يعد الاغتراب ظاهرة بارزة لها حضورها الواضح في أدب كثير من كتابنا، فهم جزء من العالم العربي الذي يعيش كثيرًا من التناقضات نتجت عنها أزمات: اجتماعية وفكرية ونفسية، أدت إلى حدوث صدمة عند الكاتب، انعكس تأثيرها على تجربته الأدبية بشكل أظهر انعدام ثقة الكاتب في واقعه، فعانى مستويات متعددة من الاغتراب برزت بصورة جلية في إبداعه.
وفي قصص عبدالله باخشوين الصادرة في مجموعتين (الحفلة، والنغري) برزت ظاهرة الاغتراب بمظاهرها المتعددة على مستوى الشخصية والفكر والرؤية وغيرها، وتهدف الدراسة هنا إلى بحث هذه الظاهرة لوضوحها في قصصه، بشكلٍ سيطر على معطياتها وأفكارها، حيث استطاع الكاتب تجسيد حالات الاغتراب لكشف طبيعة العلاقة بين عالم الواقع وعالم الحلم لدى شخصيات القصة، فانعكس ذلك في لغته التي تصبح مغتربة أيضا عندما تجسد غربة داخلية حقيقية يعيشها الكاتب، يلجأ عندها لتقنيات سردية معينة تتيح له البوح بمشاعر الإحباط والضياع والاغتراب.
ويتخذ الاغتراب في قصص باخشوين أشكالاً مختلفة حيث تظهر النصوص القصصية للكاتب حالات الألم والعزلة والوحدة والقلق واليأس والموت بوضوح، من خلال شخصيات رسمت بعناية فطرحت مشكلاتها النفسية وقلقها بشكل مدهش نلمس فيه فكرة الاغتراب على مستويات متعددة. وتبدو في ثلاث صور: الاغتراب الذاتي، الاغتراب الجسدي، الاغتراب الاجتماعي.
الاغتراب عن الذات هو الحالة التي تصبح فيها الشخصية غير مدركة لما تشعر به، كما يتضمن انعدام الصلة بين الفرد وذاته، ويرى (إميل دور كايم) أن اليأس والوحدة التي لا تحتمل في التاريخ الحديث والتي يصاحبها خوف الذات، واكتئابها، وقلقها الزائد، تعد نتائج مباشرة للنزعة الفردية التي سادت المجتمع الحديث، وترجع أسباب هذا الاغتراب إلى عوامل وجدانية أو إلى ظروف خارجية قاسية، وقد ظهر ذلك في قصة (يقظة مبكرة) حيث إنّ الشخصية تعاني من الوحدة والعزلة ويشعر بالضياع بعد أن ترك بلدته الصغيرة وجاء إلى المدينة (عندما وصل وجد نفسه يقف على الرصيف ذاهلاً مشدوهًا لا يدري من أين أو إلى أين يمضي. هزمته حيرته. أربكته. ارتد على نفسه فزعًا أراد أن يعود من حيث أتى، غير أن المسافة التي قطعها بدت له أبعد من قدرته على التراجع. (يقظة مبكرة - الحفلة) نلاحظ في المقطع السابق تردد الشخصية وخوفها وحيرتها من اقتحام المدينة التي يشعر فيها بالوحشة والندم )عصر الندم قلبه. فتت أعصابه وأحاله إلى حطام بعد أن تأكد أنه وحيد تمامًا، لا أهل ولا صديق أو قريب. غريب... غريب... غريب (يقظة مبكرة - الحفلة) إن تكرار كلمة (غريب) تدل على عمق الشعور بالاغتراب، والاعتراف بضعفه وعجزه وعدم قدرته على تحمل الغربة ظهر ذلك في حواره مع عامل المقهى: (خير يا أخي.. ما الذي حل بك..؟! شهق عندما حاول الكلام. غطى وجهه بغترته. خرج صوته متقطعًا:
إني غريب يا أخي.. غريب.. غريب تمامًا.. لا أعرف هاهنا أحدًا. جئت.. جئت من مكان بعيد.. بعيد. إني حائر يا أخي.. حائر.. لا أدري ماذا أفعل أو كيف أتصرف). (يقظة مبكرة - الحفلة) ولمواجهة الوحدة والاغتراب انكفأ على ذاته ورفض الانخراط في العالم من حوله أخذ يدور في فلك حياته الخاوية باستسلام وخنوع. يذهب إلى عمله متأخرًا كل صباح. يستمع إلى توبيخ رئيس عمله، ويمضي أكثر من نصف النهار على مكتبه دون أن يعمل شيئًا يذكر (يقظة مبكرة - الحفلة) ومن ملامح الاغتراب عن الذات عدم الاكتراث، فمواقف الشخصية سلبية، تكتفي بالمشاهدة والتفرج (لم يحاول - يومًا- أن يتبين ملامح الوجوه التي يحيي أصحابها. يدخل مكتبه يحيي زملاءه بفزع وينزرع خلف طاولته، يحدق في اللاشيء في انتظار العمل الذي قد يأتي وقد لا يأتي.
ست ساعات لا يعمل شيئًا ولا يشارك زملاءه أحاديثهم التي يقطعون بها الوقت لم يحاول - يومًا - أن يعرف أسماءهم، ولو أنه التقى بأحدهم مصادفة لما تعرف عليه. (يقظة مبكرة - الحفلة) وقد تتجه الشخصية إلى حالة من الوحدة والانقطاع عن الناس، والميل إلى الانطواء كمظهر من مظاهر القلق والصراع الداخلي الذي تعيشه الشخصية، إحساسه بغربته ووحدته ألغى كل ما يربطه بالآخرين. ألغى الآخرين. ولم يبق سوى رئيس عمله الذي لا هم له إلا تعنيفه وحسم مرتبه (يقظة مبكرة - الحفلة) ينطبق هذا الشعور على شخصيات عديدة في قصص مختلفة (ها أنذا أهيم على وجهي وحيدًا غريبًا في بلد غريب (مطر الغيوم الراحلة - الحفلة) وفي قصة أخرى تشكو الشخصية أيضا من الوحدة) وحيد أنا وهذا الليل طويل طويل. كل الجهات وجهتي وأينما حللت أشعر إنني عابر. (الدنيا قادمة - الحفلة) هذا الشعور بالانفصال عن الآخرين عبر عنه الكاتب في إحدى القصص بخروج البطل عاريًا إلى الشارع من دون أن يشعر (لم تكن الصورة التي عكستها الواجهة الزجاجية غريبة عنه. إنها صورته. منعكسة تحدق فيه وهو شابك يديه خلف ظهره يحدق فيها. كان عاريًا تمامًا، لا يرتدي من كل ملابسه سوى غترته وعقاله.. وجوربه وحذاءه ولا شيء غيرهما على الإطلاق). (يقظة مبكرة - الحفلة) والتعري يرمز إلى عودة الجسد إلى حالة الخلق الأولى وكرهه لحالة العزلة التي يعيشها فالتعري يشير إلى (الفصل الملغى بين الإنسان والعالم المحيط. وانتقال الطاقات بينهما بلا شاشة)، فرغبته في الانطلاق والتحرر من مشاعر القلق تجعلنا نفسر سعادته في ذلك اليوم الذي نزل فيه عاريًا من دون اكتراث لاستغراب الآخرين حتى عندما يصطدم بالمارة كان يبتسم غير مبال بالشتائم التي يسمعها منهم (اكتفى بأن مط شفتيه باستغراب وقال لنفسه بصوت مسموع: ما الذي حل بالناس في هذا الصباح الجميل...؟) (يقظة مبكرة - الحفلة).
ويعد الهروب مظهرًا من مظاهر الاغتراب الذاتي، إذ تقرر كثير من الشخصيات الهروب كوسيلة للخلاص من الوحدة والغربة التي يعيشها (تملكتني رغبة في الهرب من نفسي ومن ذاكرتي ومنه ومن كل شيء (مطر الغيوم الراحلة - الحفلة) وكانت أيضا قصتي (وداع) تشير إلى السفر كما كانت الطائرة في قصة (النغري) توحي بالرغبة في الرحيل والابتعاد فرمزية الطائرة تدل على رغبة الإنسان في الارتفاع فوق الآخرين، ويؤكد رغبته الداخلية في الهروب (قلت لنفسي وألححت في القول. عنفتها كما تعنف حمارًا بليدًا. أخرست حواراتها اللامجدية كما تحاول أن تخرس ابنًا عاقًا ممعنًا في العقوق. حدثتها عن الاستقرار، فأكدت أن الاستقرار الحقيقي لا يكون إلا بمواصلة الرحيل (الدنيا قادمة - الحفلة).
ومن ملامح الاغتراب الذاتي عيش الشخصية في الأوهام والخلط بين الواقع والحلم، وقد جاء ذلك على لسان بعض الشخصيات (ياله من حلم غريب مريب ذاك الذي رأيت فيه كل هذا. كان كل ما يدور أمامي ويحدث لي، يبدو كأنه قد حدث في مكان وزمان آخر.. بل وربما في عمر آخر أيضًا (الغريق، النغري) فالاستغراق في الوهم والحلم يزيد عزلة الشخصية ويفقدها القدرة على التواصل مع العالم من حوله (مشاعر غريبة تملؤني.. خليط من الدهشة والخوف والفضول إزاء حالة الود التي يطوقني بها أناس لا أعرفهم. فكرت أن أسألهم: (من أنا)، وكيف عرفوني دون أن أعرفهم لكني تراجعت وأنا أشعر بالخجل من تلك الحالة الملتبسة التي وجدت نفسي فيها (الغريق، النغري) تلك الصور تعكس اغتراب الشخصيات وتربط شعورها بالخوف والقلق والعجز والضياع بدلالتها على اغتراب حقيقي يعيشه الكاتب وتترجمه أفعال شخصيات قصصه.
وظهرت بعض مظاهر الاغتراب الجسدي لدى شخصية البطل في قصة (موت أيوب) حيث تزداد المسافة بين (الذات - الجسد) بأن تحاول الذات الحط من قيمة الجسد الذي كان سبب اغترابها وآلامها، حينما تحدث عن تعفن جسد أيوب والقروح الموجودة بشكل مثير للاشمئزاز والنفور (لم تسمع أمي كلماتها. كانت تحدق في جسدي بدهشة وهي ترى الدود يخرج من الجروح المتقيحة (موت أيوب - الحفلة) أصبح جسده مصدر تقزز من ذاته ومن الناس حوله فيشعر بأمه وصديقتها وهما مذهولتان من عفونة الجسد أمامهما: (ظلت المرأتان تحدقان في جسدي بصمت! أخذ صدري يعلو ويهبط وأنفاسي تفح فحيحًا مسموعًا. سرت في الغرفة عفونة حادة انتشرت بشكلٍ سريع فوضعت عائشة طرف غطاء رأسها على أنفها وأخذت تحدق فيّ! (موت أيوب - الحفلة) إنّ إحساس الشخصية بذلك التقزز من جسده يجعله يبحث عن الانفصال عنه انفصالاً دائمًا ولن يتحقق ذلك إلا بالموت فيطلب من أمه مساعدته على إنهاء عذابه من الحياة في ذلك الجسد المتعفن (ساعديني يا أماه.. ساعديني). أعادت وضع رأسي إلى مكانه وقالت: لا تخف يا بني.. لا تخف. استندت إلى ركبتيها متحفزة ومدت يدًا مرتعدة ووضعتها على فمي.. ثم لم تلبث أن تغلبت على عواطفها ومدت يدها الثانية وأطبقت بها على فمي وأنفي بعنف في محاولة لحبس تنفسي. (موت أيوب - الحفلة) إنّ يأس الشخصية وعجزها أمام واقعها دفعها إلى الاستسلام والموت كنهاية لرحلة اغترابه التي ارتكب فيها جسده أخطاء جعله يكرهه ويسعى للانفصال عنه.
وقد يؤدي الصراع والتنافر بين (الذات - الجسد) إلى انفصال الذات عن الجسد ومحاولة الخروج منه إلى جسد آخر لا يشبهه، ظهر ذلك في قصة (النغري) عندما كان البطل يحس شيئًا فشيئًا بأنه يغادر جسده ويتحول تدريجيًا إلى بلبل أو (نغري) كما يسميه في قصته، ونعيش معه خطوات رغبته في تحوله إلى جسد تنتفي فيه أسباب الاغتراب التي فقد معها حريته وأخذ يبحث عن طريقة للانطلاق بحثًا عن ذاته الحقيقية بعد أن تأثر بحياة النغري كما يقول:(أدركت أني أصبحت زاهدًا في هذه الهيئة البشرية التي تحتويني.. وتشكل قيدًا يعيق حركتي ويحول دون انطلاقي نحو تلك الفضاءات التي تعدني بها نداءات النغري (النغري) ونمضي مع هواجسه وأحلامه التي لا تفارقه:
(هكذا فجأة، وجدت نفسي أهجس به في يقظتي ومنامي. وهو يطير محلقًا حولي مشدودًا إليّ بفعل تلك القوى الخفية، كأنه يبحث عن منفذ يتسلل منه لداخلي ويسكنني (النغري) وبعدها يحدثنا عن عملية تحوله رويدًا رويدًا وانتظار اكتمال النغري بداخله حتى يخلع جسده القديم ويطير خلفه إلى مكان مجهول، عندها يقرر السفر ويركب الطائرة في نهاية القصة ويمكن القول إن (تحليقها يرمز إلى تطلع روحيّ، قوامه عتق الكائن من أناه الأرضي، ببلوغ الأعالي السماوية المطهرة) وهذا متناسق مع رغبة البطل في الخروج من جسده إلى جسد طائر يشعره بالحرية والخلاص من ضغوط الواقع حوله ورغم خوفه في بداية الأمر من الطيران إلا أنه يتحول هذا الخوف إلى انتشاء وفرح بالتحليق (زال خوفي في لحظة.. وأنا أحس بالنغري يحركني كأنه يريد أن يطير بي. أبعدت حزام الأمان عن خصري.. ووقفت يتملكني يقين بأنني قد تحررت.. ووسط دهشة مرافقي أخذت أرقص. بلغت نشوتي ذروتها ففردت ذراعي. واصلت الرقص دون أن تلامس قدمي أرض الطائرة). (النغري) لقد انتصر على جسده واكتملت حالة التحول، يشعر بالانتصار على أحد مسببات اغترابه، وما الرقص هنا إلا إشارة إلى تحرر الشخصية، وانعتاقها من عالم الأحياء لتتجلى الروح بحثًا عن الوجود وارتقاءً بالذات.
جدة