Culture Magazine Monday  02/02/2009 G Issue 269
عدد خاص
الأثنين 7 ,صفر 1430   العدد  269
الأديب الشيخ ابن عقيل: أيّ كذا خلقت..!
حمد بن عبدالله القاضي

 

 

 

 

 

 

 

أي كذا خلقت!.

وأنا أميل إلى أن نجعل الأديب الشيخ (أبو عبدالرحمن بن عقيل) يكتب في الميدان الذي يريده فلا نطالبه بتخصص، ولا نرغب إليه أن يبحث بشأن الفقه فقط أو الفلسفة فقط، أو النقد الأدبي فقط.. بل لندعه -كما هو- يكتب في كل فن ويحبر في كل علم!.

لا أزال أذكر موقفاً له مع معالي د. غازي القصيبي في لندن عندما سافرت معه إلى هناك للاشتراك في ندوة ثقافية: (عن الحركة الأدبية السعودية) ضمن برنامج (الأيام الثقافية السعودية) التي تنظمها رابطة الطلاب السعوديين هناك.. وبعد انتهاء الندوة التقى الأديب ابن عقيل بحضور د. القصيبي جمعاً من المثقفين العرب هناك، وكان (البساط أحمدياً) -كما يقال- فبداية الجلسة كانت الأدب والثقافة، وكان الأديب ابن عقيل يجيب ويتحدث ويبدع، ثم اتجه الحوار إلى العقيدة وبعض المسائل الفقهية وبدأ يجيب على أسئلة الحضور بتأصيل علمي وكأنه أحد العلماء الكبار.. ثم (انحرف) الحديث -بفعل فاعل- إلى (شجون الفن) وإلى ذات (الحنان الدافئ) أم الوليد سلمت حنجرتها من كح وبح! كما دعا لها في ديوانه الذي أصدره تحت عنوان: (النغم الذي أحببته) وهنا حلّق كأنه متخصص في شؤون الفن غناء وتلحيناً وتاريخاً مما أبهر الحضور والسامعين..!.

وعندما انتهت الجلسة استغرب الحضور استغراب إعجاب من (موسوعية) الشيخ الأديب ابن عقيل وعندها قال لهم د. غازي: هذا ابن عقيل ولم تسمعوا منه إلا القليل فهو متبحر في كل فن يطرقه وعلم يتحدث عنه، وأضفتُ أنا في الجلسة: أن الشيخ ابن عقيل فسّر سورة الفاتحة بأكثر من (مئتي) حلقة في برنامجه الإذاعي (تفسير التفاسير)، وإن البسملة لوحدها استغرقت زهاء (عشرين) حلقة.

الحديث عن الأديب ابن عقيل متشعب وجوانبه متشعبة كطرق مفازة، لكن سأقتصر على تناول ثلاث خصال عرفتها فيه وعرفها من تعامل معه من خاصته من كبار أو صغار:

الأولى: حرصه وسعيه إلى مساعدة الآخرين، وقضاء حوائجهم، وإغاثة ملهوفهم، وهو يفعل ذلك مع من يعرف ومن لا يعرف عندما يتيقن من حاجته إلى مساعدة، فلا يضن بجاه، أو شفاعة حسنة، بل إنه يشترك مع من (يمون) عليهم في التوقيع على خطابات يعدها عن بعض من يرى أنهم نالتهم إحدى مصائب الدهر.. جعل الله ذلك في موازين حسناته بالأخرى وما عند الله له خير وأبقى.

الخصلة الثانية:

رجوعه إلى الحق عندما يرى الصواب قد جانبه، فهو لا يخجل من ذلك ولا يتمادى فيه، وأضاف مثلاً بنأيه عن عالم الفن الذي كان أحد عشاقه شغفاً وسماعاً وتأليفاً، لكن خياره الأخير الذي اطمأن إليه هو نأيه عنه.

يقول في شفافية عُرف بها في إحدى تجلياته في مقالة نشرها كاشفاً عن سبب كراهيته لسماع الألحان في الآونة الأخيرة وهو ينطلق في رؤيته عبر مقارنة بليغة شفافة بين لذة الأغنية ولذة التلاوة، قال أبو عبدالرحمن: (وقارنت بين لذة الغناء ولذة التلاوة، فوجدتني في الأولى عبداً مأسوراً حزيناً أسيفاً أنهكه الحب لمن (لا يساوي عطسة) أحمد الله عليها، وإذا بي بعض المرات أبكي لا شعورياً لسماع مثل: (أسهر وانشغل أنا وأنت ولا أنت هنا.. فين أيام مع الأحلام أضيناها.. يجري إيه.. إلخ) ووجدتني أتداوى من دائي بداء آخر؛ فإذا سمعت مثل (الحب كله نعيم.. ما فيه عذول بيلوم، ولا فيه حبيب محروم).. مع حلاوة عزول بالزاي ومهروم بالهاء.. لكن وجدتني في اللذة الثانية: لذة التلاوة أعيش عالماً يجنح بالروح، ويطرد الهم، ويبارك العمر ويزكيه).

الخصلة الثالثة:

سلامة قلبه ولطفه وظرفه فأنت لا تمل مجالسته والحديث إليه، حتى وهو يتحدث حديث الجاد والعالم، فهو يمزج الجد بالهزل فتأنس إليه وترتاح إلى أسلوبه.. مرة سأله أحد الفضلاء: لماذا تطيل لحيتك يا أبا عبدالرحمن: فتحدث حديثاً طويلاً ومقنعاً، وكان مما استشهد به للإقناع لحية أحد أسلافه الظاهريين، حيث قال: (إن له لحية كان يغطي بها عينيه عندما ينام).

ثم إن أبا عبدالرحمن رجّاع للحق، سريع الندم ولا أزال أذكر سرعة رجوعه عما كتبه -ذات غضب- عن شيخنا وشيخه حمد الجاسر رحمه الله، وعندما هاتفته أنا ود. يحيى بن جنيد -ونحن من خاصته- ندم وتراجع وكتب في الأسبوع التالي وفي نفس مكان كتابته بصحيفة (الجزيرة) موضوعاً مؤثراً اختار له عنواناً جميلاً من واقع قصة تراثية كنت أحدثه بها وأنا أثرِّب عليه مقالته الغاضبة عن الشيخ حمد، كان عنوان المقال: (كيف أهجو القمر!)، وقد لقي المقال ارتياحاً واستحساناً من محبي الشيخين الجليلين.

واقرؤوا معي هذه السطور التي يعتذر فيها عن سرعة الانفعال وبخاصة عندما يرد على بعض مجايليه فهو يعترف بهذه الكلمات التي ترتهن إلى الصدق والصراحة عندما يسكت عنه الغضب، أو عندما ينطقه العتب: (لقد كنت رجلاً انفعالياً سريع الغضب أنتصف لنفسي في الصحافة بالقول الجارح، والسخرية اللاذعة، وكما كنتُ سريع الغضب كنتُ سريع الندم والرجوع، ولقد اضمحل هذا الداء بحمد الله وبفضل الله ثم بشدة الرياضة لنفسي.. وجُبلت على محبة لربي أعيشها لكثرة ما رأيت من لطف ربي).

لا بد -أخيراً- وأنا أكتب هذه المقالة عن الشيخ الأديب أبي عبدالرحمن أن أتوقف عند إحدى (تجلياته) الأخيرة التي نشرها عبر مقالة مؤثرة على صفحة كاملة بصحيفة (الجزيرة) يوم السابع والعشرين من رمضان الماضي، وهذه المقالة بالغة التأثير ومن الذين تأثروا بها عندما قرأها د. غازي القصيبي كما كتب إليَّ بعد أن أرسلتها إليه، لقد احتوت هذه (التجليات) على رؤية عالم وفيلسوف أدرك كنه الحياة بعد أن ذاق صابها وصيَّبها، حريقها ورحيقها.. أجتزئ هذا المقطع من هذه المقالة التي يجلّي فيها فلسفته في النظر إلى متع الدنيا: (فقد شبعتُ لهواً وطرباً، أفليس من حقي أن أذوق الجد بعد أن فات أوان الشِّبَع؟!.. وهذا الإمام الشيخ محمد بن حزم (جمعني الله به في دار كرامته) يقرر في كتابه (مداواة النفوس) أن مراد كل البشر بلا استثناء في حركاتهم وسكناتهم (طرد الهم والألم، وجلب اللذة والسعادة)؛ فلذة العابد بعبادته، ولذة العالم بعلمه واللذات في الدنيا ليست واحدة فلذات خسيسة كلذة الكأس والجنس الحرام ولذات شريفة كلذة العبادة والاستمتاع بالعلم)ا.هـ.

أما قبل:

هذا أبو عبدالرحمن لا تملك إلا أن تقدر علمه وأن تحبه في كل حالاته سواء غاص في بحر العلم أو حلّق في فضاءات الفلسفة، أو طاف في عوالم دنيا الفن.. فلنقبله ولنحبه في كل حالاته، وحسبنا وحسبه ما قاله صديقه القصيبي في قصيدته التي وجهها إلى أبي عبدالرحمن معاتباً في بعض أبياتها كاتب هذه السطور في حكاية أدبية معروفة:

(إن رُمتَ فقهاً.. فإن الفقه صنعته

يجلو (المُحلّى) بتفسيرٍ وتوضيحِ

أو رُمتَ نحواً.. فإن النحو مهنته

يغزو النُحاة بتخطيئ وتصحيحِ

أو رُمتَ شعراً.. فذا ديوانه حرقٌ

تدمي بدمعٍ من الأعماق مسفوح

أو رُمتَ نثراً.. أتاك النثر تحسبه

من رقّة النسج.. نفح البان والشيحِ

أو رُمتَ درساً.. تراه في تلامذةٍ

إليه قد جلسوا.. بعد التراويحِ

فكيف يا أيها القاضي يباغتنا

هذا القرار بإلغاء (التباريح؟!))

(*) أمين عام مجلس أمناء مؤسسة الشيخ/ حمد الجاسر الثقافية الخيرية

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة