Culture Magazine Thursday  19/03/2009 G Issue 275
سرد
الخميس 22 ,ربيع الاول 1430   العدد  275
قصة قصيرة
أسن الظهيرة
علي حمود المجنوني

 

الماء الصحيح، كما الحب الصحيح، لا بد أن يجد له مخرجاً، لا يكف عن استحضار هذا التقرير إلى ذهنه كلما انحشرت سيارته بين تعاريج الشارع الضيق الذي يضيق هو ذرعاً كلما سلكه، لا عزاء له سوى أنه الطريق الوحيد الذي يأخذه من بيته نحو عمله والعكس، لذلك فإنه يتسلّح بمقدار من الرضا حيال الأشياء المكتوبة عليه والتي لا يستطيع تغييرها، الشارع ضيق ومعبد بشكل رديء، جاء الأسفلت ووارى بعضاً من سوءاته، والحي لا يغتسل من أدرانه، تتناثر القمامة على أشداق حاوياته المكشوفة، إضافةً إلى ذلك، فإنه لا يخلو أبداً من المياه الآسنة، فمؤشرات الماء تنثر بولَها عليه دون استحياء كلما امتلأت بطون الخزانات في أعالي البيوت التي تحفه من كل جانب.

أدار محرك السيارة ذات ضحى، ولما لم يستجب المحرك كان عليه أن يمشي على قدميه حتى الشارع العام ليستقل سيارة أجرة من هناك. كانت الشمس تُجاري كتل الغيوم المائجة في كبد السماء عندما مشى في ذلك الشارع، كلما رفع رأسه رأى الأسلاك الكهربائية تتصالب بحدة وتقطع كعكة السماء على نحو مثلثات ومربعات تختلف في الأبعاد والأطوال.

كان يمشي عندما استطاع تمييز صوت ما من بين الخوار المنطلق من أعجاز المكيّفات الصدئة التي ترسل النُّطف لأرض الشارع، لم يكن غير صرير نافذة ألمنيوم تحركت فوق مسارها، من خلف النافذة نظفت فتاة حَلْقها فتسلق بسمعه ليلتقي الصوت المنحدر من أعلى، ارتفع على الفور بهامته ونظره، كانت تلف نصف وجهها وتشير ببياض يدها الذي يضاهي بياض الظهيرة حينها.

اختفت لثوان بينما هو واقف، ثم عادت تحمل بين أصابعها وريقةً مطويةً بارتجال، اتكأت بمرفقيها على حافة النافذة ورمت نظرةً تأكيديةً على محتوى الوريقة لتلوح بها وترسلها وابتسامةً في الفضاء ما بينهما، تهادت الوريقة كحمامة تائهة، في نزولها كانت تصطدم بالأسلاك وبزوايا المكيِّفات الهادرة ويتحوّل طريقها في كل مرة، وهو لايفتأ يتابع تهاديها بقلق.

أمامه مباشرة انفتح باب انتشرت بقع الصدأ على المستطيل السفلي منه، قذف الباب الحديدي بطفلين، بنتٍ وولد، أطالا التحديق في هيئته وسخرا منه ثم أطلقا لأقدامهما العنان، لما عاد بنظره رأى الوريقة وقد تعلّقت بعقدةٍ مربوطة على سلك كهربائي شدّ كالوتد من عمود عملاق، فتعلّق قلبه لبرهة، ود لو أن السكون يتحرّك فيزحزحها.

في غضون ذلك أقبلت سيارة تخترق الحر بنحرها وتفري وجه الأسفلت المتقرّح. تراجع بخطاه عساه ينجو من أسنٍ بحيرةٍ سوداء تتمطى في الشارع، أوقف تراجعه الجدار الخشن من خلفه واتكأ بيديه عليه، حيث الشارع يضيق عند هذه النقطة ويلتوي كعنق، فلا يكفي لمرور أكثر من سيارة، خضّت السيارة البحيرة فلحقته قطرات طائشات لوّثت أجزاء من ثوبه وسرواله الذي انكشف عنه طرف الثوب.

تحرك السكون من جديد في الأعلى، فهوت الوريقة بشكل سريع تقدّم خطوات، فغر فاه، حاول أن يصيح بلا جدوى إذ لم تكن تهوي باتجاهه، ولما اهتزت صورة الشمس في صفحة الماء كانت الوريقة تذوب رويداً رويداً في البحيرة، عندها أطلق بصره نحو شمس الظهيرة المرتكزة في السماء، وجد أن السحب قد غادرت المكان، وأن ألسنة الشمس تغمض الأعين، أغمض عينيه، ومضى في طريقه.


 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة