Culture Magazine Thursday  19/03/2009 G Issue 275
فضاءات
الخميس 22 ,ربيع الاول 1430   العدد  275
لماذا نكرههم؟
لمياء باعشن

 

في أعقاب أحداث 11 سبتمبر خيّم على صدر العالم العربي والإسلامي سؤال كبير، بل حط بثقله على أكتاف شعوب عالمنا وحمّلهم ذنباً لا يغتفر. تساءل الأمريكان في كل برنامج إخباري وعلى صفحات كل جريدة وخلال كل تحليل سياسي: (لماذا يكرهوننا؟).

لقد بدت علامات كرهنا لهم جلية في تدمير البرجين خاصة وفي سلسلة من الأحداث العنيفة التي استهدفت المصالح الأمريكية ومراكز قواتها حول العالم، لكن غابت عن أذهانهم الأسباب! كنت أصغي إلى جلسات طويلة يعقدها أساتذة علوم سياسية ومشاهير السياسة الأمريكية في الإعلام الغربي يناقشون خلالها السؤال واحتمالات الإجابة، وكنت أبحث معهم - ولو عن غير اقتناع - عن الأسباب التي يمكن أن تدفعني أنا شخصياً لكره الأمريكان.

ثم زارنا في جدة الكاتب الأمريكي المعروف توماس فريدمان، وعندما اجتمع بنخبة من المثقفين السعوديين بدأ حديثه معنا قائلاً إنه في رحلة لاكتشاف الجواب عن السؤال المحيّر إياه، ثم نظر إلينا محتاراً وقال: (لماذا تكرهوننا؟) وبهتنا جميعاً وأسقط في أيدينا وكأننا قد ضبطنا متلبسين بجرم مشهود. ثم رحنا نرد عليه بنفي التهمة من أًصلها: (نحن لا نكره أمريكا، نحن نحبكم...). لم يقنعني ذلك النفي؛ لأنه ببساطة لم يكن رداً مناسباً على السؤال المطروح، لم يكن السؤال: هل تكرهوننا؟ فالكراهية كانت قضية محسومة، والبحث كان عن السبب فقط. كما أن النفي لم يقنع فريدمان الذي عاد إلى بلده ونشر مقاله وكأنه لم يسمعنا، وكتب فيه مؤكداً كرهنا لهم لغير سبب معروف. وأعدت السؤال على نفسي مرات ومرات، لكنني لم أجد بداخلي جواباً، وإن كنت أصغي في داخلي لسؤال آخر على نفس الدرجة من التحيير: (لماذا يحبوننا؟).

لا بد أن ما نبه الأمريكان لكره العرب لهم هو قلبهم المفعم بمحبتنا؛ لذلك يشعرنا السؤال بالذنب؛ فنحن نستقبل العاطفة المشبوبة الموجهة نحونا ونتمرغ في نعيمها، لكننا نعجز عن رد المحبة المتدفقة نحونا، ثم نستدير لنصب كراهيتنا عليهم. يا لنا من ناكرين للجميل، نعض اليد التي امتدت إلينا خاطبة مودتنا! حقاً سنستحق ما سيجري لنا. كل المصائب والمصاعب التي تلت 11 سبتمبر جلبناها على أنفسنا، فهي عقاب لنا على كرهنا لهم بدون سبب واضح.

لكن الرئيس الأمريكي السابق بوش الابن قطع عليَّ تعمقي البحثي وخرج علينا بأسباب كراهيتنا لهم. قال للعالم عنا إننا إنما نكره الأمريكان لأنهم أحرار ولأنهم ينعمون بالديموقراطية ولأنهم أهل علم وحضارة وتقدم، ثم استمد مشروعية غزوه للعراق من واقع هذه الحرب الخفية التي تستهدف حريتهم ومدنيتهم وديموقراطيتهم. كان تأييد الأمريكان لغزو حكومتهم للعراق ناتجاً عن خوف شديد على تلك المفاهيم الأثيرة لديهم؛ فخطاب بوش كان واضحاً: إن لم نغزوهم فسيغزوننا ليحطموا بكرههم لنا كل ما نعتز به.

هل نكره فعلاً هذه الأمريكا الحرة المتقدمة والديموقراطية؟ لم تقنعني الأسباب؛ فعدت إلى التفكير مرة أخرى: لماذا نكرههم؟ وقادني التفكير هذه المرة إلى قرار قاطع: يجب أن أكره أمريكا لأعرف لماذا أكرهها!! من السخيف أن تظهر أسباب الكره والمحبة مهيمنة على مشاعري. كنت في السابق وأنا محبة لأمريكا كلما حاولت أن أجد سبباً لكرهها لم أجد، وذلك منطقي جداً، فعين المحب عن كل عيب كليلة، وثقافتنا الشعبية قد علمتنا أن من (نحبه نبلع له الزلط، ومن نكرهه نجلس له على الغلط). أليس هذا ما تفعله أمريكا مع إسرائيل؟ لدى أمريكا ملايين الأسباب لتكره إسرائيل، وقد كتب الكثير من الأمريكان، وعلى رأسهم بول فندلي، بإسهاب عن المآزق التي غرزتها الصهيونية في قلب أمريكا، لكن (ضرب الحبيب زي أكل الزبيب)، وأمريكا محبة وعيونها - مثل تمثال عدالتها - معصوبة بوشاح الغرام وكفة ميزانها مائلة كل الميل.

ذلك هو عشق التماثيل التي لا تملك من أمرها شيئاً، أما أنا فقد كان لابد لي من الاختيار: إما أن أظل محبة وأفقد الإجابة عن السؤال الثقيل إلى الأبد، وإما أن أنزل الكره منازل المحبة وأطالع الحقيقة في عينها. كان لا بد لي من نقلة عاطفية، لا بد من إخراج نفسي من حالة الحب لأرى الأخطاء الجسيمة على حقيقتها، لا بد أن أغلق عيني عن أوجه الاستحسان المطلق وأترك الفزع يهزني من القبح الذي ظهر لي على وجه أمريكا الحرة المتقدمة.

أين كان كل هذا البغض مخبوءاً؟ كيف كنت أحمله في قلبي لمن كنت أحب؟ ويكأن الحب والكره حالات عقلية لا عاطفية، ويكفي قرار صغير يتخذه المرء عن وعي وقصدية لتتحول الأمور إلى نقيضها في ثانية!! عرفت عندما ما عدت أحب أمريكا أسباباً عديدة تدفعني دفعاً لكرهها، وأود اليوم لو عاد توماس فريدمان لزيارتنا وطرح سؤاله علينا: (لماذا تكرهوننا؟). يومها باغتنا بالسؤال وكنا في حالة حب، أما اليوم فلو أنه أراد سبباً فسوف نعطيه أسباباً أقلها أن الكره ناشئ عن كره، وأن اليد التي امتدت لنا قديماً لم تخطب ودنا حقاً، بل خطفت خيراتنا، وأن صداقتنا وحبنا على مدى سنوات طويلة لا رصيد له عندهم، فالواحد منا لا يساوي عندهم سوى سعر برميل زيت، وأننا في لحظة يمكن أن نتحول إلى عدو يجب محاربته والقضاء عليه. أليس هذا هو منطق الكارهين وركام الزلط الذي لا يُبلع؟

أنا ما عدت أحب أمريكا لصلافتها وعجرفتها وتعاليها، أكرهها لنفاقها وذبذبتها وكذبها، أكرهها لسعيها وراء مصالحها بجلافة دون حسابات لمن تدوس عليه في الطريق، أكرهها لأنها علمتني أشياء كثيرة صدقتها وآمنت بها، ثم اكتشفت أنها مجموعة من الأكاذيب التي باعتها علي ثم استنكفت عن تطبيقها. على مدى سنوات تعلمت في أمريكا أن الحرية مفهوم مطلق يشمل كل الناس على الأرض، وأن إطلاق الحكم الشمولي على الآخرين خطأ علمي مريع، وأن الاختلافات بين الناس هي سر الثراء الثقافي على الأرض، وأن الصداقة مواقف تتراكم على مدى السنين لتصبح رابطاً أقوى من الرباط العائلي، وأن القوة سلاح ضعفاء العقول، وأن الانفتاح المعرفي هو سبيل العلم الأوحد. وأشياء أخرى كثيرة وجميلة استقيتها من الأمريكان وسّعت آفاقي وأثرت فكري وزادتني إعجاباً بقيم الحضارة الغربية.

ثم تفجر كل شيء مع قنابل 11 سبتمبر، ظهرت أمريكا بوجه آخر وشطرت العالم إلى نصفين: محورت نفسها في الخير ورمت بغيرها في محور الشر، ثم وضعت بلاد الأرض على حافة الانفصال: إما معها وإما ضدها. بعدها توالت التناقضات، فإذا بالحرية أيضاً تقبل القسمة على اثنين: حرية الأمريكان المقدسة، وحرية اللأمريكان المُستحلّة، وإذا بالعالم العربي والإسلامي بأكمله يتصف بالإرهابية؛ لأن تسعة عشر شخصاً من بين ملايينه اتهم بالإرهاب، وإذا بالتفاضل الثقافي بين شعوب الأرض التي تقف أمريكا على قمتها كالأفضل والأعقل والأرقى وينحدر العرب والمسلمون إلى أسفلها كالأسوأ والأكثر تخلفاً وانحطاطاً، وإذا بالصداقة تنقلب إلى عداء بين من كانوا إخواناً، وإذا القوة تنفلت من سلطة العقل فتدمر بلا رحمة ولا حكمة، وإذا بالإعلام الأمريكي ينغلق على نفسه ويمد شعبه بمعلومات جاهزة ومنقوصة ويزرع فيه الرعب بكل الألوان: اليوم أحمر فيهلع الشعب الأمريكي، وغداً أخضر فيهدأ الشارع الأمريكي ويلتقط أنفاسه، ثم يضوي الأصفر فيتأهب الأمريكان لصد الهجوم العربي الكاره!

هكذا تهاوى الحلم الأمريكي في داخلي كما تهاوى البرج تلو البرج، هكذا خاب أملي في مُثل عليا صدقتها ثم اكتشفت أنها مُثل التمثيل المزيف الذي حوّل أمريكا بداخلي إلى كذبة كبيرة، بالونة فارغة، مسرحية سخيفة. أنا لم أخرج أمريكا من قلبي، هي ما زالت هناك، تتخابط من حولها أمواج الكراهية. قد يلومني توماس فريدمان وغيره من الأمريكان إذ صرحت أخيراً بكرهي لهم وبأسبابه، لكن المرارة الأفظع أن كرهي لهم لا ضرر من ورائه: ماذا لو كرهتهم من الآن إلى يوم الدين أنا وملايين غيري؟

حين دار السؤال في أعقاب 11 سبتمبر ظننا بحسن نية أن أمريكا كانت تبحث عن سبب كرهنا لها حتى تتلمس مخارج لإزالة الكره وإحلال المحبة في قلوبنا، ظنناها تسيء إلينا بجهل منها وأنها في خط إصلاحها لمسيرتها جاءت تستجدي جواباً يعينها. الحقيقة أن أمريكا كانت تعطينا نحن سبباً للقادم، كانت تغذينا بالرد وتثبت علينا تهمة كراهيتها؛ حتى نستاهل ما سيجري علينا. حل علينا السؤال الثقيل منقباً في حقولنا الطيبة عن عذر يسوغ الهجوم القادم؛ فنحن إن كرهنا حريتها فلأننا اتخذنا من الظلم والقمع أسلوباً لحياتنا، وإن كرهنا تقدمها فلأننا متخلفون همجيون، وإن كرهنا ديموقراطيتها فلأننا دكتاتوريون بطبعنا لا ندرك معنى الأخروية. اجتمعت كل هذه التهم لتحولنا جميعاً إلى إرهابيين يستلزم إصلاحنا وتأديبنا وإثارة الفوضى بيننا وإعادة رسم خريطتنا.

حينما قررت أمريكا أننا جميعاً؛ عرباً ومسلمين، لها كارهون، توصلت إلى ذلك القرار بناءً على حجم العنف الذي طالها على يد أفراد منا يقلون عن العشرين. كانت المعادلة في نظرها هكذا: بما أنه قد طالني من بعضكم أذى؛ فذاك برهان كراهيتكم جميعاً لشعبي كله. وقياساً على ذلك، إن كان الأذى هو مؤشر الكراهية لدى أمريكا، فالسؤال الأكثر إيلاماً والذي سيبقى مفتوحاً على أسوأ التوقعات، ذلك السؤال الثقيل جداً الذي يزن أطناناً من القنابل الذكية والغبية هو: ما مدى كراهية أمريكا لنا في ضوء مقدار الأذى الذي ألحقته بنا منذ واقعة الحادي عشر من سبتمبر؟

***

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة«7712» ثم أرسلها إلى الكود 82244

جدة lamiabaeshen@gmail.com

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة