Culture Magazine Monday  09/02/2009 G Issue 270
فضاءات
الأثنين 14 ,صفر 1430   العدد  270
الغياب داخل دوائر الحصار
في (غايب) لبتول الخضيري 1-3
لمياء باعشن

 

في روايتها (غايب) تكشف بتول الخضيري عن تداعيات العقوبات الاقتصادية التي تعرض لها الشعب العراقي إثر حرب الخليج الأولى الفائتة وتوقعاً لحرب مجحفة قادمة. تصور هذه الرواية عذابات أناس توالت معاناتهم حتى حوصروا بين الحربين الطاحنتين في منطقة انتظار وتوجس بلا خيار سوى الاقتتال فيما بينهم على لقمة العيش الشحيحة والتلهي عن الهم المشترك بالتناوش والنهش داخل سور الحصار. تضع الكاتبة أمام عيون القراء رواية تفجر بها أصعب ردة فعل قرائية: المتعة المؤلمة، فالمتلقي يعتصره الألم وهو يعايش البؤس الإنساني في أقسى صوره، لكنه في نفس الوقت ينتشي متعة من براعة الطرح والتمكن من فن الروي الذي تميزت به الكاتبة في معالجتها لثيمة الحرب، فهي لا تحمّل الرواية همومها، بل تخضع تلك الهموم لمتطلبات الرواية. وقد أجادت بتول الخضيري في تسخير موضوعها لأدواتها الروائية، فاستفاد السرد من حالة الحصار واستغلت عناصر الزمان والمكان والحدث والشخوص والحبكة، ثم البناء العام للرواية تلك الحالة وتوزعت بتناسق في منظومتها.

تأخذنا بتول الخضيري في روايتها (غايب) إلى ما وراء كواليس الحرب في العراق، وهي بذلك تخرجها عن كونها رواية حرب إلى كونها رواية انعكاسات الحرب. يسيطر على هذه المنطقة الانعكاسية عنصران يعملان كموتيفين قويين يحركان النص ويخرجانه أيضاً من حيز نسج الحكاية الضيق إلى حيز أكثر رحابة وانفتاحاً ألا وهو النسج حول الحكاية.

ينطلق هذا العمل من وعي مركب لمفهوم (الحصار) ويرتكز في بنيته الأساسية على تفعيله كموتيف أولي ينطوي على موتيف ثانوي هو (الميلان). تبث بتول الخضيري مفهوم الحصار على كل الأصعدة وبكل أدواتها السردية؛ فعلى مستوى الكلمة ترد لفظة الحصار مباشرة في أكثر من موقع؛ ف(الحصار الاقتصادي الذي يزحف في العمارة..) - 33 هو (حصار غير معلومة نهايته)... - 14، ويتساءل أبو غايب: (من أين لي أن أتنبأ بهذا الحصار اللعين؟) - 13، ثم يحضر إلى المنزل بوستراً عنوانه الحصار.. - 59 ويبلغنا النص أن بعض الشباب الأعضاء في جمعية النحالين يطلقون عليها اسم: (خلايا تحت الحصار) - 163، وأن (المعهد الفرنسي مغلق بسبب الحصار) - 118، ثم ينقل النص توجسه من (حرب أخرى في إطار من حصار محكم على 22 مليون نسمة من ضمنهم أهل العمارة) - 22. وعلى المستوى المكاني للنص تختار بتول الخضيري عمارة في قلب بغداد في شارع السعدون فضاءً مؤطراً ينحصر في داخله شخوص الرواية كما تنحصر فيه أحداثها. تقول الراوية: (بسبب تردي الظروف الاقتصادية قلّ تحرك أهل العمارة في الخارج ولسبب ما زاد تحركهم بين الطوابق) - 71 وتقطن الطوابق الأربعة لهذه العمارة شرائح اجتماعية منوعة تحول (عمارة الاكتفاء الذاتي) - 141 إلى عراق مصغرة، فهؤلاء السكان المؤطرون بجدران الشقق يمثلون أنماطاً من الشعب المنكوب المحبوس داخل دوائر صراعات دموية اختلطت أسبابها بنتائجها. المكان في حد ذاته إذاً يحتوي منظومة الحصار التي تهيمن على الرواية ولا تسمح لأحداثها وشخوصها بالمغادرة. كالمصيدة، العمارة مكان قاتل تحف به المخاطر من كل جانب، بل ومن فوقه حيث تصيبه القذائف، ومن أسفله حيث يتربص المتربصون مثل المخبر السري عادل ومساعده الكوافير سعد ويعملون على الإيقاع بالفئران التي لا تملك سوى التدحرج بعضها فوق بعض، وهي صورة تستمد ترميزها من فأري العم سامي الذي يضعهما في قفص ويسميهما مخ ومخيخ - 76، 95 ثم يستغل النص فكرة الإطار هذه ليربط بين المحاصرة داخل إطار ومجموعة اللوحات التي تزدحم بها شقة أبو غايب؛ فاللوحات مؤطرة بالبراويز التي تحاصرها طوال الرواية ولم تفارقها إلا قرب النهاية حين اضطر أبو غايب إلى (فصلها عن إطاراتها)؛ ليتمكن من تهريبها عبر الحدود في صناديق النحل، لكن التأطير كان قد نال الجدران التي تركتها اللوحات، فكل لوحة كانت (تترك خلفها مربعاً أو مستطيلاً من غبار كان قد التحم بالحائط عبر السنوات) - 247 وتتابع الساردة اللوحات المؤطرة في أمكنة أخرى خارج الشقة؛ فعند أم مازن ترى سيدة جالسة أمامها (شعرها بلون إطار اللوحة المعلقة خلفها...) - 39 وعندما تزور طبيب الأسنان تسترعي انتباهها أن (اللوحة التي على رأسه والمطبوع عليها (الله) مؤطرة بإيحاءات وردية) - 26 وحين تذهب في زيارة مريضة في المستشفى يقع بصرها على الحائط في صالة الاستقبال لترى (لوحة لامرأة.. في مربعات.. موزعة ما بين المربعات..) - 251 أي أن المرأة داخل اللوحة تظهر داخل إطارات تحاصر أجزاءها. وقد ترسم الساردة لوحة في خيالها كما فعلت حين تخيلت العائلة التي سمعت بانتحارها وشبهتها بلوحة (صغيرة على جدارنا: رجال من قماش، شمس من خيوط مستهلكة، خلفية حامضية وكثير من خواء) - 37 وتظهر فكرة الإطار بعيداً عن اللوحات أحياناً، فقد تقف الساردة متأملة (إطار الشباك) - 129 وإطارات خلايا النحل، و(إطارات السيارات) - 26 و(قضبان البالوعات) - 25 ويرتبط هذا الإطار المحاصِر بفكرة الحجز داخل سجون خانقة، وهي فكرة تجد صداها في وصف فتحات البالوعات بأنها قضبان - 25، ثم في وصف السخام الذي غطى البيوت بعد القصف: (يا إلهي ما هذا السواد؟ المطر الأسود. جرت خطوط سود على جدران البيوت والأبنية والعمارات السكنية.. أقلام بكثافات مختلفة.. المدينة ترتدي بيجامة سجناء.. قصف صبغ كل شيء بقضبان من محلول مقيت) - 9 و10 الناس محاصرون في شقق صغيرة داخل عمائر محاصرة في بلد تحول إلى سجن كبير!

تحت الحصار تبدو (بغداد صغيرة) - 236 لكن النص يخرج فكرة المحاصرة عن حدود المكان ليطول بها النفس البشرية ويعبر عن إحساسها بالوقوع في مصيدة محكمة لا مخرج لها ويجعلها تتساءل على لسان الممرضة إلهام بكلمات بسيطة تنطلق كحشرجة أنين فريسة مستسلمة: (ليس لدي خيار... أين أذهب؟) - 73 ويستدعي النص أيضاً حادثة العامرية القديمة التي قصف فيها ملجأ تبخّر على إثره 400 مواطن ليستعرض ذهول امرأتين فقدتا أعزاءهما فأصيبتا بحالة هي أشبه بإعادة الشريط.. - 41 وكما تحاصر العراق بين زمني الحروب، تنحبس النفس البشرية بين حواجز الزمن؛ فتتكرر الأحداث وتعاد بلا توقف وكأن الأيام (تدور حول نفسها مثل ختم أسطواني سومري..) - 126 وخلال هذا الدوران المتوالي تتقابل البدايات بالنهايات في حلقة سببية - نتائجية متلازمة تحكم قبضتها على مَن بداخلها فيقع فريسة التكرار العبثي. يقول أبو غايب في وصف أسباب ونتائج إصابته بمرض الصدفية: (الإنسان معرض أن يصاب بالمرض لأنه يعيش قلقاً معيناً، ثم عندما يصاب به يزداد قلقه، وهكذا.. إنها دائرة مغلقة..) - 79 كما يصف سعد لدلال نوع العلاقة التي تربط بين خالتها وزوجها بعد سنوات العشرة الطويلة قائلاً: (هذه الحال تبني نفسها مع مرور الوقت، تسمى علاقة أحبك لأنني أكرهك، وأكرهك لأني أحبك) - 194 هذا الخلط بين السبب والنتيجة يشكل تعطيلاً للسؤال المعرفي وتحدياً للمثل الذي تردده أم مازن: (إذا عرف السبب بطل العجب) - 105 وفي بغداد وما حولها يدور العجب العجاب دون معرفة الأسباب، ومن يتعقبها يصبح كمَن (يدور حول نفسه في كرسي دوار) - 201 أو (كقطة تدور حول نفسها تريد الإمساك بذيلها) - 214 وكما ينحصر النص بين حربين؛ فإنه ينحصر أيضاً بين زمنين: ما قبل (زمن الخير)، وهي مرحلة السبعينيات التي تمثل ماضي العز وازدهار الوعي الحضاري في العراق، وما بعد (زمن الخير) وهي مرحلة التسعينيات التي شهدت واقع المعاناة البائسة للحصار وما صاحبه من انتكاس في الوعي الحضاري. ويعمل المصطلح التعبيري المتكرر (زمن الخير) ليس فقط كعلامة تأريخ - 130 وأداة تزمينية، بل يصبح معياراً ثابتاً لكل ما هو صحي وإيجابي تقاس عليه أوضاع الحاضر الذي يظهر بالمقارنة مرضياً وسلبياً. في سنوات الحصار أصاب المجتمع العراقي متغيرات خطيرة يرصد النص معظمها بدقة وقوة ملاحظة؛ فالمحل الذي كان أنيقاً تباع فيه الأجهزة الدقيقة أصبح مركزاً لتصليح السيارات، ولأن السكر مفقود فمحل الحلويات قد تحول إلى محل تنظيف الملابس بالبخار، وبعد أن أصدرت الحكومة قراراً بمنع استخدام الأسماء الأجنبية أصبح المطعم الذي كان اسمه ويمبي يسمى وهبي 115 أما نُصب الجندي المجهول فلم يعد موجوداً، لقد هُدم في هذه الساحة وتم بناؤه في منطقة أخرى غير سكنية. وساحة الجندي المجهول تغير اسمها رسمياً إلى ساحة الفردوس!

وقد طالت التبدلات المفاجئة كثيراً من الأفراد وغيرت مجرى حياتهم، فمن كان مهندساً معمارياً صار لحاماً 127 وعمارة الأساتذة التي تقطنها الراوية مع عائلتها أصبحت تعرف باسم: عمارة أم مازن، وخالتها التي كانت مُعلمة ابتدائية أصبحت خياطة، وزوج خالتها أبو غايب كان دليلاً سياحياً يسافر بدلال وهي صغيرة إلى بلدان كثيرة ولكنه اليوم يمنع من السفر - 16 ويترك عمله ليصبح زوج الخياطة ثم صاحب منحل. تستبدل أم غايب حمرتها القديمة بثمرة الديرم، ثم تردد بحسرة: (وين كنا.. وين صرنا..) - 51 أما وقد تغيرت الأحوال فها هو نادي العلوية الذي كان نادي النخبة ومظهراً من مظاهر الحياة البورجوازية، يتدهور ويتهاوى. تتردد أصداء (زمن الخير) في أرجاء النص كنعي حزين للأزمنة القديمة التي تكالبت عليها ويلات الحروب المتتالية وبدلت خيرها بوقائع قاسية مريعة؛ فالخير يخيّر كما تقول أم مازن، والشر يغيّر - (117).

أحداث رواية (غايب) محصورة في دائرة زمنية مغلقة على الجفاف تسبقها دائرة تحفها الرفاهية، وحين تتذكر إحدى مريضات أم مازن الزمن السابق فإن (معصمها يدور حول نفسه فتتحرك يدها على شكل دائرة: الله يرحم أيام التعليم الإلزامي والقرطاسية المجانية والزي الموحد..) - 48 وفي زمن التبدلات المأسوية يتسبب العوز المالي في كوارث جمة فيعاني أصحاب الدخل المنعدم من الجوع ويحلم أولادهم بساندويتش فلافل وفتياتهم بأصابع شكولاتة - 18 وينقطع عنهم الماء والكهرباء أياماً، وتتعطل خطوط التلفونات وتتشابك، وتطفح المجاري وتتلوث البيئة؛ فتنتشر الأوبئة والكوليرا والتيفوئيد ويشح الدواء بعد تقييد الصيدليات بأدوية عادية، وتتضرر البنية التحتية للمدينة بأكملها فتسقط جسور في الأنهار. وتحت ادعاء البحث عن أسلحة الدمار الشامل جرى تدمير شامل لكل سبل الحياة، وتوالت الانفجارات والقذائف لتحول المدينة إلى أنقاض.

يضج النص بقصص الموت التي تتجاوز حدود المقبول والمعقول شكلاً وعدداً. منذ المقدمة الفجائعية التي تعلن موت والد دلال وأمها في حادث انفجار سيارة، تمتد المتوالية الموتية فنسمع عن موت الطفل أمجد وأخويه التوأم في حادث انفجار طائرة - 53 ثم عن المستشفيات الملغومة بنساء مريضات وأطفال يموتون في أذرع أمهاتهم - 72 وعن عشرات آلاف الضحايا الذين دونت أم رائد زوجة العم سامي أحداث مقتلهم، إما في قصف أو بتسمم. يبدو أن الغياب في الرواية هو تسلسل الرحيل المتوالي؛ ففاتحة رحيل الأبوين وعائلة التوأم والعائلة اليهودية يتوسطها رحيل أم مازن وإلهام والأستاذ، ثم ينهيها رحيل أبو غايب ونحله ولوحاته، وسعد وعادل، وتبقى العمارة فارغة من سكانها، فراغ تعلنه ثلاث لافتات على شقق معروضة للبيع أو الإيجار.

***

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة«7712» ثم أرسلها إلى الكود 82244

جدة

 lamiabaeshen@gmail.com


 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة