Culture Magazine Monday  23/02/2009 G Issue 272
فضاءات
الأثنين 28 ,صفر 1430   العدد  272
الفارس والصيّاد
د. شهلا العجيلي

 

يُحكى أنّ فارساً وصيّاداً تباريا في القنص، فانطلقا في البرّيّة، حتّى صادفا غزالة، فتتبعاها من غير أن تدري بهما، محاولاً كلّ منهما قنصها بسهمه، وحين توقّفت الغزالة لبرهة شدّ كلٌّ منهما وتره، وإذ بها تقعد على وليدها لترضعه، الفارس تركها، والصيّاد قنصها.

وجد كل من الفارس والصيّاد أنّه المنتصر، ولم يقتنع أيّ منهما بوجهة نظر الآخر، فالفارس رأى أنّه تفوّق على الشرط العام للمباراة، إذ كان بمقدوره قنصها بسهولة في تلك الوضعيّة، لكنّ الشرط الأخلاقيّ لن يتحقّق حينئذ، فكيف يمنع أمّاً من إرضاع وليدها، ويقتلها أمام عيني الصغير الجائع! سيكون ذلك عاراً في اعتبارات المنظومة الأخلاقيّة لمؤسّسة الفروسيّة. وأمّا الصيّاد فقد حقّق من وجهة نظره شرط المباراة، وقنص الغزالة، من غير أن يفكّر في الظروف التي رافقت عمليّة الصيد. لقد سبق سهمه سهم الفارس، وحقّق الهدف العام، وها هي الغزالة بين يديه وقد اخترقها سهمه، في حالة اختلط فيها الدم بالحليب.

ينتمي كلٌّ من الفارس والصيّاد إلى منظومتين قيميّتين مختلفتين، لهما قواعدهما الخاصّة، لذلك لا يمكن أن يقنع أحدهما بانتصار الثاني، الفارس يعدّ الصيّاد نذلاً، والصيّاد يعدّ الفارس غبيّاً أو جباناً، ولن يصلا إلى تسوية قيميّة.

يقع الحلّ في هذه الحالة بيد المؤسّسة الثقافيّة - الاجتماعيّة المسيطرة، فهي التي ستحكم، ولكنّ المؤسسة تعاني فصاماً على مستوى المنظومة الثقافيّة، فهي تشيع في المتن ثقافة الفارس، وتتعامل في الهامش بثقافة الصيّاد.

تجمع الثقافات عموماً على أخلاق الفرسان، وتقارب منظومة الفروسيّة الجرمانيّة في ذلك، منظومة الفروسيّة العربيّة الراسخة في ثقافتنا، إذ تسري تقاليد الفروسيّة في دم كلّ من ينتسب إلى (فرانسيون بن هكتور) مؤسس الأمّة الفرنسيّة، وأوّل ملك عليها، كما تسري في دماء سلالات كلُّ الناجين من حرب طروادة، وذلك بعيداً عن موضوع التأثّر والتأثير بين الثقافتين العربيّة والأوربيّة، وبعيداً عن الاختلاف في التفاصيل.

تنطوي منظومة الفارس على تقاليد بديعة، منها الوفاء بالعهد، وحماية الضعيف، ومنها الكرم، الذي قد يعني العطاء، وقد يعني التسامح، أو العفو عن الذنوب، أو الشهامة إزاء العدوّ.

العشق رهن بثقافة الفارس، ولم نسمع يوماً عن حبّ الصيّاد، ذلك أنّ الغلظة والحبّ لا يجتمعان في قلب امرئ أبداً، فالعشق (ضرب من السحر، وجنون عبقريّ يصيب أهل الفطنة، وذوي القلوب الرقيقة)، كما أنّ (المحبّ تضيء نفسه شعلةُ الهوى، ويتألّق كيانه كلّه ويسمو بصفاته على الآخرين)، وإنّ (ممّا يميّز الطبائع الرقيقة قدرتها على أن تحبّ)، وهذا كلّه لا يتوافر في ثقافة الصيّاد.

لا يمكن للصيّاد أن يصير فارساً، لأنّ حياته مرهونة بالكسب، كما لا يمكن للفارس أن يتحوّل إلى صيّاد، لأنّه ذاق حلاوة العطاء، والتعالي.

وعلى الرغم من تغنّي الثقافات بأخلاق الفرسان، نجد الغالبيّة العظمى من البشر تتعامل وفاقاً لثقافة الصيّاد، لأنّ الأولى شاقّة، ومضنية، و(لولا المشقّة ساد الناس كلّهمُ)!

***

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة«7875» ثم أرسلها إلى الكود 82244

حلب

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة