف). وفي موازاة أن ينشئ كل من أراد صحيفته، أو نافذته الإلكترونية، على المستوى الإعلامي، يمكن لأي أحد اليوم أن يؤلف كتابه، وأن يجد بيسر وسهولة ناشره. (موت النخبة: فلم يعد التأليف هو شغل النخبة وحدهم) إن تأليف الكتاب لم يعد مشكلة، بغض النظر عن مدى توفر أدوات التأليف التقليدية اللازمة في المؤلف الراهن من عدمها. بل إن أدوات التأليف في مجملها أصبحت أقل صرامة وأقل حدة، (يحدث هنا ما حدث للقيم الصحافية على المستوى الإعلامي) وقد أوجد شباب المؤلفين منافذ لهم للهرب من سطوة الناشرين أياً كان نوعهم، تقليديين أو إلكترونيين، فأخذوا ينشرون إنتاجهم بأنفسهم، وهم اتخذوا هذه الخطوة للهرب من سطوة القراء التقليديين أيضاً، القراء الذين تعودوا على الخطابات المقفلة، المحصنة، التي يتم التعامل معها بشيء من القدسية، فهي دائماً الإلهامات التي لا تتوفر لأي أحد، فهي مقتصرة على (الموهوبين) والمدججين بالشهادات العليا، أو الإجازات التي لا يطالها سوى فئة محدودة من بني البشر!..

لقد تهاوت تقاليد وقيم كثيرة في صناعة الثقافة، وفي التعامل مع مصادرها، وفي مواصفات القائمين عليها إنتاجاً وتصديراً. فهي أضحت بلا حيطان، فيسهل اختراقها من الأطراف وهي لم تعد بتلك الوعورة فيسهم في خلقها وإنتاجها الجميع. (أفقية الثقافة).

وفي خطوة لدعم اللغة العربية على الإنترنت، دشنت مبادرة الملك عبدالله للمحتوى العربي على الإنترنت. وهي تشرك (طلاب) جامعة الملك سعود وجامعة الملك فهد للبترول للكتابة والمشاركة داخل وحدة المعرفة (نول) وكل طالب يكتب حسب تخصصه. وهناك نية للتوسع في تغذية هذا المشروع على مستوى وزارة التربية والتعليم، لضمان مشاركة مئات الآلاف من التلاميذ. وتتم هذه المبادرة بالتعاون مع قوقل الذي يعد السعوديون أكثر مستخدميه في العالم العربي. وجاءت هذه المنافسة (لتمكين جميع شرائح السعوديين من التعامل مع المعلومات بيسر وسهولة). (42)

وقد لوحظ في أكثر من مكان أن هناك شباباً يطرحون مشروعاتهم في التأليف على الشبكة العنكبوتية بتلقائية، وبلا رتوش، بل أن بعضهم يدعون الناس والقراء إلى إبداء الرأي والمشاركة، فإذا بالمؤلف يصبح هو نفسه الناشر، بل إنه يجعل من عمله نصاً مفتوحاً، لا يكتبه هو وحده، بل يشترك معه في هذا الإنجاز آخرون. وهذا يذكرنا بما كنا نتحدث عنه في مكان سابق مما حلّ بمشروع المدونات والصحافة الإلكترونية. فإذا كان القارئ هناك يشارك ويتفاعل، بل يمكنه أن يقوم بدور الصحافي، فإن الحال مشابهة هنا، إذ قد يصبح قارئ النص هو أحد مؤلفيه. وفي كل مكان هناك اليوم مشروعات كثيرة من هذا النوع. وقد قرأنا عن مثل ذلك في السعودية، على سبيل المثال. ونذكر، في هذا الصدد، بما نشر في بعض الصحف السعودية مؤخراً حول مشروع (حكاية إلكترونية) على الإنترنت بعنوان (ذيك السنة)، وهي تتحدث عن (طقاقة) تحولت إلى داعية، وقد أسمت نفسها (شادية عسكر). وهي تثقفت على يد رجل كان يهديها كتباً وروايات، وكانت تتمنى وقتها أن تكون شيوعية، ولكن المطاف انتهى بها إلى أن أصبحت داعية.(43)

ويرى بعض من تصدى بالنقد لهذه الحكاية أن لغتها كانت أقرب إلى اللغة الشفوية، أي أن أحداً كان يحكي الأحداث، وأن هناك من كان يقوم بالتدوين، دون تدخل ملحوظ، أي بما هو وفق شروط (المكتوب) المختلف طبعاً عن (المنطوق). وفي مثل هذه الأعمال، تثار مسألة التخفي والكتابة بأسماء مستعارة، وهو ما يعزى غالباً إلى حالات التردد عند من لم يكن بعد على درجة من الثقة في نجاح التجربة، ما يعني أن هذه التجارب هي في الغالب لمبتدئين، أو لأناس عاديين، وهذا لا ينفي عنها صفة التأثير، اجتماعياً وثقافياً. فقد وصل تعداد زوار إحدى الروايات الإلكترونية، في السعودية أيضاً، إلى أكثر من 400.000 زائر، وهذا لم يحدث قط لأي رواية تنتمي إلى الصناعة تقليدية في الكتابة، مهما علا شأن كاتبها.

وهنا يجدر الحديث عما يسمى بروايات الجوال التي تغزو السوق اليابانية مثلاً، فهي تتمتع بجماهيرية واسعة، وتبيع الواحدة منها مئات الآلاف من النسخ. تكتبها المرأة اليابانية على تلفونها الجوال أثناء استخدامها المواصلات العامة والقطارات، ثم تطبع بعد ذلك في كتب وتباع للقراء. ولم تتوقف المؤسسة الأدبية اليابانية عن مهاجمة هذه الروايات الجديدة، لافتقارها للغة (وتدميرها للبنية الروائية).(44)

وفي العالم العربي ظهر أن هناك من يكتب شعراً على الجوال، لكن القارئ لم يتقبل هذا الأمر بسهولة، (ذائقة القارئ لدينا لا تزال تقليدية، وإذا كانت هناك اليوم شريحة عريضة تتعامل مع التقنية فهذا لا يعني أنهم تطوروا بنفس درجة تطور الأجهزة التي يستخدمونها) وقد قالت واحدة ممن مارس تجارب كتابة قصيدة الجوال: (عندما بدأت أكتب القصيدة العامية، كنت أفعل ذلك على الورق، ثم أبعث بقصائدي لمن ارتبط معهم بصداقات حميمة، وأحياناً كنت أكتفي بإرسال مقاطع، لأن جهاز الموبايل عادي وليس بالغ التطور. بعد ذلك بدأت أسجل على الجهاز ما يراودني من شعر، ثم أقوم بتعديل ما أكتب على الورق. لكنها ليست تجربة مكتملة، لأنها عفوية جداً. (45)

أما الحديث عن نقل النصوص الشعرية من مصادرها، وتعميمها عن طريق الجوال فهو حديث يطول. وما يهم هنا هو أن تلك النصوص المنتقاة من جيد الشعر أضحت متوفرة للجميع، وهم يتبادلونها بكثافة وبيسر وسهولة، فضلاً عن الأدعية والنكات والطرائف، ما يعني أن تقنية الجوال تسهم هي بدورها في (ديمقراطية المعرفة) وتساعد على نشرها، أفقياً، بين كل الناس.

الشفاهية الثانوية:

وذكرت إحدى الشاعرات التي تكتب الشعر بالطريقة التي ذكرناها آنفاً أنه يمكن للتكنولوجيا أن تفرض شروطها في هذه الحالة، فإضافة إلى المساحة، يمكن أن يتم استبعاد مفردات، والاستعانة بأخرى، لمجرد أنها ستصبح أكثر وضوحاً في رسائل الجوال. فالنص الشعري راضخ هنا لإملاءات التقنية، وهو بمعنى ما رهينة لها. ومثل هذا الوضع يذكرنا أيضاً بظهور فكرة استخدام الحروف اللاتينية في كتابة النصوص العربية لرسائل ال SMS أو لأي استعمالات أخرى في أجهزة التقنية. وقد نتج عن ذلك اصطلاحات للتعبير عن بعض الحروف العربية مثل الحاء والخاء والعين والغين والضاد وسواهما من الحروف غير المتيسرة في لغات أخرى، فقد كانت تستخدم بعض الأرقام اللاتينية على سبيل المثال، للتعبير عن تلك الحروف. والفكرة في ذاتها تستلهم تنازلات أخرى تتوافق مع هدف السرعة والسهولة والتبسيط، وتنسجم في الوقت ذاته مع (المزاج) الجديد لمستهلكي التقنية، وهو مزاج (رياضي) ثوري، متمرد، يميل إلى التسهيل ولا يتشبث بالتفاصيل. وقد اقتضت التقنية أن يعمد مستخدموها إلى اللجوء إلى بعض المختصرات في اللغة الإنجليزية على سبيل المثال، فلا حاجة إلى كتابة بعض الكلمات كاملة، بل يرمز إليها ببعض الحروف مثل: (u) في مكان you ومثل R في مكان are وهكذا. وهذا يعيدنا إلى موضوع تأثيرات التقنية على اللغة، وعلى الكتابة، وهي عندما تحكم بالإعدام على مفردات معينة سيكون من الصعب إعادة الحياة من جديد إلى من أضحى في اللحد تحت التراب.

إن مما تسببه مثل هذه الثورات، أو الهزات العنيفة لقيم الكتابة، وتقاليد النشر، ما يسمى بسقوط السلطات اللغوية، حتى أن ما كان يسمى تراجعاً أو انهياراً للغة بدا مقبولاً ومرحباً به اليوم. والواقع الذي لا مراء فيه أن تحول اللغة (المحكية) إلى لغة مكتوبة؛ هو انحدار إعلامي وثقافي يتحقق بصمت. وقد لاحظنا شيئاً من هذا أثناء الحديث عن بعض المحاولات الحكائية على الإنترنت أو الشعرية على الجوالات. وهل الوقت مناسب هنا لأن نقرع أجراس الإنذار، فنقول بما قال به أحد الباحثين، من أن هذا الانحدار (قد يكون تعميمه، أو ترسيخه، مسألة زمن نجد أنفسنا فيه أمام لغة محكية مكتوبة، متداولة، حية، يستعملها العرب ويتواصلون بها، تقابلها لغة فصحى ثانوية غير متداولة إلا بالنزر اليسير في المدارس). والخطير أن هذه المدارس في تراجع، بعدما لاحظنا أن مجمل الإصلاحات التربوية والمدارس المعاصرة (في بعض البلدان العربية) تتركز في اختزال الكتابة بالشفوية، لأنها عملية ليبرالية في زمن تبدو فيه الكتابة سلطة اصطناعية منفّرة، والإملاء عملاً قمعياً مقابل الصوت، وهو عفوي.(46)

وقد نلاحظ اليوم ما يسمى ب(الشفاهية الثانوية) وتتميز بها الثقافات ذات التكنولوجيا العالية، وهي تختلف عن (الشفاهية الأولية) التي لا تعرف الكتابة والطباعة، إذ تحافظ شفاهية جديدة على وجودها واستمرارها في وظيفتها من خلال التلفون، والراديو، والتلفاز، والوسائل الإلكترونية الأخرى. أما الثقافة الأولية الشفاهية بالمعنى الدقيق فتكاد تنعدم اليوم، ذلك أن كل الثقافات الآن تعرف شيئاً عن الكتابة، ولديها شيء من الخبرة بتأثيراتها.(47)

والانحدار اللغوي لا تتحمل مسؤوليته الإنترنت وحدها، أو تقنية الجوال معها، بل تشترك في ذلك الفضائيات التليفزيونية في البلدان العربية، أو على الأقل في بعضها، إذْ لا تكتفي بأن تكون اللغة المحلية هي لغة البرامج والمنوعات الشعبية، بل تكون أحياناً من لغات نشرات الأخبار، وسواها من البرامج السياسية والثقافية.

وكما يقال فلكل ثورة ضحاياها، ولكل معركة شهداؤها، وهذا هو ما جرى ويجري بالنسبة إلى (مزاج) الثقافة الصارم، الثقافة القادمة (من فوق).. وبما أن الواقع، المحتشد بتحديات التقنية، يقول إن الثقافة هي اليوم صناعة الجميع، والجميع هم الذين يختارون ما يرون من وسائلها.. ومنها طبعاً اللغة! فلا مفر من أن يكون لهذا الواقع تجلياته الخاصة به، وقد ظهر أن من تلك التجليات: سقوط سلطات اللغة.

التحدي والمواجهة:

نحن المحافظون الذين اعتدنا على الثقافة الصارمة يصيبنا اليوم الكثير من الهلع عندما نشاهد عن قرب بعض ملامح السقوط الشنيع لسلطات اللغة، على الرغم من أن الفجوة الرقمية، التي مازالت تلتهمنا، لم تتح لنا بعد أن ندرك الحجم الحقيقي لما سيأتي من تحديات. والسؤال هو: بعد ردم هذه الفجوة الرقمية، هل سنجد أنفسنا أقل (محافظة)؟! وهل سننظر إلى ما يجري من منطلق (رياضي)، ثوري، ليبرالي، وأنه من مستلزمات مقومات حياتنا الجديدة؟ أم أننا، على العكس، ستستفزنا الصدمة، وستحثنا على أن نكون أكثر محافظة من ذي قبل. وهل سيكون بيدنا أن نفعل ذلك؟ إن الإجابة على مثل هذا السؤال الآن قد تدخل في باب الأمنيات، ومنذ متى كانت الأمنيات محايدة وموضوعية.

إن مجتمع المعلومات يطرح قيماً ومفاهيم وأساليب جديدة، و(يفرض على أفراده تحديات قاسية، ويعيد النظر في المسلمات المستقرة، وينذر بصراعات جديدة، ويثير قضايا فلسفية تتعلق بالإنسان في مواجهة الآلية، ويبرز أهمية المعرفة والثقافة واللغة).(48)

ولا مفر، فهذا هو عالمنا الجديد الذي انهارت فيه الحواجز، وذابت من أجله الفواصل، وتوسعت بسببه هوامش المشتركات، وبالمقابل تفتتت فيه الجماعات، وتجزأت الثقافات في داخلها، وسقطت الحرية في اللاحرية، وأصبح الفرد أسير فرديته، يعمل على تكوين فسيفسائه الثقافية والاجتماعية وحده. فنشأت عادات استهلاكية وثقافية جديدة، واندحرت فكرة الحصون والقلاع، والنخب والإملاء والإدعاء، وبالتالي الثقافة التي تنصب من فوق إلى تحت. ولسنا مطالبين بالامتثال لتحديات هذا العالم القاسية، ولا بإعادة النظر في كل مسلماتنا المستقرة، فهذه أمور تتعلق بطبيعة البنى الفكرية والعقدية لكل مجتمع، لكننا بالمقابل مطالبون بأن ندرك بأن الالتقاء مع مجتمع المعرفة اليوم أضحى أمراً في غاية الأهمية لمستقبلنا ومستقبل اقتصادنا، ومستقبل قوتنا في مفهومها الكلي. ولابد أن نوازن بمنطقية وعقل وحكمة بين أن نكون جزءً من عالمنا المعاصر وان تكون خسائرنا في حدها الأدنى، أو لا نتكبد أي خسائر البتة.

وما لم نتصرف بمنهجية وموضوعية؛ فإن هذا الموج الهائل سيعصف بنا، وقد يدمرنا، أو يضعنا في موقع أدنى من موقعنا الحالي. والذي يبدو للوهلة الأولى أننا ننضوي ضمن إحدى حالتين: الأولى، هي عدم الوعي الكامل بأهمية وخطورة ما يجري، فلا نؤمن بحقيقة ظهور مجتمع المعرفة الجديد الذي هو مجتمع القرن الجديد، والذي على محكه ستتساقط الحبات المريضة من فتحات الغربال الذي سيهز العالم هزاً. وكل ما نظنه؛ هو أن منتجات المجتمع الجديد هذا ما هي سوى (تقليعات) عابرة أتت بسرعة وستذهب بسرعة، كما هو الحال دائماً مع مثل هذه الموجات. أما الحالة الثانية: فهي تشبه ردة فعل العاجزين، إذ تعتمد، في الغالب، على (المقاومة) والتحشيد، فالأهم هو قفل الأبواب والنوافذ، وزرع الأسلاك الشائكة والألغام حول الحدود، والتفكير الجاد في إشادة سقف منيع يحجب ما يمكن أن يهبط إلينا من فوق، من السماء، فهي سماء لا تمطر إلاّ أفكاراً ورموزاً وصوراً ومتصورات.. وجنس.(49)

إن نزعة الهروب للداخل هي نزعة الجهلاء والجبناء، وهم يعتقدون أنها خير وسيلة لهم للدفاع عن أنفسهم، (...) إنها محاولات يائسة للهرب، ولن تجدي كثيراً؛ فهي من باب قولهم: «يمكنك الهروب ولكن لن يمكنك الاختفاء (إن الهروب تخل وضعف واستسلام، وتقوية للخصوم، وثمن هذا الهروب أكبر من ثمن المواجهة في ميدان العمل العالمي) وبدلاً من أن تغلق على رأسك المنافذ افتحها للشمس وللتحدي. وإذا كانت العزلة هي للشعور بالضعف، فالانفتاح ثمرة للشعور بالقوة والعزة، فمن شعر بالضعف توارى، واختلق كل المعاذير التي تبرر له أن ينطوي على نفسه، وسيملك كل يوم عذراً، والعذر القادم أقوى من سابقه. (وإن العلاقة الواسعة بالعالم ليست خسارة إلا للمفلسين من الأفكار والأخلاق والمعرفة والمغامرة، أو للمضطربين والقانطين واليائسين). كما أن أسلحة المعلومات هي مستويات تساعد الأمم الصغيرة ضد الكبيرة، وتنحاز إلى المدافع ضد الغازي.(50)

نحن في حاجة إلى إعادة بناء أو ترميم تصوراتنا حول مستقبل العالم، وحول مستقبلنا فيه. إن النظر في مثل هذه المسألة الشائكة من خلال الأنساق المعرفية والمنهجية التقليدية لن يؤدي إلى أي نتيجة مفيدة، فينبغي البدء بامتلاك الأدوات اللازمة التي تساعد على تفكيك بنية المجتمع الجديد المعقدة، ثم الشروع في الاستحواذ على الذرائع الموصلة إلى ما هو، بالضرورة، حقنا في المواكبة والاكتشاف.

إن المواعظ والخطب والنياحات ليست أيضاً الطريقة المثلى لمواجهة التحديات، فالمواجهة تحتاج إلى إعداد الأجيال، وتحصينها، وتسليحها بالعلم والمعرفة.. وتلك لعمري قصة أخرى تحتاج إلى أحاديث أخرى.. قد لا تنتهي!

* * *

ألقيت ضمن نشاط (منبر الحوار) في النادي الأدبي بالرياض (8 ربيع الثاني1430هـ الموافق 4 أبريل 2009م)

رئيس مركز أسبار للدراسات والبحوث والإعلام - (الرياض)

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة