Culture Magazine Monday  26/01/2009 G Issue 268
فضاءات
الأثنين 29 ,محرم 1430   العدد  268
هل نجحت إسرائيل في إشعال الفوضى بين العرب؟
سهام القحطاني

 

لا شك أنك لا تستطيع أن تفوّت جملة السيد عمرو موسى الأمين العام لجامعة الدول العربية (بأنّ الوضع العربي يمر بفوضى) دون تأمل وتأويل، وهي جملة ذكّرتنا بجملة الآنسة كوندو ليزا رايس عندما وصفت ما يحدث في العراق من كوارث وفرقة بأنها إشارة إلى (الفوضى الخلاّقة) التي تسبق تجديد التشكيل العضوي للمجتمع العراقي، ورغم نقيض الدلالتين والفرق في مقصد قائلهما، لكن هذا لا يمنعنا من التساؤل عن إمكانية التعامل مع فوضى الوضع العربي اليوم الذي قرره السيد عمرو موسى، وفق منطق (الفوضى الخلاّقة) وإعادة تشكيل بناء الوحدة العربية، ومجرّد التسليم بهذه الفكرة فكرة تحوّل (الفوضى) إلى (الفوضى الخلاّقة) يدفعنا إلى البحث عن أمرين: من وراء هذه الفوضى، ومن المستفيد منها؟

أما الفوضى التي استخدمها السيد عمرو موسى لتوصيف الراهن فمقصدها الدقيق غير معروف بالضبط، هل كان يقصد بالفوضى عدم التنسيق بين الأنظمة العربية حول معطى خاص ؟، أو يقصد بها عدم الوحدة على رأي خاص ؟. وقد يقول قائل إنّ المحدد للمعنى المناسبة، وحتى المناسبة ليست دليلاً قطعياً على تحديد معنى الفوضى هنا، لأنها تمثل معادلاً للفوضى، وسواء أكانت الفوضى توصيفاً أو تعريفاً، ففي الحالتين هي دلالة على أزمة تتعرّض لها اليوم الوحدة العربية، لم يستغرب البعض من حدوثها، بسبب التقسيم الأولي لدول المنطقة بين محور الاعتدال ومحور التطرف، والتقسيم وذبذبة المعايير يقودان إلى فوضى عادة، وما كان الأمر يحتاج لتفعيل تلك الفوضى سوى نموذج تطبيق يؤكد النظرية، وأحسب أنّ القضية الفلسطينية النموذج المثالي للتطبيق.

فالقضية الفلسطينية تنقسم في داخلها إلى قسمين (فتح) وتحسب على محور الاعتدال، و(حماس) وتحسب على محور التطرف، وأي أزمة ستتعرّض لها القضية وتخرجها من محليتها إلى قوميتها ستنقسم الأنظمة العربية نحو تلك الأزمة وفق التقسيم الرئيسي الداخلي للقضية، أي أنّ أنظمة محور الاعتدال ستنضم إلى فتح، مع ممارسة الأسلوب الإرشادي مع حماس، وأنظمة الدول المتطرفة ستنضم إلى حماس، مع ممارسة أسلوب التوبيخ والعمالة لفتح والدول التي تؤيد موقفها أو أفكارها، وسيحاول كل فريق إثبات صحة موقفه بمعية استغلال الوعي العربي، وبذلك تختلط وتتناقض المفاهيم، فمن يدّعي أنّ موقفه حق يرى أنّ موقف الآخر باطل، ومن يدّعي أنه منقذ غزة يرى أنّ الآخر متواطئ وعميل، ومن يدعي أنه الأسبق في فضل الإغاثة يرى أنّ الآخر جبان وأناني ... وهكذا نجد أنفسنا في خضم فوضى المفاهيم بجوار فوضى المواقف!.

كانت بداية تاريخ الوحدة العربية في مؤتمر القدس عام 1931 الذي أسس الإرهاصة الأولى لمفهوم وحدة عربية شاملة ترفض التجزئة، بعدما اكتمل التصور المبدأ للوعي القومي.

وفي عام 1936م قامت الجمعية العربية التي كان أبرز أعضائها عبد الرحمن عزام بوضع التعاريف الرئيسة لمفهوم الأمة العربية والقومية العربية، لتسهل فيما بعد ضبط ملامح مصطلح الوحدة العربية، كونها حاجة طبيعية لتفعيل مفهومي الأمة والقومية العربيتين لإيجاد نظام يحقق للعرب الاستقلال والحضارة والسلام. وفكرة الوحدة العربية تستمد وجودها من المشتركات الرئيسة اللغة والتاريخ والموقع الجغرافي، ونلاحظ أنّ الدين قد استثنى من مشتركات الوحدة العربية، وهو ما أدى فيما بعد إلى ظهور الحركات الدينية، وهو أمر طبعي فكل مقدمة تحمل أسباب ناتجها النوعي.

وكان ضبط المصطلح تمهيداً للتوحيد العربي وفق بيان واضح للخصائص والمميزات والحقوق والواجبات، وتتابعت بعد ذلك الحركات المساندة للوحدة العربية فجاءت حركة الإحياء العربي بقيادة ميشيل غفلق ثم الحركة الناصرية.

وبالتقادم والتدريج أصبح مفهوم الوحدة العربية يتجه نحو الرمزية ليستقر نهاية المطاف داخل القضية الفلسطينية، فالأنظمة العربية رغم خلفياتها السياسية قد تختلف على أي شيء لكن اتفاقها سواء السياسي أو الوجداني مؤكد نحو القضية الفلسطينية، وهذه الرمزية للقضية جعلتها دائما خارج تصفية الحسابات أو المزايدات حتى أثناء احتلال العراق الكويت الذي هزّ ثقة الوعي العربي في الوحدة العربية، ووقوف النظام الفلسطيني حينها في صف العراق، لم يدفع العرب هكذا موقف إلى إدخال القضية الفلسطينية دائرة تصفية الحسابات حتى لا يفقدوا رمز وحدتهم.

ثم جاء الاحتلال الأمريكي للعراق الذي زرع أول بذور الشك في قيمة الوحدة العربية، وهو يحمل خطة لإعادة توزيع الأدوار في المنطقة تمكنه من تشكيل جديد لخارطة الشرق الأوسط بدلاً من التشكيل القديم الذي هندسته بريطانيا، وهذا لن يتم إلاّ بثلاثة أمور هي تفعيل تضارب المصالح بين أنظمة دول المنطقة، والثاني دفع أنظمة دول المنطقة إلى التحارب من أجل قيادة الشارع العربي، وهو أمر إن تم ستظهر أنظمة عربية مغمورة هي التي ستتحكم في قيادة الوعي السياسي العربي، والأمر الثالث التحريض على الفوضى، ونستطيع أيضا أن نعتبر الفوضى نتيجة لتضارب المصالح والتحارب على قيادة الشارع العربي والوعي السياسي العربي بين الأنظمة العربية، والقضية الفلسطينية بلا شك تطبيق رئيسي لنظرية إعادة توزيع الأدوار في المنطقة والفوضى من خلال تجزئة رمز وحدة العرب.

ومرحلة الشك التي زرعتها أمريكا في قيمة الوحدة العربية، كان من الطبيعي أن تقود الوضع العربي فيما بعد إلى فوضى الوعي وفوضى الوضع، لذلك قلت إن البعض لم يستغرب أزمة الوحدة العربية اليوم التي تحيط بها الفوضى .

والشك هو عدم الثقة في معايير تقويم القيمة أو عدم جديتها أو عدم نفعيتها، وكان احتلال أمريكا للعراق هي التجربة التي أثبتت للوعي العربي فساد معايير قيمة الوحدة العربية، وكان تكرار التجربة بأي شكل من الأشكال وفي أي مكان وبأي اسم، - فما بالنا أن يكون تكرار التجربة عبر قضية لها قيمة وجدانية مطلقة في الوعي العربي - تأكيداً لذلك الإثبات يقود إلى تمرد على معيار القيمة والتمرد يقود إلى فوضى والفوضى تؤدي إلى الانتقام من ممثلات المعيار، وهو ما يعني أن مرحلة ما بعد الفوضى ستؤدي إلى إنتاج معايير جديدة لتقويم القيمة بما يترتب على ذلك من تشكيل مختلف لأبنية القيمة وبياناتها، لنصبح بين تاريخين لسيرة الوحدة العربية، الوحدة العربية قبل حرب غزة 2009 والوحدة العربية بعد حرب غزة 2009، ولاشك أن هناك مستفيداً من معايير وتشكلات ما بعد الفوضى.

وقد يرى البعض أنّ ذلك التحوّل خاص بالوعي العام وليس بالأنظمة، ولا أظن أنّ هذا الرأي صحيح لأنّ إعادة تشكيل الأنظمة عادة ما تراهن على الوعي العام وعي الشارع وعي الجماهير، طبعاً لا أقصد أنّ الوعي العربي العام يستطيع أن يتحكم في تشكيل الأنظمة، لكن أقصد أنّ الوعي العربي من السهولة تطويعه لاستغلاله في تشكيل جديد أو إعادة تشكيل الأنظمة.

وبمناسبة الحديث عن الفوضى فإنّ قارئ بروتوكولات حكماء صهيون سيلاحظ تكرار كلمة فوضى في أكثر من بروتوكول، كما سيلاحظ ارتباط الفوضى في تلك البروتوكولات بالليبرالية أو الحرية أو الثورة، فقد ذكر في الاجتماع الأول (وبسبب جهل الجماهير بالأسرار السياسية يكون قرارها أخرق، مما يؤدي إلى دخول بذور الفوضى في النظام الحكومي) -34-، وفي الاجتماع الثالث (فقد ألقينا العداوة بين القوى المختلفة بتنمية ميولهم الليبرالية نحو الاستقلال، وخلقنا نزعات مختلفة في هذا الاتجاه..، وفتحنا ميادين للاختلافات في دول مختلفة حيث تقوم الآن ثورات، وسوف تظهر قريباً فوضى وإفلاسات في كل ناحية)-44-، وفي الاجتماع السابع (وعلينا أن نبعث الفوضى والكراهية..، وفي هذه فائدة مزدوجة، الأولى هي أننا نجعل هذه البلاد تحت نفوذنا لأنها تدرك أننا نملك القوة على إثارة الفوضى وعلى إعادة النظام كما نشاء وفي أي مكان نريد، ..والثانية هي أننا بالدسائس نقيد الحكومات بالسياسة والاتفاقات الاقتصادية والسندات المالية) - 59، - وفي الاجتماع التاسع (ولكي لا نقضي على مؤسسات الكوييم قبل الأوان.. حولناها بفضل الليبرالية والفوضى وخرق القوانين إلى عدم الانتظام، وتحكمنا بقانون الانتخابات والصحافة وبالحرية الشخصية) 65- وفي الاجتماع الثامن عشر (حينما يأتي الوقت لكي ندعم الحماية البوليسية..، فإننا سنثير بواسطة خطباء خبيرين فوضى مصطنعة، فيجتمع الأتباع حولهم وبذلك نجد الحجج لتحري المنازل ولإيجاد قوانين جديدة رادعة ينفذها شرطة الكوييم) -105-*

وهي بلا شك ملاحظة جديرة أن توضع ضمن فرضيات أي استقراء للحدث الراهن؛ لأن اعتبار الصدفة هي المسئولة عن التطابق بين الحال والتصور المقصود أعتقد أنه يتعارض مع المنطق والحكمة، فاستقراء الحدث الراهن بمفرده مفصولاً عن روابطه القبليّة ومستبعَداً عن التصورات المحددة مسبقاً عادة ما يؤدي إلى نتائج خاطئة، أو هكذا أعتقد.

لا ألمحّ هنا إلى نظرية المؤامرة التي تستفزّ بعض المثقفين، باعتبار أنّ التفكير من هذا المنطلق سذاجة وقصور تفكيري؛ بل أؤكد أنّ (كل ناتج هو حاصل مقدمة)، وبهذا الاعتبار الاستقرائي فإنّ كل مقدمة تحمل الأسباب التي تؤدي إلى ناتج نوعي، أعتقد أنّ الجميع يتفق معي على هذه القاعدة الاستقرائية للأمور، و بلا شك فإنّ التجربة الإنسانية هي الممثل الوحيد لتلك القاعدة باعتبار أن تشكّلها يعتمد على خاصية التأثر والتأثير، وخاصية التأثر والتأثير عبارة عن تبادل أفكار أو انتقال أفكار من تجربة إلى تجربة إما على مستوى الفرد أو النظام أو المجتمع، لكن عملية التبادل أو والانتقال كمؤثر أو متأثر مشروطة بالتحويل أو التطوير أو التغيير.

وعلينا أن ننتبه إلى ثلاثة أمور في هذا الجانب، الأمر الأول أنّ مسألة التبادل بين الأفكار أو الانتقال ليست اختيارية دائماً، بل حينا تكون إجبارية باعتبار الاختيار الأحادي وهو ما يسميها ابن خلدون (تقليد المغلوب للغالب) لاعتقاده ب كمال الغالب الذي يوحد اختياره والذي يقتضي كمال ما يدعو إليه، والأمر الثاني أن الأفكار المؤثرة في التجربة الإنسانية تتمثل وفق احتياج كل مجتمع، ففكرة العلمانية لم تكن ستنجح في الغرب لولا هيمنة الكنيسة، وفكرة الليبرالية لم تكن ستنجح في الغرب لولا شيوع العلمانية، وفكرة الدستور الوضعي لم تكن ستنجح في الدولة العربية لولا سيطرة القومية العربية، والأمر الثالث أنّ انتشار وهيمنة فكرة أو مجموعة أفكار على التجربة الإنسانية العالمية يعني أنّ هناك من يقودها من خلال تنظيم حوادث أو انقلابات أو حروب تؤدي إلى فرضها على التجربة العالمية واعتبارها هي المنقذ والخلاص ليستفيد من نتائجها. قد يعتبر البعض أنّ هذا التحليل غير صحيح لكنه يتفق مع المنطق التأويلي العام ويتطابق مع شواهد الواقع.

***

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة«7333» ثم أرسلها إلى الكود 82244

جدة seham_h_a@hotmail.com * أنظر بروتوكولات حكماء صهيون، د. الدكتور إحسان حقي، الطبعة الثالثة، دار النفائس، لبنان.

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة