Culture Magazine Monday  26/01/2009 G Issue 268
فضاءات
الأثنين 29 ,محرم 1430   العدد  268
سوسن أبيض
قاسم حول

 

لم نكن نتعرف على جمال وسحر الفيلم الأمريكي لولا وجود شركات توزيع عملاقة أنشأتها هوليوود إلى جانب شركات الإنتاج التي أوصلت لنا نسخ الأفلام مترجمة من كاليفورنيا حتى البصرة وعدن وجيبوتي؛ فكنا نشاهد الفيلم وهو لا يزال يتنقل في صالات السينما الأمريكية.

وهنا تأتي أهمية دور النشر العربية التي تمتلك قدرة توزيع الكتاب؛ فبدون دور النشر القادرة على توزيع الكتاب تصبح الكتابة كمن ينظر إلى نفسه في المرآة. دور النشر هذه توصل لنا الكتب فقط تلك التي على أغلفتها أسماء تبيع لشعراء يحاكون عواطف المراهقات أو لكتاب يحملون وزر أوطانهم المقدسة الضائعة أو كتاب تمكنوا من اختراق الحصار أو اتشقت أمامهم فرص التألق في آفاق الغرب في الفكر والفلسفة؛ فسعت دور النشر لترجمة أعمالهم للعربية وهم عرب أو أعمال أدبية وروايات غير عربية حازت جوائز نوبل يطمح القراء والكتاب إلى التعرف على أسباب منح هذه الجائزة لهذا الكتاب دون غيره؛ فأين وكيف نتعرف على أعمال أدبية خارج دائرة الإطراء هذه؟

وكيف ينشر غير هؤلاء من الكتاب المبدعين الذين لم تسلط عليهم أضواء الحياة الملتبسة نعمتها؟ كيف يمكن أن نتعرف على هؤلاء المبدعين المختفين قسراً لولا الصداقات ووشائج الانتماء أحياناً والمصادفة حيناً آخر.. وكيف تتعامل دور النشر مع مثل هذه النتاجات؟

ثمة صفقات تجارية «أحيانا» بين الناشر والمبدع غير المعروف حيث تؤسس بعض دور النشر مجدها على خسارات كتاب وجهد المبدعين الذين يرومون طبع نتاجاتهم وكذا الشباب الذين يحملون رايات التجديد ويودون ممارسة حقهم في الكتابة والفن في غياب دعم الدولة للثقافة في بلدانهم بسبب كل الفوضى السياسية والاجتماعية التي غرق فيه الوطن العربي أو الشرق أوسطي. في مثل هكذا واقع يقدم المؤلف نتاجه لصاحب الدار ويدفع مقابل طبعها بين خمسمائة إلى ألف دولار مقابل خمسين نسخة للمؤلف، وغالباً ما يقوم صاحب الدار بطبع مائة إلى مائتي نسخة فإذا وجد الكتاب رواجاً أعاد طباعة الكتاب وبعكسه يحمل معه في معارض الكتب بضع نسخ من كتاب المؤلف. هنا يقوم المؤلف بتوزيع هذه الخمسين نسخة على الصحافة والصحفيين والأصدقاء.. وكل شيء حسب الحظ! بعض الكتاب من الذين لجأوا إلى الغرب وصاروا مواطنين فيه يحصلون أحياناً على دعم طبع الكتاب من المؤسسات الثقافية الداعمة للأدب والفن؛ فيقومون بطبع كتبهم ويختارون اسماً لدار نشر يضعون اسمها على الغلاف وهي ليست دار نشر وليست دار توزيع وجميعهم يتبادلون النسخ فيما بينهم للقراءة والتعرف على إنتاج الآخر.

بين يدي تجربة أدبية قصصية متميزة حقاً عنوانها (سوسن أبيض) لمؤلفها، العراقي محيي الأشيقر المقيم في السويد منذ التسعينات وقد صدرت حديثاً. ولمؤلفها مجموعتان من القصص القصيرة عام 1994 هما أصوات محذوفة وضريح الصمت. كما نشر رواية تحمل عنوان كان هناك عن دار قوس وهي رواية مهمة سجلت مرحلة من مراحل رحيل المثقفين العراقيين ومعايشتهم للواقع الفلسطيني في لبنان.

(سوسن أبيض) صادرة عن دار شرقيات في القاهرة. هذه التجربة القصصية لا تشبه التجارب القصصية العربية؛ فهي تمتلك الجدة والحداثة بكل معناها وبدون ادعاء؛ فالكاتب أولاً - من خلال معرفتي به وبأسلوبه - يمتلك قدرة متميزة في اللغة وفي المفردة وبناء الجملة وهو حقاً يتجاوز التقليد والمألوف ليس بدافع الاختلاف مع الآخر ولكن أرى أن تجربته القصصية تحتاج إلى انتباهة تقييمية نقدية وبشكل خاص هذه المجموعة التي تشكل انعطافة في كتابة القصة القصيرة. محيي الأشيقر في قراءتي له مهووس باللغة حتى تكاد اللغة عنده في القصة تطغى على الفكرة وقد وضح ذلك في قصته الطويلة نار لائذة بالخزف، حيث كنت أتمنى أن تجري موازنة بين الفكرة والحدوتة والشخصيات وبين اللغة بحيث تصبح اللغة وسيلة وليست هدفاً، ولا سيما إذا ما اتسم صاحبها بقدرة خاصة في استخدام اللغة. وبعكس هذه القصة فإن القصص الأخرى كانت اللغة فيها قد ارتقت بالحدث والشخوص وعبرت عنهما وتناولت الأفكار وقدمتها بحكايات أعطى الكاتب نفسه لها وعاش داخلها وكتب عنها بقلب مكلوم.

في القصة الأولى التي وجدت أن اللغة كثرت وصارت هدفا فخرجت عن النص وأراد الكاتب أن يلقي بكل مخزون الخوف الساكن في وجدانه وكل مخزون الاتهام والإدانة والدفاع والعشق السرمدي للوطن الذي تاه في عواصف المؤامرات وترك أهله يتفرقون في المنافي شذر مذر وبقي الوطن في الخواء الكامل، فإن المؤلف يمسك بقلوب المغتربين ويجس نبضها مثل الطبيب الحاذق، بعكس القصة الأولى التي لولا طغيان اللغة على الحدث لاصطفت أو تألقت مع القصص الأخرى. نقرأ منها على سبيل العينة اللغوية:

(سأكمل، لم يبق إلا القليل. اللهم ضوي عن تلك البرهة في الساعة العاشرة والنصف من ضحى يوم شتائي في التنومة وعن برتقالة واحدة تشي بسبعة من بساتين بعقوبة. اللهم ضوي، أعشق استخدام هذا الفعل اللطيف المهجور الذي يستخدمه الأصمعي والتوحيدي، لنا عن بطيخة صفراء من رحبة النجف، وغرفة من الدرجة الثلاثين بفندق في السماوة، عن ذلك الفجر الموحش تحت سماء موسكو. ضوي يا إلهي عن مشية الفرات في السهل الرسوبي، عندما يمشي في طويريج.. كل ذلك كي يستطيع الوقوف بجلد أمام نواويس الزجاج وتوابيت الجليد التي ضمت أجساد أحبائه وأسميانه بأمل الإبقاء على شيء من نضارة ملامحهم وأحلامهم).

غلبة اللغة على الحدث في القصة الأولى لا تقلل كثيراً من أهميتها الفكرية ولا الفنية، فيما نرى علاقة الجدل بين اللغة كوسيلة تعبير وتوصيل وفي ذات الوقت كقيمة تكشف الطبيعة الثقافية والاجتماعية للشخصيات أكثر وضوحاً في القصص التي تلت نار لائذة بالخزف - نلاحظ حتى عنوان القصة الأولى مأخوذ باللغة -.

استعمل الكاتب محيي الأشيقر في لغته الفصحى مفردات محكية أو متداولة ولكنها جاءت مبهرة في مكانات استعمالها وربما لبعضها أصول عربية مثل تعبير ينوش أو يكض وربما كانت أفضل مما لو استعمل المفردة العربية المألوفة؛ لأن المفردة الشعبية مع طبيعة المتحدث تعطي تعبيراً أدق عن الشخصية مع أنها مع كثرتها قد تتعب المترجم لو أتيحت لهذه القصص فرصة النقل إلى لغات غير العربية.

في مجال الحوار الشعبي كان المؤلف مبدعاً وكلماته على لسان بعض الشخصيات العراقية وخاصة في قصته الأخيرة فاكهة الغرباء فإنك أمام كاتب مسرحي والمؤلف درس المسرح أيضاً وساهم في كتابة بعض النصوص السينمائية الوثائقية؛ ولذلك جاء الحوار على العبارة في فاكهة الغرباء بين المتحدث ومسافر في عبارة تجتاز البحر بين كوبنهاغن ومدينة مالمو وهو عراقي يروي حكايته على سطح العبارة وحياته في العراق وكيف وصل السويد وحصل على الجنسية. يدور الديالوج في رحلة تستغرق ساعة ونصفاً يكشف فيها الأشيقر بلغة سلسة ومن خلال شبه هذيان مسرحي عالماً واسعاً يعيشه العراقيون.. عالماً فيه التفاصيل الدقيقة خلال الرحلة؛ ما يجعل القارئ يعيش معهما فوق العبارة التي تقلهم عبر البحر. والأشيقر في روايته الممتازة كان هناك وفي قصصه التي قرأتها في سوسن أبيض يعطي نفسه للحدث وللشخصيات وللمكان ويعيشه حقاً؛ فهو من الكتاب الذين لا يكتبون عن بعد. لا يشوف الأحداث ويكتب عنها، بل إنه يعيشها فتأتي تصوراته ونقلاته الفنية سلسلة، وتشعر أنه اكتفى من المكان وأشبع الحدث تعبيراً. والممتع في هذه القصص أنها مصاغة بشكل فني غير تقليدي في النقلات والبناء ونمط تقديم الشخصيات، كل ذلك عبر لغة عالية في التعبير يمتلكها الكاتب. وفي مجال الشكل فإن المؤلف استفاد كثيراً من الآداب ليس فقط الحديثة منها بل حتى الأعمال الكلاسيكية والتراثية والأساطير؛ ففي كل لون من ألوان هذه الآداب أشكال متنوعة ومنها أدب السيرة وحكايات ألف ليلة وليلة وأشكال كتابة المشاهد المسرحية أو سيناريوهات السينما. كلها أوحت له بشكل قصصي جميل أخرجته عن المألوف والمتداول وقدم من خلاله شخوص الغربة الذين يحيطون به ويعرفهم أو حتى يلتقيهم بطريق المصادفة.

السؤال: ترى كم من التجارب النادرة والممتعة مثل (سوسن أبيض) ينتجها المبدعون الذين لا تستهوي أسماؤهم دور النشر المقتصرة على كارتل من الكتاب الذين يتداولون على أغلفة الروايات والقصص والشعر؟

لا توجد قصة تحوي عنوان سوسن أبيض، بل توجد قصة عنوانها كآبة بيضاء. الناشر قال للمؤلف إن الشعب المصري يتشاءم من كلمة كآبة لأنه يعيش حالة اكتئاب اقتصادية واجتماعية وهو يميل بكل المآسي التي تمر عليه للنكتة وللضحكة وللحب ويريد أن يرى ويقرأ البديل عن الواقع وقال له أترك لي حق اختيار العنوان فاتفق مع المؤلف على عنوان سوسن أبيض؛ لأن ورد الرازقي قد ورد في إحدى القصص وهو من فصيل وردة السوسن وفي لونه الأبيض تعبير عن الثلج الذي يغمر السويد ويغمر القصص الجميلة.

ترى هل من وسيلة نتعرف فيها على أدب جديد وفن جديد لكتاب لا نعرفهم قد يحملون في وجدانهم قدرة البديل والجميل؛ مثلاً أن يقام معرض الكتاب المجهول أو شيء من هذا القبيل!؟

***

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة«7333» ثم أرسلها إلى الكود 82244

sununu@ziggo.nl هولندا

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة