لا شك أن النظام الإحيائي الذي تتبناه الثنائية التجاولية في خطاب القبيلة والقبائلية هو نظام مسوغ، والمسوغات التي يعتمدها الغذامي لتفعيل القانون الإحيائي وما يترتب عليه من احتباس دلالي هي (الخوف ببعده الأسطوري، وسقوط الطبقة الوسطى، انهيار المشروع الكوني في التعليم، نسقية الثقافات من حيث الأصل والتكوين).وبذلك فنحن نقف أمام كل مسوغ إحيائي مقابل منظومة إجرائية لتمثيل الاحتباس الدلالي ونوع النظام التمثيلي لها ومستوى تأثيره في صناعة الهوية، نوضحه من خلال الجدول (1):
وهو ما يؤكد أن الثنائية التداولية عند الغذامي في محتواها ارتدادي بفعل القانون الإحيائي واستدعائي بفعل قانون الاحتباس الدلالي، والذي يحقق قيمة مخصوصة للفرد ومعيارا للفوز الطبقي، وعلاقة تتشابك ما بين التعارف والتناكر والاختلاف والصراع، ومفهوم للأنوية والغيرية التي تؤطر دلالة الهوية ومستويات التأثير ونوعها.
وفعلاً الارتداد والاستدعاء يحققان للفاعل الاجتماعي (قيمة الحماية والاحتماء) والاحتماء يتم عبر ثلاثة حواجز (معرفة الأنا، تحديد مفهوم الغير، معايير التمييز) وهي حواجز تنمو تلقائياً عبر إحياء نظام معاشي مخصوص، وبذا تصبح القبائلية كنظام معاشي إحيائي لدلالات مخصوصة (قلعة احتماء نسقية وتحصين للذات ضد الغير، مع نفي هذا الغير والاستعلاء عليه، وهي استجابة لمتغيرات ثقافية كبرى) ص 65، وتلك الاستجابة هي التي تدفع إلى الاستظهار والبروز، (القوي للعرقيات والطائفيات والمذهبيات ومثلها القبائلية) -مقدمة الكتاب- والتي تحول الإحساس المعنوي بقيمة الشيء إلى منظومة إجرائية من الأشكال واللغة والأساطير والأنماط أي الشبكة الوظيفية التي تصنع من قيم فعل العودة والاستدعاء دلالات تكون من خلالها أنظمة معاشية متكاملة، لذلك كان من الطبيعي أن تصاحب حركة الاستظهار والبروز للمكنون أنظمتها الخاصة (سياسياً وثقافياً ومعتقدياً وسلوكياً) -المقدمة- أي صناعة مثلث الاحتماء.
يفرق الغذامي بين القبيلة والقبائلية كثنائية تداولية عبر عدة أشكال لا معايير وهو ما أربك فيما بعد مصطلح القبائلية عنده، وسأعرض العلامات البنيوية لكلتيهما من خلال الجدول الآتي دون الاستشهاد المباشر بعروض تلك العلامات لأني سأحلل من خلال ثنائية أخرى - جدول رقم (2).
وبذا نستنتج أن الثنائية التداولية بقانونيها الإحيائي والاحتباس الدلالي تسعى إلى استرجاع هوية خاصة بفئة أو طبقة أو مجتعم وإحيائيها عبر نظام معاشي من خلال اللغة والسلوكيات والرموز والشعارات، ومن أهم أمثلة المنظومة الإجرائية (للنظام المعاشي) التي استشهد بها الغذامي: جدول رقم (3)
وقبل إغلاق هذه الثنائية لا بد أن نقف عند محور مهم كنت قد صرحت به نهاية الحلقة الثانية وهو خطاب القبيلة والقبائلية بين العقل الإحيائي والعقل التجاولي.
إن العقل الإحيائي والعقل التداولي يبحثان في هويات ما بعد الحداثة، ويمكن تعريف العقل الإحيائي بأنه (تحليل علامات المرجعية التاريخية لبنية الهوية من خلال الواقعة الاجتماعية وضبط أثرها في إنتاج وقائع متشابهة) ووفق هذا التعريف فإن العقل الإحيائي يقوم بوظيفتين، وظيفة تفكيكية أي التحليل الإجرائي لبنية الهوية، ووظيفة تصنيفية أي فرز العلاقات المنتجة من قبل الواقعة الاجتماعية وجدولة خصائصها وروابطها بعلامات مرجعية الواقعة الاجتماعية، وهو ما يمنح الوظيفة التصنيفية بعد تركيبي وبعد تحويلي.
في حين أن العقل التداولي كما يعرفه علي حرب (هو تركيب واستثمار أو صرف وتحويل من حيث علاقته بالمكتسبات والمنجزات، بقدر ما هو تفكيك وتعرية أو تجاوز وتحرر من حيث علاقته بالموانع والعوائق التي تتيح الأزمات وتولد المآزق)(1).
وبذلك، فالعقل التداولي عند حرب يقوم بخمس وظائف هي: التركيب، الاستثمار، التواصل، التأويل، والتحويل.
والوظيفة التركيبية هي ما (يصدر عن فكر تركيبي في التعامل مع الواقع)(2) والوظيفة الاستثمارية هي استثمار التعددية الثقافية، ويتضمن ذلك الاستثمار ثلاثة مستويات هي (النظر إلى المجتمع من حيث تعدد عناصره وقواه ومشروعاته؛ والثاني قبول الآخر من حيث كونه مختلفا ومساويا في آن، والثالث وهو الأهم اقتناع المرء بأن هويته هي تعددية، بمعنى أنها مسرح لتعدد الأطياف والشخوص والأصوات بقدر ما هي سوية وجودية)(3) والوظيفة التواصلية أي التعامل مع (الظاهرة الاجتماعية) من خلال أن العلاقات بين البشر هي إمكانات (للتعارف والتبادل، سواء في الزمان بين الأجيال والأطوار، أو المكان بين الثقافات والجماعات)(4) وهو ما ينتج بدوره التخلص من (أسر الفكر الأحادي) وإتقان (لغة الحوار والتسوية مع النظراء أو الشركاء بابتكار الوسائط.. أو خلق الأوساط والبيئات التي تتيح التلاقي والتواصل أو التفاهم والتفاعل)(5) والوظيفة التأويلية هي إعادة إنتاج المعنى (عبر تداول الكلام وإنتاج الخطاب وتشكيل النص على سبيل النسخ والاختلاف أو الزحزحة والإحالة أو المجاز والاستعارة)(6) والوظيفة التحويلية لناتج التعددية تتم بصور متعددة أما (بصورة خفية أو مرئية، طفيفة أو على شكل طفرة، وعلى نحو تتغير معه العلاقات المتداخلة والمركبة بين اللغة والفكر والحقيقة والواقع)(7).
ووفق ذلك العرض سنلاحظ أن العقل الإحيائي جزء من العقل التداولي باعتبار أن نتائج التحليل الإجرائي التي يقدمها العقل الإحيائي هي موضوع دراسات العقل التداولي، وتلك النتائج جدول رقم (4):
أعتقد أن الفرق أصبح واضحا بين العقلين، كما أن طريقتي في تحليل الثنائية التداولية تندرج تحت عنوان العقل الإحيائي.
وبذا فخطاب القبيلة والقبائلية يمثل العقل الإحيائي بوظيفتيه وحديها الصوريين وطبيعة نتائجه، وهذا التمثيل يجعله جزءا من العقل التداولي.
كما أن هناك مشتركات ومختلفات بين الغذامي كممثل للعقل الإحيائي وعلي حرب كممثل للعقل التداولي حاولت أن أرسم خطوطهما الأولية من خلال الجدول رقم (5)
* * *
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة«7333» ثم أرسلها إلى الكود 82244
جدة