Culture Magazine Thursday  04/06/2009 G Issue 286
فضاءات
الخميس 11 ,جمادى الآخر 1430   العدد  286
فتنة اللغة بين الموت والبعث في الرواية السعودية (1)
نورة القحطاني

 

ما النص إلا تأبين يعيه الكاتب أو لا يعيه، وما الكتابة إلا نوع من القتل الرمزي عند بعض الكتّاب، فهل يحق لنا القول: إنّ النص أشبه ما يكون بمقبرة؟ وإن سلمنا بذلك فمن يكون الأموات، وهل هناك حياة أخرى ستبعثهم من جديد؟

مهما قيل عن طبيعة النص السردي، وعن وسائل الكاتب وتقنياته في تشكيل جمالياته، فإنّ اللغة بعناصرها المختلفة من ألفاظ وتراكيب وجمل ودلالات وإيحاءات، تظل المحور الرئيس الذي يعول عليه النقد، فليس النص إلا بناءً لغويًا خاصًا يجسد تجربة حياتية وينقلها بشكلٍ فني إلى المتلقي. فبعد أن يفرغ الكاتب من النص ويودعه رفوف المكتبات يدخل عالم الأموات حتى يتناوله القارئ فيبعث حيًا من جديد كما تؤكد نظريات التلقي الحديثة.

إذًا كل كتابة هي موت وحياة، ومن ثم فإنّ كل عنصر داخل النص يحركه الكاتب ليبعث فيه حياة أخرى، وبعبارة أخرى (ليس هناك موات للنص) فحركة الألفاظ والتراكيب تتجلى داخل مكونات النص من خلال لعبة الظهور والاختباء، فنرى لفظة يستخدمها الكاتب في مشهد معين تثير المتلقي ثم تختفي فترة لتبعث لاحقًا في مواقف أخرى تحييها في ذهن القارئ لتحقق قيمة فنية معينة، وتنطبق هذه المسألة على اختفاء شخصية روائية رسمها الكاتب وسمح لها بالظهور، ثم غيبها في مشاهد أخرى بوعي أو من غير وعي لتعود للحياة من خلال تتابع الأحداث، والحقيقة أنّ هذه الشخصيات لم تمت، ولم تدخل منطقة النسيان في مخيلة القارئ، والدليل على ذلك أن كثيرًا من أبطال الروايات العربية والعالمية وبعض شخصياتها تركت أثرًا كبيرًا في ذاكرتنا ووجداننا، إنها قضية الخلود وعدم فناء النص، فبقاء أثره بعث يمنحه دورة حياة تتجدد بتعدد القراءات.

وفي هذا الإطار تأتي محاور هذه الدراسة، التي تتناول الرواية السعودية -على وجه التحديد- حيث تسعى إلى الكشف عن الحياة داخل النص من خلال تتبع بعض الوسائل والأساليب، التي تبعث الحركة والحياة في مكونات النص بعد موتها على المستوى الرمزي لتشكل جماليات مختلفة تساهم في إحياء النص على مستوى التلقي.

وقد رصدت الدراسة هذه الفكرة من خلال الملامح التالية:

1- موت المفردة وبعثها:

إذا كانت اللفظة تعد ميتة حتى تنتظم في جملة لتؤدي معنى مخصوصًا كما أشار الجرجاني، فكيف يكون موتها داخل النص؟ إنّ الكاتب عندما يؤلف مفرداته في جملٍ وتراكيب يجسدها حية في ذهن القارئ، ويستمر بعضها متنقلاً من جملةٍ إلى أخرى عن طريق تكرارها، وهي أداة لغوية تشير إلى الجانب التأثيري الذي يتركه هذا التكرار في ذهن المتلقي كما أشار إليه ابن معصوم في قوله: (تكرير كلمة فأكثر بالمعنى واللفظ لنكتة، إما للتوكيد، أو لزيادة التنبيه أو للتهويل أو للتعظيم أو للتلذذ بذكر المكرر...)(1) وبذلك تأخذ المفردة جانبًا وظيفيًا هامًا في خلق أفق التوقع عند القارئ كلما ظلت الكلمة حاضرة في النص، ومن أمثلة إحياء المفردة بالتكرار في الرواية ما ورد في رواية (الطين) لعبده خال:

- (أحمل لكم فجيعة لم أكن أنتظرها بتاتًا.

كنت أنتظر شيئًا ما إلا هذا الأمر) (2)

فتكرار كلمة ( أنتظر) تحيي الكلمة في ذهن القارئ من أول وهلة لتجعله متشوقًا ومنتظرًا لما سيلقى عليه من أحداث تحمل له الفجيعة التي أشار إليها الراوي.

- (هل ثمة حرج لو قلت: غدوت أنا المريض.

حقا أنا المريض)(3)

فإعادة جملة (أنا المريض) اعتراف من البطل بمرضه زاده تأكيدًا إعادة الجملة، كما أنه خلق أفق توقع مسبق عند القارئ سيحتفظ به حتى النهاية التي تكشف له صدق توقعه فيغدو الطبيب ومريضه شخصًا واحدًا، وهذا ما أشار إليه الكاتب في صفحة تالية حين قال:

(إنّ اللغة تخلق واقعًا نتواطأ على تثبيته في مخيلتنا، ويتحول إلى حياة بينما هناك واقع خارج هذه اللغة)(4) فيشعر القارئ أن وعي الكاتب كان وراء هذا التكرار وكأنه يتعمد إحياء الكلمات ليصل إلى غرضه، فهو من خلال تكراره لبعض الكلمات يبتدع توقعًا يشير إلى النهاية التي يقصدها الكاتب.

وإذا أراد القارئ أن ينظر إلى بعث كلمة ما على مستوى النص الروائي، فإنه يجد فعلاً أن هنالك كلمة تتردد أكثر من غيرها، مثل (الوهم، واهمًا، المريض، الجنون،...) وإحياء تلك الكلمات لا يمكن أن يكون من دون وظيفة تنسجم مع السياق العام للرواية، فهي تعين الكاتب في إضاءة جوانب قضيته التي يبعثها من خلال إحياء الكلمات والذي يحاول من خلاله إحياء تجربته في نفوس المتلقين ومن ثم مساعدتهم على اكتشاف البنية العميقة للنص.

كذلك ظهر في الرواية تكرار واضح لجمل بعينها فمثلاً نجد جملة: (أنالست مريضًا) في (ص 15) ثم تغيب لعدة صفحات لتعود للظهور مجددًا في (ص38)، فه ذا الغياب هو موت مؤقت للجملة، وبعثها من جديد والتأكيد عليها في مقاطع حوار كثيرة بين الطبيب ومريضه يحمل في طياته أبعادًا إيحائية تنسجم مع الموقف الذي تعيشه الشخصية، وتعكس رغبة الكاتب في استدراج القارئ إلى استيعاب قضيته الأساسية بتحريكه نحو الوصول إلى الحقيقة في نهاية الرواية، وما بحث القارئ عن المعاني المختبئة خلف الكلمات والجمل إلا توليد لمعانٍ أخرى تؤكد نظرية معنى المعنى عند الجرجاني والتي تشير إلى أن للألفاظ (دلالة ثانية تصل بها إلى الغرض) (5) وكل هذا يحقق ما ذهبنا إليه من بعث للمفردات بعد موتها داخل النص، فكل معنى جديد تولده المفردة داخل التراكيب والجمل هو حياة أخرى لها.

ويقابلنا كذلك تكرار الكاتب لعدة جمل بما يشبه اللازمة مثل:

(أذكر أنني مت...

الآن أذكر هذا جيدًا...

لست واهمًا البتة)

ورد هذا المقطع في ( ص15) ثم يختفي لعدة صفحات ويعود للظهور مجددًا في (ص23) ليموت مرة أخرى ويبعث فيما بعد في (ص 45، 46) ويمتد هذا التناوب بين الموت والحياة لتلك الجمل على امتداد صفحات الرواية وأحداثها، ليعكس إلحاح الكاتب على فكرة معينة يريد أن يؤكدها ويبلورها في ذهن المتلقي، لذا ظلت الأفكار حية يدفعها التوقع للتقدم في متابعة الأحداث لبلوغ لذة الوصول إلى الحقيقة التي ظل البطل يبحث عنها، وبهذا يمتد أثر النص حتى بعد الانتهاء من القراءة وفي هذا استمرار لحياته.

****

الهوامش :

1) ابن معصوم، أنوار الربيع في أنواع البديع، تحقيق: شاكر هادي، مطبعة النعمان، 1969م، ج5، ص 345.

2) عبده خال، الطين، بيروت، دار الساقي، ط2، 2006م، ص 7.

3) المصدر السابق، ص 7.

4) المصدر السابق، ص8.

5) عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، تحقيق: محمود شاكر، مطبعة المدني، ط3، 1992م، ص262.

جدة

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة