Culture Magazine Monday  26/01/2009 G Issue 268
فضاءات
الأثنين 29 ,محرم 1430   العدد  268
مفهوم الرقابة على الكتب
منصور المشوح

 

مع كلِّ معرض دولي يقام في مدينة الرياض، يكثر الجدل عن ماهية الكتب الممنوعة والكتب المجازة؛ ففي أحيان كثيرة تقوم بعض الجهات المسؤولة بمنع بعض الكتب المهمة بحجة أنها خطرة على العقول، في حين تقوم نفس الجهة بإجازة كتب أخرى يقال إنها تغذي العقول وهي في حقيقة الأمر عكس ذلك تماماً.

إن هذا ما يجعلنا نسعى إلى إعادة النظر في فهمنا لمعنى الرقابة أو بمعنى آخر إعادة صياغة المفهوم العام للرقابة؛ فإن هذه المشكلة أو بالأصح هذه الفوضى الرقابية، تحديداً، تجعلنا نشك في مصداقية المفهوم الحالي للرقابة، ونسعى بالمقابل إلى إيجاد مفهوم آخر له يكون حضارياً، ويتلاءم مع الوضع السائد للمجتمع، وهو ما نسعى إليه حقاً في هذا الموضوع. علينا أن نعترف أولاً بأن الرقابة (المتشددة) لم تكن معهودة في تأريخنا الإسلامي، بشكل واضح، إنما كانت هناك قرارات تاريخية شاذة من قبل بعض الخلفاء والسلاطين، كما هو معروف عن المعتضد بالله، ومحمود ابن سبكتكين. كما أن علينا ثانياً أن نستحضر الأدلة الشرعية من القرآن والسنة؛ فالقرآن يؤكد ضرورة وجود ساحة واسعة من الحرية، من شأنها تنشيط الحراك الثقافي في المجتمع؛ فالله عز وجل يقول: (فَبَشِّرْ عِبَادِ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ)؛ أي أن المؤمنين العقلاء عليهم أن يكونوا غير منغلقين على أنفسهم بل إنهم يستمعون ويأخذون مما استمعوا أحسنه، أو كما يرى الزمخشري بأن الله (أراد أن يكونوا نقاداً في الدين يميزون بين الحسن والأحسن والفاضل والأفضل..) ا-هـ، وقال الشوكاني: (وقيل: هو الرجل يسمع الحسن والقبيح؛ فيتحدث بالحسن وينكف عن القبيح؛ فلا يتحدث به) ا-هـ. هذا ما جاء في القرآن. وأما في السنة النبوية ففي قوله صلى الله عليه وسلم: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة)؛ فقال: علماً، أي أيَّ علم، سواءً كان دينياً أم دنيوياً، سواءً كان في كتاب، أم في شريط علميّ، أو في غيرهما. إن كلمة (علم) جاءت نكرةً غير معرَّفة كما تلاحظ، فإذا كان القرآن الكريم والحديث الشريف لم ينهيا عن التفاعل الثقافي والحراك المعرفي الحر؛ فلماذا نرفض تلك الكتب التي لا تتوافق مع أفكارنا ورؤانا؟ لماذا لا نكون جريئين, كما أمرنا الله؛ فنقرأ تلك الكتب؛ فنأخذ منها أحسنها، ونترك ما يضر بنا أو بعقيدتنا. إن الرقابة موجودة منذ أقدم العصور أو منذ أن اكتشف الصينيون ورق البردى؛ إذ هي بلا شك، أمر محتوم على كل شعب، ولكن بنسب متفاوتة؛ ولذا فلا اعتراض على وجود هذه الرقابة عندنا، بيد أنه يجب أن تكون هذه الرقابة تكتيكية، لا استراتيجية؛ فتمَنعُ هذه الرقابة التكتيكية الكتاب الذي يريد الإضرار بالدين أو الدولة بشكل معلن وصريح وواضح، وهذا هو مفهوم الرقابة في القرن الثامن عشر، حيث عرفها فولتير بأنها (إدانة كتاب ما؛ لكونه يضر بالدين أو بالدولة). وأعتقد أن هذا المفهوم الذي طرحه فولتير للتو يتناسب تماماً مع منظومتنا الاجتماعية؛ فنحن نرفض كل كتاب يضر بالدين حتماً، وهذا لا جدال فيه، لكن المشكلة الحقيقية تظل عالقةً؛ إذ إن مفهوم الإضرار بالدين غير متفق عليه أصلاً عندنا نحن المسلمين، حيث كل فكر أو مذهب يرى أنه هو الدين وأن ما سواه باطل، وهنا يكمن جوهر المشكلة.

علينا أن نعترف أولاً بأن هناك من الناس من يعاني من انغلاق مطبق؛ الأمر الذي يجعله يرفض كل كتاب يخالف فكره ومعتقده الخاصين، وبأن هناك من الناس من يتهم كل من يخالفه بالسعي إلى الإضرار بالدين.

ثم بعد ذلك علينا أن نحدد معنى الإضرار بالدين؛ فهل حينما يحاول أحد المفكرين إعادة قراءة القرآن الكريم من منطلق فكري، نقول عنه إنه أضر بالدين أو عندما يحاول أحد الأدباء أن يفهم تراثه، هل نقول عن هذا إنه مضرٌّ بالدين. إن الكتب التي تضر بالدين حقيقةً ويجب فرض الرقابة عليها، هي الكتب التي تسعى إلى إسقاطه بشكل (صريح) ومعلن، أما تلك الكتب التي تحاول أن تفهمه من خلال تطبيق نظريات، ولو غربية، على نصوص مقدسة، فهذه، وإن كانت خاطئة في نظر الكثيرين، إلا أنها تعد محاولات جادة للخروج بالأمة الإسلامية من مأزق التبعية؛ ولذلك فإن منعها يعد خطأً كبيراً؛ لأن الإبداع في المجال الفكري أصلاً لا بد فيه من الزلل، والذي يطلع على التراث يعي ذلك تماماً، وإلا ما معنى أن يكون في الإسلام أربعة مذاهب؟ لماذا ابتدع أبو حنيفة طريقة القياس، ولم ينكر العلماء المعتبرون عليه ذلك؟ لماذا ظل مذهباً معتبراً له أتباعه الكثيرون والمؤثرون إلى اليوم؟

إن الأفكار التي لا تروق لنا - حتى وإن كانت شاذة - من الصعب محاصرتها عبر المنع، بل يجب أن تواجه بفكرة أخرى أكثر جدية منها، أو كما يقول: بارون دولباخ: (الكتاب يجب أن يجاب بكتاب، لا بالسجون والعقوبات التي تحطم المؤلف ولا تحطم حججه). إن المنع أو المنع الاستراتيجي، على حد تعبير المفكر الإيراني محمد خاتمي، لن ينهض بالأمة، ولا بأوطانها، بل سوف يكرس حقيقة التخلف عندها، وسوف يفاقم من مشكلة الانغلاق الذي تعاني منه أوطاننا في الوقت الحاضر، وفي المستقبل إن هي أصرت على ذلك.

-

الرياض Maam1396@hotmail.com

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة