حركة الثقافة في العالم هي حركة لا تقتصر على مؤسسات التابو ولا يلزمها مقر ولا نظام الاتحادات والجمعيات. هي حركة مفتوحة في مجالي الإبداع والتلقي. هناك الزوايا الثقافية والأماسي الاستثنائية في البيوت والمنتديات وحتى في المقاهي. هناك أحيانا المقاهي التي يرتادها المثقفون، وهي مقاهي بدون اختيار مسبق واتفاق مسبق.
الزهاوي- الشاعر العراقي كان يجلس في مقهى خاصة يحبها في بغداد ويحب كوب الشاي فيها فيتخذ من كرسي معين وطاولة معينة مكانا. ولمكانته وظرافة شخصه صار الأدباء والشباب منهم يرتادون ذات المقهى حتى سميت المقهى تاريخيا باسمه.
وفي أمستردام مقهى جميلة فيها شرفة على النهر وتقدم قهوة برازيلية خاصة يؤمها المثقفون والكتاب وفي أنتوربن في بلجيكا مقهى لها طراز متميز يأمها المثقفون ومقاهي باريس التي ذكرتها الروايات الوجودية كثيرة وفي بيروت مقهى حدوة الحصان في شارع الحمراء ومقهى الحياة الحلوة على الروشة .. وفي كل العالم مقاهي وزوايا ومنتديات هي غير الندوات الثقافية والمحاضرات التي تقدمها الاتحادات والجمعيات الأدبية التي يؤسسها المثقفون لحماية حقوقهم الإنسانية الاقتصادية والثقافية.
عندما وصلت الكويت استضافني أصدقائي من الأدباء الكويتيين إسماعيل فهد إسماعيل ومحمد النبهان والتجمع الثقافي الذي ينظم كل ثلاثاء ندوة ثقافية أسموها ندوة الثلاثاء. عرضت فيها فيلم الحارس وتحدثت عن تجربة السينما العراقية وحركة الستينيات الثقافية السينمائية. ندوة في صالة من صالات أوتيل مخصصة للندوات. ومع أنها لا تمتلك مواصفات العروض السينمائية، ولكن المشرفين على ندوة الثلاثاء تمكنوا من عرض الفيلم، وفي العرض الكثير من المواصفات النظامية للعرض السينمائي. وأنا منذ زمن ومع غيابي عن المنطقة والكويت لكنني كنت أتابع نشاطات أصدقائي في الكويت وندوتهم ندوة الثلاثاء. رمت بي الذكريات إلى فترة الستينيات وعلاقة الثقافة المشتركة بيننا في البصرة وبين الأدباء والفنانين الكويتيين، صقر الرشود وعبد العزير السريع ومحبوب العبد الله والشاعر الفلسطيني خالد أبو خالد، ومن عندنا محمود البريكان ومحمود عبد الوهاب ومحمد سعيد الصكار ومحمد الخطيب وطالب غالي وكاتب هذه الكلمات نجتمع عندما يزورنا خالد أبو خالد الذي كان برنامجه الثقافي الأسبوعي في تلفزيون الكويت هو محطة نتاجنا الأدبي والفني .. يزورنا في البصرة ونرد لهم الزيارات فقدمت من خلال علاقتي بمسرح الخليج مسرحية «ضرر التبغ» ذات الشخصية الواحدة، مثلتها لتلفزيون الكويت وكنت أشعر وأنا أقضي أوقاتي بين صقر الرشود -رحمه الله- وعبد العزيز السريع ومحبوب العبد الله أطال الله في عمريهما أوقاتا ثقافية وتشعر أنك في عائلة واحدة .. هي عائلة الثقافة.
كنا نصدر صحيفة الخليج العربي في مدينة البصرة يقودها الصحفي العراقي المرموق سجاد الغازي. وكان النقد الموضوعي وتحليل الأعمال الشعرية ونشر أخبار مثقفي الكويت حالة عراقية مثل ما كانت صحف الكويت ونشر الثقافة العراقية حالة كويتية.
قضيت ثلاثة شهور في البصرة أنجزت خلالها تصوير فيلمي (المغني) وعدت للسفر عبر الكويت. كانت عندي خطوط أسهل لا تمر عبر مسافات الصحراء بين البصرة وصفوان وبين صفوان والكويت مع انتظار التأشيرة لساعتين. هناك خط سهل في الطيران المباشر مع توقف ترانزيت ثم المواصلة نحو هولندا ولكني أحب السفر عن طريق الكويت لأنني هناك أقضي يوما أو بعض يوم وربما يومين ألتقي خلالها أحبابي وأتذكر مع إسماعيل فهد إسماعيل (أبو فهد) أيام الدراسة في البصرة ونغرق في كومة من الضحك والابتسامات ويتذكر كيف عاندت الطالب اليهودي في عبور النهر على الدراجة فوق القنطرة المصنوعة من جذع النخيل، فنجح هو وأخرجوني من النهر مكسور الأنف والخاطر.
عندما عدت من البصرة نحو الكويت فاجأني «أبو فهد» بمقر جديد لندوة الثلاثاء هو غير صالة الأوتيل التي عرضت فيها الفيلم. مقر منح لهم من أحد محبي الثقافة. صالة خاصة لندوة الثلاثاء يمتلكونها للنشاط الثقافي وفيها إدارة وصالة واسعة تتسع للنخب من محبي الثقافة ومن المثقفين. جلسنا فيها وأبدينا الملاحظات التي تجعل من يوم الثلاثاء يوما متميزا في حياة المثقفين.
بارك الله في مسعى الازدهار.. لأن ازدهار الثقافة يضفي على الحياة بهجة ومتعة ذهنية وحسية ويرتقي بالإنسان من عالمه نحو عالم المبدع منتجاً أو متلقياً.
أكتب هذا حيث تمر على الشعوب في التاريخ فترات عصيبة، فمثل ما مرت على الحياة العراقية فترات صعبة وقاسية عانى فيها المثقف العراقي من ظروف في منتهى القسوة واللاإنسانية فإن المثقف الكويتي قد مرت به مثل هذه الظروف وتعذب وعانى كثيرا والجميع يعرف كيف ومتى.
هناك دائما من يضع الهشيم في النار التي تشتعل أو يحاول البعض إشعالها بين هذا الشعب وذاك، لكن تلك الإشكالات تحل في النهاية حيث لا مشكلة بدون حل وإن شاء الله لا توجد مشكلة وأن تكون هي مشكلة أخبار تتناقلها الصحف ويحاول البعض تقديمها على واجهة الجرائد وواجهة نشرات الأخبار فيما هي أخبار إن وجدت ينبغي أن تكون ملحقا عابرا لنشرات الأخبار.
هنا يأتي دور الثقافة والمثقفين في إشاعة البهجة بين الناس وإشاعة المحبة بين الناس وإشاعة السلام بين الناس. وندوة الثلاثاء ستكون منبرا لمثل هذا الحب وهذا السلام بين الشعبين العراقي والكويتي بعد أن رحل مشعلو الحروب إلى غير رجعية، وأنا شاهدت الكويت قبل أن أشاهد البصرة وأنا في طريقي إليها وشاهدت البصرة قبل أن أشاهد الكويت وأنا في طريقي إليها وفضلت أن أتخذ منها ليلة للمنام قبل عودتي لوطن الغربة.. ونحن -العراقيين والكويتيين- إخوة والثقافة قريبة جدا من بعضها وملامحها. وعندنا أغنية واحدة.. يا دان.
****
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«7591» ثم أرسلها إلى الكود 82244
سينمائي عراقي مقيم في هولندا
هولندا
sununu@ziggo.nl