Culture Magazine Thursday  30/04/2009 G Issue 281
فضاءات
الخميس 5 ,جمادى الاولى 1430   العدد  281
طفولتي والكتاب
فاطمة ناعوت

 

لماذا الكلامُ عن الطفولةِ ممتعٌ وشيّقٌ، وشاقٌّ في آن؟ ربما لأنها المنطقةُ الآمنة في عمرنا. كَنزُنا الخبيء الذي لا قِبَل لقوّة في الكون على انتزاعه منّا.

ذاك أن المستقبلَ غامضٌ ومخيف، والحاضرَ حَذِرٌ ودقيق؛ يستوجبُ الحَيطةَ في كلِّ سلوكٍ نأتيه، وكلِّ كلمةٍ نقولها، وكلِّ شخصٍ نضيفه إلى دائرة حياتنا، أو نُقصيه عنها، فالحاضرُ خَطِرٌ لأن المستقبلَ غالبًا مرهون به، فيما يبقى الماضي، وحده، مساحةَ البراح الأمن الذي لا نخشاه، لأنه حدث بالفعل وانغلقَ قوسُه.

وربما الحديثُ عن الطفولةِ ممتعٌ لأنها أُحجية.

معكوس الأحجية.

نستمتع بتأمل كل تفصيلةٍ فيها وكيف كان لها أثرُها على حاضرِنا الراهن، وبالتأكيد مستقبلنا.

نتذكَّر شخوصًا قديمة كانت في طفولتنا.

أين هم الآن؟ شاخوا؟ ماتوا؟ اختفوا عن عيوننا ولا ندري عنهم شيئا؟ نتذكّر كذلك ألعابَنا ودُمانا وأراجيحَنا، ونقاط لهونا الأولى.

نتذكَّر (الأول) في كلِّ شيء.

الأول طبعًا بعدما تشكّل وعينا وإدراكُنا.

أولَ لُعبة، أول قُبلة، أول صَفْعة، أول (تصفيقة) نحصدها، أول كلمة توبيخ أو نظرة عتبٍ، أول كتاب نقرؤه، أول كوبٍ نكسره، إلخ.

عن نفسي، كانت طفولتي، فيما أظن، تحملُ سماتٍ فريدةً عن السائد بين الناس.

فأنا ابنة تزاوج بين طبقتين وثقافتين ورِهانين على الحياة متناقضين.

أمي سليلة عائلة عريقة تؤمن بالعلم والسلطان والمال، فيما كان أبي من طبقة البروليتاريا، التي تنام قريرةَ العين حينما تؤمن عشاءَ أولادها، ولا شيء أكثر.

أصرّتْ أمي على منح طفليها، شقيقي وأنا، تعليمًا رفيعًا يشبه تعليم عائلتها، فيما كان أبي يؤمن أكثر بالحياة.

الحياة وفقط.

سعت أمي لكسب المال الذي يؤمِّنُ لطفليها التعليمَ المُكلِّفَ في مدارس أجنبية، والطعامَ المميز الذي يجعلهما صحيحين نابهيْن، بينما كان أبي يُجلِسنا على ركبتيه ويحكي لنا قصص الأنبياء، وحكايات كليلة ودمنة، ثم يدير التسجيل على أغاني فهد بلان وصباح وأم كلثوم.

أمٌّ صارمةٌ حادّة لا تُسامحُ في الهِنة والخطأ، تُلقمُ طفليها حبَّ الاستذكار بالملعقة، ولو على حساب أن يفرحا ويلعبا، وأبٌ بوهيمي طيّب لا يعنيه إلا أن يُسعِد طفليه ويملأهما بهجةً وفرحًا.

لكن ذلك الأبَ الجميلَ سيختفي عن ناظريْ مبكرا جدًّا وأنا بعدُ في السابعة، لتتلوَّن حياتي القادمة كلُّها بلون الجِدِّ والقساوة والاستذكار والوحدة، وفقط.

لا شيء سوى قراءة المناهج الدراسية، صيفًا وشتاءً.

لم أعرف شيئا اسمه (عطلة نهاية العام).

ذاك أنه ما أن تنتهي السنةُ الدراسية، أجد مكتبي وقد احتلّتْ سطحَه كتبُ العام الدراسي المقبل! ضمن لي هذا ولشقيقي تفوقًا دراسيًّا دائمًا.

لكنه ضمن أيضا بَونًا عن الحياة وشِقاقًا معها.

لم نعِش.

ولم نلعب.

ولم نصادق.

لم نفرح كثيرًا ولم نحزن كثيرًا.

لم نتعلّم ما ينبغي أن نتعلّمه من فنون الحياة.

لكن حَدَثًا فريدًا حدث في حياتي الأولى وفّر لي شيئا من حُسن الطالع.

فقَدَ جدٌّ لي، خال أمي، عينيه إثر حادث سقوط في بئر المصعد.

فتحوّلتُ أنا إلى عينيه اللتين تقرآن له؛ لأنه كان مدمنًا على القراءة وتحصيل المعرفة، حتى وهو في تلك السنّ الكبيرة.

قرأتُ معه مبكرًا جدا كلَّ ما من شأنه أن يُكوّن مُكوّني المعرفيّ من آداب وفنون عربية وإنجليزية.

كان أبي، في القديم، قد حكى لي قصةَ مريم العذراء وطفلها المسيح الذي حاجج اليهودَ وهو بعدُ طفلٌ رضيع في المهد؛ فانفتح أمامي عالمٌ من الفانتازيا والشِّعر والعجائبية.

سوف تجعلني هذه القصة دائمةَ البحث عن الخيال والسِّحْر والشِّعر.

الشعرُ غيرُ المكتوب؛ الشعرُ الذي في الحياة وفي البشر وفي الأحداث.

ولمّا سأقرأ مع جدي الكفيف، فيما بعد، الأغاني والشوقيات وجبران والأصمعيّ وشكسبير سوف ينفتح أمامي عالمُ الشعر (المكتوب).

ثم يحدث أن تستهويني الميثولوجيا الإغريقية فأقرأ الإلياذة والأوديسة أكثر من مرّة حتى تتشرّبَ خلايا عقلي أحاديثَ الآلهة وسِجالاتهم ومكائدهم ومعاركهم وغرامياتهم، فينفتحُ دربٌ جديد داخلي على عالم أسطوريّ لا يشبه إلا نفسه.

ثم يحدث أن أقرأ سلسلة ألغاز (المغامرون الخمسة)، للكاتب المصري الجميل محمود سالم، فأتعلّم تحليلَ الأشياء مهما صَغُرَت، ذاك أن لا شيء صغيرًا في الوجود لا أثرَ له، وسوف تعزِّزُ تلك السمة دراستي الرياضيات في كليّة الهندسة فيما بعد.

قرأتُ في طفولتي كذلك سلسلة قصص الأطفال (المكتبة الخضراء( التي كانت تصدر عن دار المعارف، لأدخل عوالمَ الجِنيّات الساحر، بكل عذوبته وشراسته وغرائبيته.

كلُّ تلك الخيوط التي اشتبكت في عالمي الصغير سوف تصنع مني فيما بعد كائنًا لا يكفُّ عن الاندهاش.

والدهشةُ، في ظني، هي أمتعُ الغرائز التي تباغتُ الإنسان.

والذكيُّ منّا، والبرجماتيُّ أيضا، هو الذي لا يدعها، الدهشةَ، تُفلِتُ من بين أصابعه أبدًا، مهما تقدّم في العمر.

وأنا أحد البرجماتيين هؤلاء الذين يصرّون على الاندهاش من كلَّ ما قد لا يُدهِشُ الآخرين.

صحيحٌ أنني لم أعش (الحياة) طولاً وعرضًا بما يضمن لي ثقافةً اجتماعيةً واسعة، لكنني عشتُ (حياةً افتراضية) تنهلُ من المثالية والكمال عبر ما قرأتُ من كتب متباينة المناهل متضاربتها.

وفي الأخير ربما لا أقدرُ أن أوصِّفَ طفولتي بحُكم قيميّ: هل عشتُ طفولةً سعيدة، أم لا؟ ذاك أن السعادةَ قيمة لا معيارية.

فإن اتفق الجمعُ على أن سعادة الطفولة تُقاسُ بكمِّ المرح واللعب والحنوِّ التي ينالها طفلٌ، فأنا بعيدةٌ عن تلك الأنهار من السعادة، وإن كان للسعادة مفهومٌ فردانيٌّ يختلفُ من شخص إلى آخر، فأنا سعيدة بطفولتي التي نهلت مُتعَها من زيوس وهيرا وأوديسيوس وأخيل، من الإلياذة؛ وتختخ ولوزة، من المغامرين الخمسة؛ وكوازيمودو وأزميرالدا، من أحدب نوتردام؛ ونوح وعيسى والخضر ويوسف، من قصص الأنبياء.

تلك العائلاتُ الضخمةُ بجموحِها وطيشها وعذوبتها عوضتني عن ربتةٍ حانية فوق كتفي، أو قُبلةٍ فوق وجنتي، أو كلمةِ (أحبك) من أمٍّ لم تدرِ إلا أن الحبَّ هو طعامٌ جيد ودرجاتٌ ممتازة في شهادة آخر العام.

القاهرة

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة