Culture Magazine Monday  26/01/2009 G Issue 268
سرد
الأثنين 29 ,محرم 1430   العدد  268
مدائن
سيف الرحبي بين الرحيل شعراً والوطن غبطةً

 

 

 

 

 

 

 

إعداد - عبدالحفيظ الشمري:

حينما يرتحل الشاعر عن نجوعه القفر إلى مدائن عامرة بصخب الحياة، ولحظة أن يعود المفوَّه إلى سيرته الأولى، ليروي لمن حوله لغة (كان يا ما كان) تؤول الحكاية إلى مجدها الأول، ويطنب الشاعر في بوحه عمَّا اعتلج في الوجدان من مشاعر حب أو مقت أو حياد موشى بوسطيته المرة.

هكذا هو الشاعر العماني سيف الرحبي الذي ظل ومنذ أن غادر قرية (سرور) مروراً ب(سمائل) الوادعة ومنهما إلى (مسقط) العاصمة، ومن ثم إلى مدائن أخرى كان له أن يفصح شعراً في سيديميات ذلك الغياب عن الوطن، فها هو في كل قصيدة من قصائده يتأمل الفارق بين ماضيه في القرى النائية وحاضره الذي يزرع فيه المفاوز اللامعة، بحثاً عن ألق عتق من متبطات أحزان راعفة، وإجداب وجداني هائل لا يمكن معه الاحتمال، أو التصور بأي حال من الأحوال أن هناك فتحاً جديداً، أو خلاصاً ممكناً مما نعيشه الآن من منغصات كثيرة لا حصر لها.

لم يتخلَ الشاعر سيف الرحبي عن ماضيه حتى وإن أبكاه، فهو المعادل الحقيقي لما يحياه الآن من حاضر يتسم بالغربة الطويلة، والسفر الذي لا ينتهي.

فتش عن قرية (سرور) التي هجرها ابنها الشاعر الرحبي، فستجدها حاضرة معه في جل قصائده، لا سيما حينما تطالع ديوانه (قوس قزح الصحراء)؛ فستجد أن الرحبي مدين للظمأ، وعاشق للحنين، وطروب حتى الثمالة حينما يكون في معية الرمل. لكن سرعان ما يلوذ (الرحبي) خلف سواتر الرحيل لألم ما، ربما نكأته جراحات الماضي القريب منه والبعيد، لتظل الصحراء على الحياد في حياته الآنية رغم أنه دائماً ما يستشعر أنها هي ملهمته الأولى لأحزان أي قصيدة يود أن يضوع فيها شميم (الرتم) و(الغضا)، و(العرفج)، و(الشيح).

الشاعر الرحبي يهجس غبطة بالوطن الذي علمه كيف يحزن منذ خشونة أظفاره، إلى مسحة ود رتب لها في المنافي البعيدة. زد على هذا وذاك أن الشاعر دائم البوح في سجية الغياب عن الوطن، فهو الذي يتوق إلى تحول زمني، وعقلي، ومنهجي، يقيه شرور المفاوز اللامعة، أو لعله يلقي بعصا الترحال على بوابة الرمل، وقد تماثلت للشفاء من أسقام عديدة، لا أمل ببرئها في الراهن المنظور.

الشاعر الرحبي هو أكثر الشعراء العرب وقوفاً على مشارف المدن، فهو الذي يناقض شعراء العربية الذين وقفوا على الأطلال، بل إنه زاد عليهم أنه وقف على كل شبر من الأرض ودوَّن قصيدته في بَجر الشمال، وبحيرة المانش ونهرها المتهادي، ولاهاي وذكرياتها المؤلمة.. وعودته إلى الجبال، وإلى منابت الطفولة وتلك الشموس الضاربة فوق رؤوس الرعاة الذين يحدقون بتمعن مريب بالعابرين إلى قراهم، على نحو ما يكابده الشاعر سيف الرحبي حينما يعود إلى (سمائل) ومنها إلى (سرور) ليروي في حضرة من بقي فيها، سفر في مشاهدات الولع في العودة إلى حزن صنع منه شاعراً لا يقوى على مبارحة ماضيه الرمادي.

المدائن لدى سيف الرحبي لا تتشابه أبداً.. فهي مثل النساء المعجونات بالتناقضات فلا يخلق في الشبه مدينتين أبداً، إنما لكل بلاد حزنها الخاص، ونكهة حاضرها الذي يسكن على ضفاف روحية تضاد العزلة، وإن سكنتها الجميلات أو فاضت بشموس صافية ومياه هادرة، وأنهار طويلة، ومحيطات متلاطمة، ومرتفعات تتباهى في العلو، ومنحدرات تؤكد لأزمنة متطامنة.

المقهى في عزلة من الحياة هو وطن شقي لا يمكن للشاعر أن يغادره إلا بكمٍ هائلٍ من الأحزان، كما أن الانتظار لديه يتجسد في مدن يعمرها اليأس من بلوغ اللقاء المرتقب لسيدة تحرك راكد الحياة:

(لم أكن قبيحة ولا جميلة

وليس لي علاقة بنسب المقاييس

كنت يتيمة الدهر

صرخة بحار تائه

لذلك لم أرَ الأشياء

إلا بعيون جوارحي وحدها).

فالشاعر سيف الرحبي يرتحل بحثاً عن حلم يتداوى فيه من واقع يسكنها الحزن، وينافس أهلها على البقاء وحق المواطنة، ففي الارتحال يجد الرحبي ذاته شاعراً.


 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة