Culture Magazine Thursday  19/03/2009 G Issue 275
فضاءات
الخميس 22 ,ربيع الاول 1430   العدد  275
شموخ الفلسفة وتهافت الفلاسفة(4)
دراسة حالة - أرسطو
د. راشد المبارك

 

لم يكن الفلاسفة الطبيعيون قبل سقراط يدركون وجوداً آخر غير الوجود الحسي ل(الإنسان) ولعل سقراط وأفلاطون أول من أشاروا إلى ذلك، وإن لم يحدد أحد منهم ماهية هذا الوجود، على أن النفس PSUCHE لا تعني كلمة (نفس) التي هي باللغة الإنكليزية (SOUL) في الوقت الحاضر، وإنما تعني الشيء الذي تقوم به حياة الكائن الحي وليست نفس الإنسان فقط، لذلك كان لديه للنبات والحيوان والإنسان نفس بمعنى أنهم يشتركون في وظائف الحياة من الحركة والتغذية والتنفس والتكاثر، ومن هنا جاءت التسمية التي أطلقها أرسطو على الإنسان وعرَّفه بها، وهو أنه (حيوان ناطق) فمهر الإنسان بهذا الختم قروناً عديدة، بل إنها لا تزال تتردد في بعض الأوساط حتى وقتنا الحاضر، على أن أرسطو أدرك أن الإنسان يختلف اختلافاً بيناً عن الأحياء الأخرى في عدة صفات أهمها العقل والتفكير والإدراك بصفة عامة، لذلك قال عن شيء أسماه (الصورة) وهي في تعريفه كمال أول للجسم و(الصورة) تختلف لديه عن (الصورة) عند أفلاطون، إذ إن الأخير يراها خالدة ومفارقة على أن أرسطو يرى أن (الصورة) و(المادة) وجهان لشيء واحد، وقوله إنها كمال أول يشير به أنها لا تعمل في كل الأوقات كحالة النوم مثلاً، والأنفس عنده ثلاث نفس نباتية ونفس حيوانية وثالثة عاقلة، ولعل مرد ذلك أنه لم يدرك إدراكاً كافياً لطبيعة النفس، إذ لم تكن لديه معرفة كافية عن (المادة) من ناحية طبيعتها الخاملة وهي عجزها عن تغيير حالتها من حيث الحركة والسكون - قانون العطالة - فقال إن النفس (صورة) الجسم وكمال أول له، ومع أنه يراها غير مادية فهو يراها غير مفارقة ولا خالدة، بل إنها تتلاشى بتلاشي الجسد على خلاف ما ذهب إليه أفلاطون.

ركائز ما وراء الطبيعة

1- العلة الأولى هي التفسير النهائي لكل الأشياء.

2- (الكون) و(الزمان) و(الحركة) و(المادة) أشياء أزلية وباقية.

3- الله هو الخير والكمال المطلق.

4- الله لا يحرك الكون حركة مادية مباشرة، وحركة الكون بسبب إلهام الله له الرغبة في الحركة.

5- نشاط الله هو أن يعقل ذاته أي أن يفكر في ذاته.

المناقشة

ما تقدم من آراء ل أرسطو تستدعي العقل، بل وتوجب عليه وقفة تأمل ومحاسبة لذاته والتأمل في ذاته والتساؤل هل العقل طائر يُحلِّقُ أحياناً إلى أعلى الذرا ثم تخونه جناحاه فينزل إلى أدنى السفوح؟.... كيف يوفِّقُ العقل بين قدرته على اكتشاف أدق أسرار المادة وكثير من سنن الكون المعقدة واستطاعته أن يقتحم عالم التكوين في الأحياء والمورثات ومحاولته في هذا الطريق تغيير أو تعديل صفات الكائن الحي عن طريق التحكم في المورثات، بينما نراه يتطامن أو يضعف إلى درجة قبول وتبني بل والدفاع عن أكثر الأشياء احتواء على الخرافة وما يتناقض مع مسلمات العقل وشروطه، أليست كل المذاهب والمعتقدات والمسلمات والأفكار بما فيها من خطأ أو صواب وما تنطوي عليه من حقيقة أو خرافة يدافع عنها أصحابها أي المتبنين لها دفاعاً عقلياً يستنجدون لإثبات صحتها ويستدلون على سلامتها ويدافعون عما بها من هدى أو ضلال بالعقل نفسه ومستعينين به، هل العقل شاهد زور؟... كيف غفل البشر عن الوقوف عند هذه الظاهرة لتأملها ودراستها ومحاولة معرفة جذورها ومنابعها، لماذا لم تُقلقْ هذه الظاهرة علماء النفس والاجتماع، بل كل الباحثين في المعارف الإنسانية، هل العقل ذاته يحتال وتنجح حيلته في صرف من يريد مسائلته ومحاسبته، هل يمكن أن يُجرَّدَ من العقل هيئة محاسبة للعقل نفسه؟...

الفلاسفة هم أكثر الناس- ولو من باب الوجوب - قرباً إلى توجيه العقل والتزاماً بشروطه وتحقيقاً لما يتطلبه، وعلى الرغم من ذلك نجدهم يشتركون مع سواهم من عامة الناس في عدم حصانتهم أو توقيهم الوقوع فيما لا يتفق مع شروط العقل ومسلماته، إنها ليست حالة فريدة انفرد بها واحد منهم ولكنها تكاد تكون العامل الجامع المشترك بينهم، هذه الحالة هي ظاهرة التقرير والوثوق بما يصلون إليه من آراء أو تصورات.

سبقت الإشارة إلى هذه الظاهرة وهي ظاهرة الوثوق بما يصلون إليه أي ما يتصورونه والتقرير لما يتصورونه أو يصلون إليه، في حالة أرسطو يبدو الأمر أكثر استعصاءً على الفهم والتحليل بسبب ما لأرسطو من مكانة متميزة ومتفردة بين أقرانه لم يُسبق إليها ولعله لم ينافسه بعده أحدٌ فيها، ومع ذلك فقد وقع في نفس الخطأ الذي وقع فيه من قبله ولم يسلم منه من جاء بعده، على أن ذلك الخطأ يمكن أن يكون مما يُقبلُ أو يعتذر عنه أو يُعذر له الوقوع فيه من باب أن الفلاسفة كغيرهم لم يخرجوا عن كونهم بشراً أو يرتفعوا عن هذه الصفة أو الكينونة لو أنهم عرضوا ما يظنونه أو يتصورونه على أنه احتمال من الاحتمالات أو ممكن من الممكنات، إلا أن الخطأ الذي يصعب أن يُعقل أو يُقبل هو أن يقدموا ما يصلون إليه من تصور على أنه الصواب الذي لا ضلال معه والصحيح الذي لا خطأ فيه، وفي الاستعراض الموجز والمناقشة التي سنوردها فيما يلي بيان لما نعتقد أنه أخطاء وقع فيها عرضها على أنها الصواب الذي لا خطأ معه.

الأول: رأيه في الزمان: قال بأزلية (الزمان) وسرمديته أي أنه لا بداية له ولا نهاية، وحجته في ذلك أنه لا وجود في (لا زمان)، ولو قلنا بحدوثه لكان هو أقدم من ذلك الحدوث إذ لا (كون) بلا (زمان)، وكما أنه بلا بداية فهو لا انتهاء له، إذ لن يكون هناك وقت ولا (زمان) فالزمان ليس سوى مرور الوقت، ولعلَّ قوله في (الزمان) هو حجر الزاوية التي بنى عليها حججه لإثبات الأزلية والسرمدية ل(الكون) و(الحركة) و(المكان) ومن ثم حجته لإثبات وجود وأزلية (واجب الوجود)، ولعل تصور (الزمان) من حيث طبيعته وماهيته لا يخلو من صعوبة، ذلك أن (الزمان) يحمل نقيضين، فمن ناحية نجد الإدراك والحس يقضيان أنه شيء متصل، ومن ناحية أخرى فهو شيء يمكن قياس أجزائه أي يمكن عدُّه، والعدد لا يكون إلا لوحدات متفاصلة، وقد حاول أرسطو أن يخرج من هذا الإشكال عن طريق نفيه لوجود شيء (لا نهائي) إلا أنه اصطدم بأشياء تدل على (اللا نهاية) ومنها سلسلة الأعداد الطبيعية غير المتناهية فقال إن المستقيم - مثلاً - لا يتألف من نقط لا نهائية عملياً بحيث لا يمكن تقسيمه إلا بما لا نهاية له من القسمة ولكنه متصل، وتقسيمه إلى ما لا نهاية يجوز من الناحية النظرية فقط ولا وجود لذلك من ناحية الفعل والواقع، أي أن المستقيم يحتوي على عدد لا نهائي من النقط ب(القوة) ولكنه لا يمكن تحقق ذلك ب(الفعل)، ورأى أنه بذلك خرج من إشكال اتصال الزمن وعَدِّ أجزائه.

و يمكن الرد عليه في هذا الجانب من ناحيتين:

الأولى: أن مدرك (الزمان) لا يَنفكُّ عن مدركي (ما قبل) و(ما بعد) وهذان المدركان يتضمنان الإشارة إلى وجود وموجود، إذ لا معنى للحديث عن (ما قبل) أو(ما بعد) لو كانا يحيلان إلى (لا وجود) و(لا موجود)، أي أنه لا بد أن يكون هناك وجود ما سابق للزمن، أي وجود لموجود قبل الزمن وإلا فلا معنى ل- (ما قبل) و(ما بعد)، فنحن نقول مثلاً (ما قبل الطوفان) و(ما بعد الطوفان) أو (ما قبل الأهرامات) و(ما بعد الأهرامات) أو (ما قبل الهجرة) و(ما بعد الهجرة) وكل من ذلك يدل على وجود وموجود وجملة (ما قبل) و(ما بعد) لا تعدوان كونهما إشارة ل (وجود) و(موجود)، ومن هنا يتبين أن القول بأزلية الزمان إن لم يكن داحضاً فإنه لا يجوز بحال من الأحوال القطع بالتسليم به

الثانية: عرَّف أرسطو (الزمان) بأنه (مقدار الحركة)، وذلك يعني أن الزمان مسند (محمول) والمسند لا يتقدم على ما أسند إليه إذ أن المحمول لا يسبق- فيما يعنيه- حامله، وذلك يجعل قوله بأزلية (الزمان) لا يمكن القطع به على أحسن تقدير، وإذا جاز القول أن كل الأدلة التي ساقها لا ترقى إلى مستوى البرهان على أزلية الزمان فإن أزلية (الحركة) و(المكان) التي من المحتمل أن أقامها على أزلية الزمان تصبح ساقطة أيضا لسقوط ما بنيت عليه، وإذا افترضنا أنه لم يستدل على أزلية هذين الموجودين بأزلية الزمان فإن ما أورده وظنه برهاناً على أزليتهما لا يتحتم التسليم به للاعتبارات التالية:

في الحركة: ما تقدم عن (الزمان) يمكن أن يقال عن (الحركة)، ذلك أن (الحركة) حالة تلحق ب(متحرِّك) أي أنها (محمول) وليست (موضوعاً) في الحالة المطروحة فقولنا: (الأفلاك متحركة) و(الكواكب متحركة) و(الأرض متحركة) نرى أن الحركة (محمول) لا (موضوع) أي صفة لموصوف و(المحمول) لاحق ل (حامله) ومتعلق به لا سابق عليه، وأما اعتقاده أن (الحركة) لا تكون في الفراغ فقد انحسر أي ظل لحقيقة ذلك بما أجراه جاليلي في مختبره في دراسته للحركة وقياسه لها، كما أن وهمَ غائية (الحركة) - أي أنها ذات غاية - قد توارى أي ظل للحقيقة فيه بعمل جاليلي نفسه وبما صاغه نيوتن قانوناً وهو القانون الأول من قوانينه الثلاثة في الحركة وهو المعروف ب(قانون العطالة).

في المكان: تصوره للمكان لا يقل خطئاً عن ما قاله عن الزمان و(الحركة)، فقد تصوره وجوداً مستقلاً استقلالاً تاماً عن كل الأشياء، ودلَّلَ على وجوده بأدلة تبدو مقنعة في ظاهرها، منها حلول الأجسام فيه ومنها عدم إمكان تصور حركة جسم في غير مكان، على أن هذا التصور - وهو ما ساقه برهاناً - قد نسخت آياته بما أسفرت عنه النظرية النسبية التي أبانت أن (المكان) ليس شيئاً سوى نسق ترتيب (المادة) فيه، ولو اختفت (المادة) لما كان هناك وجود لمكان، وأما رده على برمنيدس في قوله: إذا كان المكان حاوياً فما الذي يحتوي المكان؟ أي رده على هذا الاستشكال بأن ليس من الضروري تصور أن يكون للحاوي شيء يحتويه فهو أمر لا ينبغي أن يؤخذ على محمل الجد، إذ ليس هناك ما يمنع العقل من إثارة هذا الاستشكال، واستشكال برمنيدس قائم قبل أن تدل عليه النظرية النسبية.

....................................................... يتبع

الرياض

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة