Culture Magazine Monday  02/02/2009 G Issue 269
عدد خاص
الأثنين 7 ,صفر 1430   العدد  269

أبو عبدالرحمن ابن عقيل وشيء من الذكريات

أ.د. محمد الهدلق

 

أبو عبدالرحمن بن عقيل الظاهري عالم جليل، ومفكر بارز، وأديب متميز، قل أن تجد نظيرا له في هذا الزمان في كثرة إنتاجه، وتنوع معارفه، وسعتها، وعمقها. يتحدث إليك في الفقه فيأتيك فيه بالعجب العجاب، ويتحدث إليك في التفسير فيبهرك بسعة اطلاعه وحسن استنتاجاته، ويغوص بك في دهاليز الفلسفة فتصاب بالدوار وتعجز عن المتابعة، ويطوف بك في رياض الأدب فيمتعك أيما إمتاع، ويأخذك إلى الشعر العامي فتبهرك إحاطته به، ويشدو عليك بأبيات من ديوان (النغم الذي أحببته) فتقول: سبحان مقلب القلوب. هذا هو أبو عبدالرحمن مُبرز في كل علم، وبارع في كل فن.

كيف تأتي لأبي عبدالرحمن أن يحصل كل هذه المعارف؟ لقد حصلها بالعزيمة الصادقة وبالتصميم الذي لا يكل، أعرف هذا عنه منذ أن كان فتى يافعا. ومعرفتي به هي معرفة الجار لجاره، والزميل لزميله (زمالة المدرسة والمعهد، لا زمالة الفصل الواحد). كنا في ذاك الزمان نلتقي كثيرا في مسجد الحي، وفي المدرسة الابتدائية، ثم في المعهد العلمي. كنا نصلي الصلوات الخمس في مسجد الحسيني، وهو مسجد يقع في الجزء الشمالي الغربي من مدينة شقراء، وكان مؤذن هذا المسجد هو الشيخ الوقور عمر بن محمد بن عقيل، خال والد أبي عبدالرحمن، وكان من بين من تولى الإمامة فيه في تلك الفترة رجل تقي يُعرفُ باسم (شقران)، وبعدما ترك شقران مدينة شقراء إلى مدينة عفيف ليصبح إماما لجامعها خلفه في إمامة مسجد الحسيني أحد الفضلاء من آل الناصر، وبعد أن تقدمت به السن خلفه الشيخ سليمان بن علي. كان هذا المسجد في ذلك الزمان عامرا بالمصلين، وبقراءة القرآن، وبالحديث الذي يُقرأ على المصلين بعد صلاة العصر، وقد زرته بعد عيد الفطر من عامنا هذا 1428هـ فوجدته مهجورا بعد أن ترك الناس بيوتهم القديمة المحيطة به فتحولت إلى أطلال تبصر فيها البلى رأي العين. وفي كل مرة أزور ذلك الحي الذي يقع فيه هذا المسجد وأملأ عيني من أطلاله يُسارعُ إلى ذهني قول الشاعر:

يا دارُ ما فعلت بك الأيامُ

ضامتك والأيام ليس تضام

عرم الزمان على الذين عهدتهم

بك قاطنين وللزمان عُرام

وعندما أبتعد عن تلك الأطلال وتختفي عن عيني يحضر إلى ذاكرتي بقوة قول الشاعر:

وتلفتت عيني فمذ بُعدت

                                            عني الطلول تلفت القلبُ

هذا والله صحيح، والمقام هنا ليس مقام الحديث عن الأطلال وتأثير منظرها على من سبق له أن عاش فيها عندما كانت عامرة بالأهل والأحباب، ولكنه مقام حديث عن أبي عبدالرحمن بن عقيل، ولهذا سأترك الاطلال ساكنة، وأعود إلى صاحبنا النابض بالحياة.

كان مما لفت نظري في أبي عبدالرحمن في تلك الفترة مواظبته الشديدة على الصلاة مع الجماعة، وعلى قراءة القرآن، كنت دائما أراه قبل الصلاة متكئاً على سارية معينة من سواري مسجد الحسيني يهُذُّ القرآن هذا.

وكان أبناء الحي الذي كنا نعيش فيه يلعبون في الشوارع أنواعاً من اللعب كما هي عادة الصبيان في كل حي وفي كل زمن، لكنني ما كنت أرى أبا عبدالرحمن يشاركهم اللعب إلا لماما. كنت كثيرا ما أراه خارجا من منزله أو داخلا إليه وهو يحمل كتباً، وما كنت أعرف شيئا عن نوعية هذه الكتب التي يحملها، ففي تلك السن المبكرة ما كانت الكتب تستهويني. وكان مما يثير استغرابي رؤيتي إياه متأبطاً يدي شيخين متقدمين في السن، مكفوفي البصر تربطهما بوالده صداقة ومودة. كنت أراه يحضرهما من مسكنهما إلى منزل والده مشيا على الأقدام، ثم أراه وهو يعيدهما إلى منزلهما بالطريقة ذاتها، وكنت أسائل نفسي لماذا يفعل ذلك؟ ثم عرفت لاحقاً أن هذين الشيخين يحفظان الكثير من الشعر العامي، وانهما يرويان الكثير من الأخبار والقصص والنوادر، وكان أبو عبدالرحمن يُدوِّن ما يسمعه منهما، وأذكر أنه روى لي يوما ونحن في منزل والده بعض ما دونه منهما فإذا به شيء يضحك الثكلى كما يقال.

عندما انتقل أبو عبدالرحمن إلى المعهد العلمي وجد الفرصة سانحة لإظهار مواهبه المتعددة. كان معهد شقراء في ذلك الزمان يزخر بالأساتذة الفضلاء من السعوديين والمصريين ومن جنسيات أخرى. كان ممن دَرَّسَ فيه عدد من المشايخ والفضلاء، منهم من لا زال حياً، ومنهم من انتقل إلى جوار ربه، رحم الله من توفي وأمد في عمر من بقي. من بين هؤلاء الأساتذة: الشيخ صالح بن غصون، وكان في ذلك الوقت يعمل قاضياً للبلد ويدرس في المعهد، والشيخ عبدالله بن قعود، والشيخ راشد بن خنين، والشيخ عبدالله بن سليمان بن منيع، والشيخان عبدالعزيز وسعد الداود، والشيخ عبدالله الزامل، والأستاذ محمد العميل، والأستاذ محمد المسيطير، والشيخ عبدالعزيز بن محمد العبداللطيف، والأستاذ عبدالله بن محمد السنيدي والأستاذ عبدالله بن عبدالعزيز أبو عباة، والأستاذ عمر بن سعد السدحان، والشيخان عبدالله وعبدالرحمن السالم، والشيخ محمد بن عبدالرحمن بن داود، والأستاذ عبدالله بن عبدالرحمن بن إدريس، وغيرهم كثير يطول الكلام لو ذهبت أستقصي أسماءهم. وكان من بين الأساتذة المصريين: الأستاذ صديق، والأستاذ قنديل، والأستاذ محمد صادق، والأستاذ حسن شرف، والأستاذ يحيى حافظ، والأستاذ عبدالله سالم طربان، والأستاذ زكريا القندقلي، والأستاذ ناجي لويشي أحمد وغيرهم كثير. وقد تولى إدارة المعهد في الفترة التي كنا فيه طلابا الشيخ عبدالعزيز المسند رحمه الله، وهو أول مدير للمعهد، ثم تلاه الأستاذ محمد الأشقر، ثم الأستاذ عثمان بن سيار، ثم الشيخ عبدالله بن ظعيان.

كان في المعهد آنذاك ناد أدبي شهير يقيم حفلا مرة في كل أسبوعين. وكان يحضر هذا الحفل الأساتذة، والطلاب، وقاضي المدينة، وأعيانها، وعموم الناس. وكان يشارك في الحفل الطلاب والأساتذة على حد سواء، وكان يشارك فيه أحياناً بعض الضيوف أحياناً. وكان من بين طلاب المعهد في هذه الفترة عددٌ من المتميزين قدِّرَ لبعضهم أن يكملوا دراساتهم العليا، والبعض الآخر اختار طريقا آخر في الحياة وشق طريقه فيها بدون دراسات العليا. كان من بين هؤلاء الطلاب المتميزون بالإضافة إلى أبي عبدالرحمن بن عقيل كلٍّ من: الدكتور عبدالعزيز بن عبدالله الجلال، والأستاذ عبدالعزيز بن إبراهيم الهدلق، والأستاذ إبراهيم بن محمد السنيدي، والشيخ عمر بن سليمان الحصين، والدكتور عبدالعزيز بن ناصر المانع، والدكتور زاهر بن عواض الالمعي، والشيخ عبدالرحمن بن إبراهيم العمار، والأستاذ عبدالعزيز بن سعد الهدلق- رحمه الله-، والشيخ حمد بن محمد الداود، والدكتور حمد بن عبدالله المنصور، والشيخ عبدالعزيز بن عبدالرحمن الهدلق، والشيخ محمد بن أحمد العسكري، والأستاذ محمد بن عثمان المنصور.

كان أبو عبدالرحمن بن عقيل يشارك في نشاطات هذا النادي بحيوية ظاهرة. كان يلقي كلمات، ويقدم بحوثاً، ويشارك في المساجلات الشعرية، وفي التمثيل أيضاً. وكان بعض الطلاب يصدرون صُحفاً حائطية يملؤونها بالمقالات العلمية والأدبية، وكان أبو عبدالرحمن يصدر صحيفتين حائطيتين اثنتين هما: (نجد) و(المؤتمر).

وعندما كان أبو عبدالرحمن في المعهد العلمي شاع بين زملائه أنه قد ألف كتبا في التاريخ وفي الأدب الشعبي، وكان زملاؤه بين مُصدق ومُكذب، فما عُرف عن الأساتذة في ذاك الزمن أنهم يؤلفون كتبا فكيف بطالب في هذه السن وفي هذا المستوى الدراسي. وقد ذكر أبو عبدالرحمن لاحقا في إحدى تباريحه ان مخطوطات هذه الكتب قد ضاعت وان من بينها أربع كراريس بعنوان (الأصول والفروع)، وكتاباً بعنوان (بين كُميت والملحاء)، وأسفارا أخرى أهم من هذه أحرقها قبل ذلك بيده إرضاء لوالده.

وبسبب هذا الطموح الواضح، وبسبب كثرة القراءة التي تصل إلى حد الادمان، وبتنوع هذه القراءة، وسعتها، وبحبه الواضح للنقاش والجدل توثقت روابط قوية بين أبي عبدالرحمن وعدد من أساتذته، ولعل من أبرز هؤلاء الشيخ محمد بن عبدالرحمن بن داود- رحمه الله-، والأستاذ عبدالله بن عبدالرحمن بن إدريس- رحمه الله-، والأستاذ محمد صادق. أكاد أجزم أن هؤلاء الثلاثة، بتخصصاتهم المختلفة، وبشخصياتهم المتميزة كان لهم أثر كبير في توجيه المسار الفكري والأدبي الذي انتهى إليه أبو عبدالرحمن.

بعد تخرج أبي عبدالرحمن من المعهد العلمي بشقراء التحق بكلية الشريعة بالرياض ثم بالمعهد العالي للقضاء الذي حصل منه على درجة الماجستير.

نتاج أبي عبدالرحمن العلمي والأدبي لا يمكن أن يحاط به في مثل هذه العجالة، وقد سبق للنادي الأدبي بالرياض أن أقام في عام 1425هـ ندوة علمية تكريما لأبي عبدالرحمن، استكتب النادي لها ثلاثة من المتخصصين، وقد كان لي شرف المشاركة في تلك الندوة ببحث عنوانه (أبو عبدالرحمن بن عقيل الظاهري أديباً)، وقد بهرتني كثرة إنتاج أبي عبدالرحمن في الحقل الذي كنت معنيا به وهو الأدب، وازداد هذا الانبهار كثافة عندما اطلعت على الكتاب الذي أعده الدكتور أمين سليمان سيدو بتكليف من النادي الأدبي بالرياض وعنوانه (شيخ الكتبة أبو عبدالرحمن بن عقيل الظاهري، حياته، وآثاره، وما كتب عنه)، وقد وُزع الكتاب إبان انعقاد الندوة المشار إليها، وهو يمثل رصداً موثقاً للنتاج العلمي والأدبي لأبي عبدالرحمن إلى تاريخ إقامة الندوة العلمية عنه فقط. ويكفي أن أشير هنا إلى أن هذا الكتاب قد رصد لأبي عبدالرحمن 96 كتابا في شتى العلوم والمعارف، كما أنه قد رصد الأبحاث والمقالات التي نشرها وهي كثيرة جداً.

الحديث عن أبي عبدالرحمن لا يُمل وفي الجعبة الشيء الكثير لكنني أخشى أن أكون قد تجاوزت المساحة المخصصة لي ولهذا سأكتفي بما سبق.

متعك الله بالصحة والعافية يا أبا عبدالرحمن وبارك فيك وفي علمك.

جامعة الملك سعود - كلية الآداب - قسم اللغة العربية وآدابها 

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة