Culture Magazine Monday  26/01/2009 G Issue 268
سرد
الأثنين 29 ,محرم 1430   العدد  268
قصة قصيرة
مَنْطِقُ الطالبات
قصة: سعاد فهد السعيد

 

هناك مَنْ يحوم في الظلام الذي يتماس مع محيط الضوء، وهناك من يحوم داخل الضوء، وهناك من يحترق بالضوء، لا أتكلمُ عن فراشات العطَّار، ربما يَكُنَّ رمزًا لذلك، بل أتكلَّمُ عن الرجال الثلاثة، وعن الرومانسية السلبية والرمانسية الإيجابية والرومانسية المتطرفة التي تقسو على النفس في سبيل الآخر. نُعيبُ المقدماتِ الإنشائيةَ وهذه إحداها؛ أرجوكن اعذرنني!! لأنَّ موضوعاتٍ معينةً لا تقبل إلاَّ تلك الصيغ الإنشائية الجاهزة نَدخُلُ من خلالها إلى الأفكار مُرغمِينَ لا مفتولي العضلات، ربما تكون الموضوعات التي تَفرِضُ بداياتٍ إنشائيةً هي نفسها موضوعاتٌ تقليدية. اخْترن فراشةً أعني رَجُلاً واحدًا من الرجال -المذكورة قِصَّتُهم مع المرأة فيما يلي- يَكونُ أكثرَ مقبوليةً عند كلِّ واحدةٍ مِنكن، وإجابتكن لا تكونُ مقبولةً لدي إلاَّ إذا توافقتْ مع الإجابة النموذجية المدونة عندي!!

حِكايتهم معها -وأُنبِّهُ للمرة الثانية لا تخلطن بين الرجال في الحكاية وفراشات النيسابوري الثلاث؛ تلك موضوعهن أخرويّ، وموضوعنا دنيوي، هُنَّ فقط ،كما ذكرتُ، رمزٌ لا أكثر-.

يَنظُرُ إليها بفمٍ مَخيط ولسان عاجز عن تمزيق تلك الخيوط؛ في خياله شبَكتْ يداه يدَها يستنشقان معًا بأنفين ملتصقين وردةً واحدةً حمراء يقطفها من العالم الواقعي يملؤها بالعطر الاصطناعي، وتَصِلُ به الأهواءُ إلى الضمِّ والتقبيل، فيُعيدُ وخزُ شمسٍ حارقة وردةً تَقبضُ عليها يدان لا ثالثة بينهما، وأنفًا واحدًا مائلاً يلتصق بوجهه، وطار مَن بالعناق، وانْفكَّ التقبيلُ عن فَراغ.

يَخافُ لكمةً تزيد ميلان أنفه، وهَبْدةً تُغوِّصُ عينَهُ، ويدًا تَلُفُّ رقبتَهُ، تزايدتْ خيوطُ فمه فخاطتْ عينيه فرأى الظلام، وخاطتْ فتحتي أنفه فتساوت الورود الاصطناعية بالطبيعية، وخاطتْ يديه على جسده فاكتفى بضمِّ نفسِه، وخاطتْ قدميه في مكان وقوفه فتبدَّلت الفصولُ وغطَّت الشمسَ الحارقةَ غيمةٌ في الصيف، وشجرةٌ في الربيع، واصفرارُ عاصفةٍ في الخريف.

حام ثم حام، ومَنْظَرُ اللكمات والبصقات والبوكسات والضربات والهدَّات. وكُلُّ ما ينتهي بالألف والتاء يجعله لايزال يحوم في مكانه.

كُلُّ خيالات الفراشة الأولى جَسَّدَها الرجلُ الثاني واقعًا حقيقيًّا معها بلا دموع وبلا آهات وأنات وحسرات، وأآت. غطاها بالهدايا الرمزية والتذكارية وباقات الورود، وكلمات الغزل الجاهزة عبر رسائل الجوال النصية والوسائط وعلب الشوكولاتة والمشروبات الساخنة والباردة في المنتزهات والحدائق الحكومية.

حام ثم حام وحدوده المالية تضيق، والغلاء العالمي يكسر يديه، وأصدقاؤه يَضيِّقون به سَلفًا وتدينًا وشحنًا لشريحة الجوال وتأجيرًا للسيارات ودعواتٍ مَجانيةً للحدائق والمتنزهات الخاصة، وكوبونات مدفوعة الثمن للمطاعم الرديئة والمحال الرخيصة. يعلم أنَّ مشاعِرَها تِجاهَهُ عاديةٌ؛ لكنَّهُ وَجَدَ سعادتَها كافية ليخسر ماله ويتسلَّف ويَضرِبُ رأسَهُ بالحيط.

يَخاف أنْ يَتطوَّرَ الأمرُ إلى مَحال الخمسةِ نجوم، ومتاجر الألماس، والمطاعم المعلَّقة. وكُلُّ صيغ مُنتهى الجموع تجعله لايزال يحوم.

الطعامُ يَبردُ ويُرفَعُ دون أن تمسَّه شفتاه -نحن نتكلم عن الفراشة الثالثة- يُعذِّبُ نفسَه بالوقوف بالحرِّ الخانق أو البرد القارس لو إغفاءةٌ سرقتْهُ؛ لأنَّهُ خانها وأَراحَ عقلَه من التفكير فيها. عيناه سحَّاوان ليس بالليل كعادة العشاق بل النهار أيضًا، وهذا تطوُّرٌ طبيعيٌّ للعشق. وفيه بقية الصفات المكرَّرة التي تأتي في وصف العشاق؛ اللون الأصفر والأزرق، والهُزال، والعظم المكسوّ بالجلد، وغيرها من تلك الصفات الدالة على قلَّةِ الأكلِ والنومِ والزوغانِ وهَمِّ التفكيرِ. تصريحُ المواطنةِ الجديدُ فَتَحَ له أبواب الدوائر الحكومية، ومؤسسات الدولة؛ لكنه لم يُفدهُ في النفاذ إلى بيوت العائلات، ومصاهرتها، قبل المواطنة عاش ضيفًا مكرمًا في تلك البيوت، وبعدها سُلِبتْ عنه مكرمةُ الضيف وعجز عن أن يكون مُضيفًا لإحداها.

يَخافُ المُعايرةَ بجواز سفره القريب العهد بالتجنس؛ فحام ثم حام وعينُهُ -لو اقترب- على المَرْمَطة والبَهْذَلة والجَرْجَرة. وكُلُّ وزن فَعْلَلة يجعله لايزال يحوم في مكانه.

بعد سماع الحكاية فكِّرنَ.. تشاورن.. خُذنَ وقتًا، ثم لِتَضع كُلُّ واحدةٍ منكن نفسَها مكان المرأة وتختار الرَجُلَ الأنسبَ لها، رجلاً واحدًا فقط!! ولا تقلن ما للمعلمة شطحتْ ونطحتْ وصاعتْ وضاعتْ ولم تجد إلاَّ هذا الموضوع؟!

تغامزت الطالباتُ مرتابات في المعلمة؛ ففي الحكاية ضمٌّ وتقبيل،ٌ أمورٌ حيَّرتْ خيالهن في تصوُّرِ بطلة الحكاية في صورة المعلمة، ولعبتْ في عقولهن مقولةُ مَن لا يَعرِفُكَ يَجهَلُكَ، فقامتْ تلميذة بادئةً بسؤالٍ تمهيديٍّ يَسبق السؤالَ المسلول من لسانها الطويل لتقطع به الشكَّ باليقين: أهؤلاءِ الرجال الثلاثة أزواج تلك المرأة؟

أجابت المعلمة: يا ذكاء مَنْ أنجباكِ، وأين سقطت السواطير والسكاكين والأكياس السود من القصة لو كان الرجلُ الثاني زوجًا لمرأةٍ ؟!

ثم جاء سؤالها الذي مالتْ آذانُ زميلاتها إليه: بطلة الحكاية مَن تكون؟

أجابت المعلمة: أنتِ، وكلُّ طالبةٍ تسألني مَن تكون تلك المرأة سأقول لها أنتِ.

قالتْ طالبةٌ لزميلتها: ألم تُلاحظي المعلمةَ تَخلط ؛ مرةً تقول فراشات العطَّار، ومرةً تقول فراشات النيسابوري، لا تُركِّزُ في فراشاتِ مَنْ بالضبط تُريد؟!

ردَّتْ زميلتها: فراشات العطَّار.. فراشات النيسابوري.. فراشات اللهو الخفي، موضوعنا الرجال، ركزي فيهم، طيِّري الفراشات من دماغك، إنَّهُنَّ رموزٌ فقط، كم مرة المعلمة كرَّرتْ ذلك؟!

همستْ طالبةٌ في أذن زميلتها: الثاني حلوٌ.

ردَّتْ زميلتها: اللزقة، لا، أنا أكرهه اللزقات.

استرقت السمعَ أخرى وقالت: ضَمٌّ وتَقبيلٌ، لا...لا.... عيب أنتِ وإياها!

ردَّتْ عليها الأولى: عيب... ضم وتقبيل... عيب، يظهر أنَّ عهدَكِ بالبث الفضائي لا يتجاوز روتانا زمان وفيلم (المَخدَّة الخالية).

صحَّحت الثانية: الوِسادة الخالية.

الأولى: مخدة.. وسادة المهم أنها خاوية أو خالية لا أدري، لست مِن هواة الأبيض والأسود.

قالت طالبة لزميلتها: سأختار ذا اللون الأصفر والأزرق؛ لأني أشجع نادي النصر.

ردتْ زميلتُها: رَجُلٌ لا يأكل ولا يشرب يَصلُحُ لي أنا، لأني لا أُحِبُّ دخولَ المطبخ.

ردتْ الأولى: ولونه الأصفر والأزرق ماذا ستفعلين بهما وأنت تشجعين الهلال؟!

قالت طالبة لمجموعة من الطالبات: أنا.. قبل أنْ أختار لا بُدَّ أنْ أعرِفَ هذا الدرسُ مِنْ أيِّ مادةٍ في المنهج، وما معنى إجابة نموذجية؟! نحن نختار لنا أو لها؟!

ردت إحداهن: أما الدرسُ ففي مادة كيف تصبحين خَطَّابةً في سبعة أيَّام، أمَّا لِمَنْ نختار فلا يهم لنا أو للمعلمة أو حتى لبطلة الحكاية؛ لأنَّ الزواجَ في النهاية قسمةٌ ونصيبٌ وليس إجابةً نموذجيةً.

بعد أن توزًّعت اختيارات الطالبات على الرجال الثلاثة، قالت المعلمة: لم أتوقع أن طالباتٍ سينعتقن في نهاية العام من التعليم التربوي إلى التعليم العالي، وفي زمن الفضاء والاتصال الإعجازي تتوقف اختياراتهن عند الرجال الثلاثة، أين الرجل المثلت؟! لماذا لَمْ تختارْ ولا واحدة منكن الرجل المثلث، الإجابة النموذجية عندي هي أنْ تخترن الرجل المثلث الذي يتمتع باجتماع الفعاليةِ الثلاثية القوَّةِ والمال والسلطة.

تبادلت الطالباتُ نظراتِ الاستخفافِ بتلك المعلمة التي تحكي وتنسى ما تحكي، فقامتْ طالبةٌ، وقالت: يا أستاذة كيف نختار رَجُلاً من القصة غير موجود فيها أصلاً، أنتِ لم تأتي على ذِكْرٍ لرجُلٍ مُثَلَّثٍ ولا مُرَبَّعٍ ولا متوازي الأضلاعِ.

قالت المعلمة: لم يأتِ ذِكْرُ الرجلِ المثلثِ في الحكاية!!! هل تعرفن أنَّ كُلَّ رجلٍ من الرجال الثلاثة الذين اخترتنهم قد جاء ذِكْرُه في القصة مرَّةً واحدة فقط، والرجل الرابع الذي تجاهلتنَهُ جاء ذِكْرُهُ في القصة ثلاثَ مراتٍ، ومع ذلك لم تلحظنه، بل تدعين أنه لم يرد في القصة، وأنا لم أَذْكُرْهُ، أَعِدْنَ القصةَ في مُخيلاتِكُنَّ ستجدْنَهُ يُطِلُّ عليكن في حكايةِ كُلِّ فراشةٍ آآآآ رَجُلٍ.

القاهرة

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة