Culture Magazine Monday  09/02/2009 G Issue 270
سرد
الأثنين 14 ,صفر 1430   العدد  270
قصص قصيرة
فهد المصبح

 

-1-

مداهمة

حين تُداهمه حالة الكتابة، يتحول بيته إلى سجن، تُخرس فيه الكلمات، وحده القلم يجوس الوجوه والجدران، يقرأ عليها صمت القبور، فتغدو الورقة أنثى مهزومة، ينثر عليها سطوراً لا تخلو من ارتعاشات الهيبة، في لحظة تجلٍ تحيله كائنا بدائياً، يضحك.. يبكي.. يزعق، وأحياناً يحادث نفسه بكلام مبهم، فتتلبس البيت موجة رعب، يغلقون الأبواب، ويوصدون النوافذ، حبساً لهذاينه الذي انطلق من قمقم الكتابة، وهو يحدّق في كل شيء، يريد أن يمحو النور، ليظل مع قلمه، وفضلة عقل لم تهرب من صندوقه رأسه العظمي، منهمكاً في عوالمه وعينه على الورقة، تحاول الفرار من سلطته، يلحق بها، ويُشعل فيها النار، ثم يغفو على استنشاقها، ويده قابضة بقوة الجنون على القلم حتى يحطمه، فتعود الحياة إلى البيت.

-2-

ينتظر

عيونه متقدة كقط يعرف دروب المدينة، جلس على رصيف قديم يفتعل كل الأساليب المتاحة لتواجده هنا، ينظر إلى ساعته المتوقفة منذ زمن، جيبه خالٍ من كل شيء، كله أمل أن يمر به ذلك الصديق الذي لم يره منذ مدة؛ ليطلعه على أخبار الغربة، تتراقص الأماني أمامه؛ وهو ممسك بمسبحة أنيقة وجدها بعد صلاة الجمعة وهو في طريقه إلى المنزل، كانت تحمل رائحة غريبة، قرر أن يعيدها إلى مكانها ويرتاح من عناء التفكير، مرّ به فلاح على كتفه منجل كبير، أحب أن يتفحصه، لكنه غاب في زحمة التفكير، توقفت بالقرب منه سيارة، نزل منها اثنان، سألوه عن شارع النور، ضحك فهو لم يسمع به من قبل، أركبوه معهم عنوة، وقادوه إلى الشارع؛ ثم قذفوا به هناك.

-3-

سأغني معه

سأحكي حكاية رجل عظيم، عشق الأرض بفطرته، أرضه مباركة، تربته مخصبة، مياهه وفيرة، غير عابئ بأي شيء يصرفه عن حب الحياة، يغني في غدوه لبستانه وحين يعود مساء لأهله، قناعته إذا تنكر للأرض لن يرسل نوراً ولا إلهاماً ولا مطراً بل سيرسل الخراب، لم يصدقه أحد.. حينها تركوه يغني لقناعته.

ذات يوم وهو عائد يغني، رأى من بعيد ملامح بلدته قد تغيرت، البيوت متهدمة. هبّ للنجدة، الأرض تناديه: (استمر في الغناء، لا تدعها تبكي) اقترب أكثر فأكثر.. في الأنقاض عين شامخة نحو السماء، ونصف جناح ينفض عنه التراب، وفم يتأهب للغناء.

-4-

حصة للتصحيح

رغم نسياني كتابة التاريخ على السبورة، إلا أنني لن أنسى ذلك اليوم الذي كنت فيه الفارس والفريسة، الضد ونقيضه، شرحت درسي لتلاميذي في مادة التاريخ حيث تخصصي، وختمته بأسئلة اختبارية، جمعت الأوراق ولفقتها في يدي، وقبل خروجي جاءتنا الأوامر صريحة بالبقاء حيث أنا وتعديل كل شيء.. البدء من جديد، تحيرت كثيراً، حاولت الاعتراض، بيد أن القرار نافذ لا محالة، صرت كمن يظل على هذا العالم من جدار مرتفع لا يسمح إلا لعينيه تنظران بلا فاعلية.. كنت أعجز من امرأة ترتدي حجاباً عصرياً.. مغلوباً على أمري.. أنظر إلى البعيد فلا أجد إلا السراب جاثم على كل شيء.. توقفت عن الحركة.. انتهت الحصة، وما انتهت تلك الحكاية التي نتناقلها جيلاً بعد جيل، مكرهين أم برضا يشوبه نفاق، وحتى هذا أو ذاك لم يكن ليغير في الأمر شيئاً ما دامت الأقدام تخشى الإقدام وترفض الاحجام، فتقف ساكنة هي إلى الموت أقرب، تنبشها دريهمات الراتب كل شهر لتعيد فيها ماء الحياة الذي أصبح كدراً تزكم رائحته الأنوف، وعلى هذا عُدلت أمور كثيرة، وغيرت المناهج بسرعة غريبة، فكان لزاماً عليّ حرق تلك الأوراق التي لم يُكتب لها أن ترى الضوء الأحمر.


 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة