Culture Magazine Monday  23/02/2009 G Issue 272
فضاءات
الأثنين 28 ,صفر 1430   العدد  272
شهادة سردية
غواية الرواية.. ورياح التغيير(2-2)
أميمة الخميس

 

عندما أقول شهادة سردية سيبدو العنوان غامضا وفضفاضا نوعا ما، وكأنني أغطس يدي في غيمة ومن ثم أستعيدها فارغة، كيف أبدأ ومن أين؟
فالسرد هو غابة... مغيبة وراء المحتمل والممكن.
ولا أظن أن أحد منا قد غادر منزله اليوم، ليستمع إلى مجموعة من الرصف الإنشائي عن تجربة السرد، أتوقع أن المستمع يطمح إلى تتبع خارطة جلية فاضحة الملامح، حتى لا يتربص به الإحساس بالعبث أو اللاجدوى.
والأمر هنا يضعني أمام مأزق يحاصرني من ناحيتين:
الأولى: أنني لا أستطيع أن أحاصر مفهوم السرد ضمن هوية أو صيغة.
سؤال الماهية سؤال كبير وصعب، فلا يوجد هناك تجربة كاملة، متكاملة التحقق كي أصفها، فقط هناك تجربة في طور الصيرورة والتبدل، تسعى إلى مخاتلة الأقمار والنجوم، التي تجلب الأيام الجديدة، أيام محملة بالتجارب والخبرات والحقائق التي تمنعنا من امتلاك هوية قاطعة ونهائية.
لطالما شعرت بأن الوصف هو قالب لا أنساني، يحجب عن البشر نعمة التطور والتبدل ومسايرة التواتر الكوني المتبدل حولنا، لذا أنا لا امتلك تعريفا نهائيا وقاطعا، كل الذي أستطيع أن أقوله أنني عبر السرد أحاول أن أقارب محيطي ضمن شروط إنسانية لا تخضع لأيدلوجية أو شروط مسبقة، مع حلم متصل بأن أصنع حديقة تقارع التصحر حولي وتتحداه.
ولربما السرد والكتابة هنا يندرجان ضمن علاقة الذات بالعالم، فهما كالكشاف الصغير الذي تفاجأت به يوما ما فتاة صغيرة في كفها وأبهجها أنه يشق أستار الظلمة بمهارة، ليس هذا فقط بل تستطيع من خلاله أن تقف على الموجودات ،بل تنقب عن المتواري والمستور في الردهات الخلفية، لربما الكتابة هي جزء من مشروع محاولة تأصيل الهوية الخاصة.
الناحية الثانية:
التي تجعلني أشعر بالحصار: كوني لا أستطيع أن أعزل بلازما الكتابة من دمي، كي أحولها إلى مادة قابلة للوصف والتحقق والاختبار، هي جزء من التجربة اليومية المتصلة في مقارعة الغامض والملغز والعصي.
لكن بما أنني منحت هذا المنبر، وشرفت بخطواتكم التي غادرت دعة الأرائك المنزلية، وغواية (الريموت كونترول) وقدمت. ..لتستمع لتكتشف. ..لتدهش، فالدهشة هي أعظم أفراح البشرية، كما يقول (نيكوس كازنتزاكي)
لذا سنحاول أن نمر بمحطات خاطفة في التجربة، ونحاول أن نعالج أقفالها، ونفك مرمزات خرائطها، وستكون الرحلة هي غايتنا وليس الوصول.
وسنبدأ بالرياض....
جنية الرمل. ..أنسية الزمان:
لابد للحكاء من مدينة يخاتلها ويعابثها و يستل من شجرها خيوط الحكاية.
لكن هل كل المدن تتشابه؟ هل لها جميعها شوارع ومساحات منتهكة وحدائق منسية وسيارة شرطة تدب بينها ببطء، هل تتشابه المدن. ... ام أنها جميعها لا تخلو من شبهة اقتراف القصص والحكايات المتفاوتة والمختلفة التي تعيد صياغة الواقع وفق قانونها الخاص. ..وتعيد تشكيل العلاقات ضمن شرطها الوجودي.
عندما يعيد الراوي استعادة المدينة في كتابته فأنه يأخذها إلى الحافة إلى الطرف القلق الذي يسبق المنحدر، عندها تنظر المدينة إلى الهاوية ويرتعد قلبها وترتد ناقمة غضبى على الذي اقلق تواترها وهدوءها وموقعها القديمة، المدينة المنجم. ....أو المدينة الكنز. ..أو مدينة متوارية خلف غموض كثبانها، لا تمنح مفاتيحها إلا للذين كابدوا صباباتها، واكتووا بدل صدها.
الرياض، المدينة التي تعجز عن أن تكون ودودة مع الغرباء، وتعجز أن تطور مهاراتها الاجتماعية مع الآخر، والرياض...هي النجدية الخجول التي لن تزيل برقعها إلا بحضرة من ألفت وأمنت. لكن عندما يغادر الجميع، ستشهق وتفز من صمتها. ...وتمطر حكايات وشهبا وسواقي وعسل عريق مختبئ في جرار العرب العاربة.
بواكير الكلام:
في بداياتي الأولى كنت مفتونة باللغة، لربما اختار نجم سعدي أن أكون مطوقة بهذا المناخ، وهذه الفضاءات، أن أولد وحولي على مرمى النظر أحرف ومفردات، ويتبرعم الوعي على الجدران التي ترصف فيها الكتب من الأرض حتى السقف، ونكهة الأمسيات التي كان يقضيها أبي وأمي تحت شجرة ياسمين في الحديقة المنزلية، وهما منهمكان في مراجعة كتاب، حيث والدي يقرأ وأمي تدون، أو أبي يقرا وأمي تراجع، وفي المستودعات الخلفية المنزل تعبق رائحة الورق بقوة حيث مؤلفات الوالد ،و أعداد جريدة الجزيرة (عندما كانت مجلة )، من جميع هذا تتشرب أصابعي القداسة والتقدير لفعل الكتابة.
الشعر وأبيات الشعر في المنزل، حيث كان المتنبي، يشارك أبي تربيتنا
فيهدر الوالد أطال الله في عمره بأبيات للمتنبي أحيانا معنفا..

إذا أنت أكرمت الكريم ملكته

وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا

وأحيانا عاتباً فيقول:

لكل امرئ من دهره ماتعودا

                                                  وعادة سيف الدولة الطعن في العدا

أو

لولا المشقة ساد الناس كلهم

الجود يفقر والإقدام قتال

أذكر أبي حين كان يلقي علينا أبيات قصيدة له نشرت على صفحات جريدة،أو قد يطلب من أحدنا قرأتها، أو عندما كان يقرأ علينا إحدى معاركه الصحفية سواء حول الجذور الفصحى للشعر الشعبي، أو تلك التي كان يجيشها ضد الشعر الحديث، أو أي من القضايا التي تبناها الوالد أمد الله في عمره - ودافع عنها دفاع الدارع البطل.
وقتها كانت الكلمات تتبدى لي وفق صورة عجيبة حيث كان لكل كلمة لون وحجم وملمس ورائحة، كنت أجد كل كلمة مكتنزة بحمولة وافرة، عندما نعابثها أو نخاتلها سرعان ما تنفجر بين أيدينا تلك المادة العجيبة التي تختزنها الكلمة فتتلون الورقة، وتعمق متقولبة بأبعاد ثلاثة، كنت اقطف الكلمات التي تسبح في فضاء البيت من حولي وأرصها متجاورة على الورق، وقتها لم أكن أعرف بأن هذا العبث سيفضي بي إلى ضفاف نهر الشعر.
ولكن اقتراف الشعر داخل الخدر لم يكن أمرا يسيرا، رحلة غامضة بلا ذاكرة نسوية أو ملامح طريق، الشعر كشف وبوح وافتضاح..... وانتهاكا لجلال الخلوة، الشعر هو الدماء الطازجة التي تستجلب قطيع السباع باتجاه اللحم المكشوف، والترانيم التي تتحدى العتمة وصمت الخباء القديم.
وبعد لربما عدد محدود من القصائد لا يتجاوز عدده بضع غيمات صيف تمر لاهثة عجلي، وجدت أنني استجير بالحكاية وبالسرد عن كل هذا.
يقول الشاعر الألماني هوسمان

غريب أنا وخائف

                                        في عالم لم أصنعه

في هذا الموقع تنكست أولى راياتي من الرقيب وفررت إلى أرض الحكاية فخلف دروبها شخوصها ومدنها وردهاتها سأتوارى وأختفي وستصبح لعبة الكلمات أكثر طمأنينة... وأحظى بخلوتي التي تجعلني أعيد معابثة الكلمات بشكل يتوافق مع شروط المدن السحرية الغائبة في حقيبة أسطورة....

وهناك في أرض الكلام

بدأت الحكاية فكانت مجموعات من القصص القصيرة اشعر الآن بأنها دوزنة وترنيمات خافتة لأدواتي السردية قبل أن أشرع في المعزوفة الكبرى... الرواية.

الرواية هي الصيغة الأكثر نضجا في مسيرة الإبداع والشكل الأكثر تعقيدا وتركيبا للفنون كلها، فهي تختزل الشعر جموحه وعوالمه المتوهجة، وتدرج المسرح حواره فلسفته وبعده الدرامي، أيضا الرواية تتوسل الفنون الحديثة من خلال السيناريو والتقطيع والاتكاء على الحوار للمعالجة الفنية.

الرواية تكتنز داخلها كل الأشكال الإبداعية، لذا تبدو الشكل الأكثر اقترابا من الحياة ومن خلالها يتم رصد الكثير من التحولات الاجتماعية والسياسية و والتاريخية للشعوب، الرواية باتت.... ديوان العصر الحديث.

***

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة«6287» ثم أرسلها إلى الكود 82244

الرياض

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة