Culture Magazine Monday  02/02/2009 G Issue 269
عدد خاص
الأثنين 7 ,صفر 1430   العدد  269
إجازة علمية

 

 

 

 

 

 

 

 

الحمد لله رب العالمين لا أحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه، وأشكره على آلائه وإحسانه، وأعظم نعمه نعمة الإسلام، والنشأة على الإسلام في البيت والمجتمع.. وأصلي وأسلم على عبده ورسوله النبي الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، واجعلنا معهم ومنهم بمنك وفضلك وكرمك وجودك ولطفك وبرك وإحسانك وعفوك وغفرانك ورحمتك يا أرحم الراحمين.. آمين آمين آمين يا رب العالمين.

أما بعد، فإن الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء، فندب الله عدول الأمة بقضائه الكوني لتحقيق هذا الدين وتمييزه وحفظه ضمانة لقضائه الشرعي، إذ أخبرنا ربنا سبحانه في كتابه الكريم بحفظه لهذا الدين الخالد المهيمن الناسخ لغيره من الأديان، وامتدت بركة الإسناد إلى علوم المسلمين الأخرى، فكانت مؤلفات المسلمين تُعرف بأسانيدها كما في كتب الفهارس والبرامج والإثبات، وكل هذا من خصائص أمة محمد صلى الله عليه وسلم.. وفي حكم الإسناد معرفة خطوط العلماء والنساخ، وما يوجد على الكتب الخطية من علامات المقابلة، وإثبات أسماء أهل السماع والمتملِّكين.. وكان عند العلماء السابقين ما يشبه الطبعة الأولى والثانية والثالثة.. الخ، بما يضيفونه أو يسقطونه بالتهذيب والتشذيب.. عُرف ذلك من المقارنة بين النسخ، وتمييز كل راوٍ للكتاب بروايته كما نجد في فهرسة ابن خير مثلاً حينما يذكر الفروق بين روايات الرواة؛ ولهذا ميَّز العلماء الكتب المنحولة، وما نُسب لغير مؤلفه وهْماً، وقد استقرَّت كتبُ المسلمين ولم نعُد بحاجة إلى الإسناد في هذا العصر؛ وإنما ثمرة الإسناد الآن في أمرين:

أولهما: الأسوة بصلحاء الأمة وعدولها، وتحقيق اتصال السند بين الأجيال، وهذه الأسوة كما قال الشاعر:

وتشبَّهوا إن لم تكونوا مثلهم

إن التشبه بالكرام فلاح

وثانيهما: حفظ المؤلفات الحديثة بالإسناد وإن كانت معروفة الهوية بالمطبعة والناشر وتاريخ النشر، وتحقيق المنفعة وسنة السلف في قراءة الكتب على مؤلفيها، أو تعهد قراءتها من أجل الإجازة، ولهذين الأمرين أجزت الأستاذ عبدالله بن ناصر بن سعيد الظاهري، وبقراءته عليَّ من أول كتاب المحلى، ومن أول كتاب الإحكام لأصول الأحكام، وكلاهما للإمام ابن حزم، وحديثين من أول صحيح البخاري ليلة الأربعاء بعد صلاة التراويح الموافق 6-9-1428هـ (18 سبتمبر 2007م)، وقد رأيت شدة تعلقه بالعلم الشرعي، وإلمامه بمصادره، ومتابعته لما يستجدُّ نشره، وعليه سيما الصلاح والوقار بحمد الله.. وإنني أوصيه بالحد من الحماس لأهل الظاهر، والتقليد لهم، بل عليه حذق الظاهر نفسه تأصيلاً من الشرع والفكر واللغة، فالظاهر ما حصل اليقين أو الرجحان بأن الله أراده في خطابه الشرعي من معنى صحيح في لغة العرب، فلابد من برهان التصحيح لغة، ولابد من برهان الترجيح على مراد الشرع يقينا أو رجحانا، والتوقف فيما لم يتبين رجحانه أو مرجوحيته مع مواصلة البحث عن حكمه.. وأوصيه وزملاءه ومشايخه وما قد يكون له من تلاميذ وأوصي نفسي بالحرص على العلم النافع، وإحسان النية فيه بأن يكون خالصاً لله سبحانه، وأوصيه بنصرة مذهب أهل السنة والجماعة بالعلم والفكر والرفق والكلمة الحسنة، ومحاربة البدع ولاسيما التصوف الذي انتشر بين المسلمين، ومحاربة الغلو والإرهاب وتطرُّف الإخوانيين فيما خالفوا به مذهب السلف.. ومن أهمِّ السلف نصرة الحاكم المسلم والالتفاف حوله في غير معصية الله، ولهم أسوة ببقية الصحابة رضي الله عنهم وقدماء أئمة المسلمين رحمهم الله، فقد رأوا بأعينهم انتقال الخلافة الراشدة إلى مُلك رحمة فأنكروا بقلوبهم وألسنتهم قتل الحسين بن علي رضي الله عنه، وتأخير بني أمية الصلاة عن وقتها، وسبَّ عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه، فأنكروا ذلك، وأنكروا قتل حجر بن عدي رضي الله عنه، وقتل سعيد بن جبير رحمه الله، وجاهروا في الإنكار.. ولكنهم لم يشقوا عصا الجماعة، ولم ينقضوا الطاعة، وساعدوا حكامهم: بجهاد العدو، وقتال الخارجين على السلطة، وبالعمل معهم في القضاء والفتوى، ولم يفتوا إلا بما يعتقدونه، ولم يفتوا على أهواء السلطان.. بل هذا أحمد بن حنبل رحمه الله ضُرِب وعُذِّب، ورأى زملاءه يُقتلون، فلم يخف، ولم يتراجع.. ولكنه لم يخرج على البيعة، ولم يشق عصا الطاعة، وعارض ابنه لما اقترح عليه الدعاء على يزيد بن معاوية، فقال: متى رأيت أباك يلعن الناس؟!!.. وقال: لو كان لي دعوة مستجابة لذخرتها للسلطان!!.. وأوصيه أن يقدِّم الأهم على المهم في العلم، وأن يقدِّم مستغلق العلوم على غيرها في أوقات النشاط بعد النوم وفراغ البال من المشاغل.. وأجيزه برواية جميع مروياتي عن مشايخي، وهم سماحة المحدث الشيخ العلامة أبو زاهد عبدالفتاح أبو غدة رحمه الله، وسماحة الشيخ الفقيه الحنبلي عبدالله بن عبدالعزيز العقيل متَّعه الله بالصحة والعافية، وفضيلة الشيخ أبو محمد عبدالحق العمري -رحمه الله- كما في روايتهم بفهارسهم.. وبما أناوله إياه من صورة إجازة بعض مشايخي الآخرين، وليست في متناول يدي الآن.. كما أجيزه رواية مؤلفاتي، وأرجو منه تجاهل مؤلفاتٍ لي تراجعت عنها كلها مثل (نظرات لاهية) أو تراجعت عن بعض الأبحاث في بعضها مثل (هكذا علمني ورد زورث)، و(النغم الذي أحببته)، وألا أكون قدوة له في إباحة الغناء، فإنني أبرأ إلى الله مما خطه قلمي سابقاً، ولا أبيح منه إلا ما أباحه الشرع بشروطه في نطاق ضيق.. مع أن ترك سماع المباح منه -وهو قليل جداً- أفضل، بل ترك اللهو واللغو والعبث سلامة من مغبتهن وتحقيق لما هو أجل، وذلك هو العلم النافع تعلما وعملا وتعليما، وألحق وصيتي السابقة بوصية أخرى، وهي اتباع العلم النقلي الأناة والتبصر فكريا من جهة: دقة التمييز بين الأشياء، ومعرفة الفروق والعلاقات بينهما، ومعرفة أحكام العقل الذي هو حجة شرعية قطعية: في فهم الشرع من إحالة المحال، وإمكان الممكن، وإيجاب المتعيِّن، والتوقف عما لم يحصل بعلم يقيني أو رجحانيّ، وأن يفرق بين درجات العلم، فهناك علم وجود، وآثار موجود، ووصف له من قبل من يوجب العقل أو التواتر تصديقه، وهناك علم وجود وكيفية وكمية، وهناك علم بالشيء من وجه، وعلم بالشيء من أوجه.. الخ، مع تحرير محل النزاع في كل خلاف، والتخلق بآداب البحث والمناظرة، فإن عصرنا بحاجة إلى علماء مفكرين، وأما النقل البحت دون مسؤولية السمع والبصر والفؤاد فإنما هو زيادة نسخة في البلد!!.. وأوصيه بالتضلع في اللغة، لأن ديننا بلغة العرب، ويكفي في ذلك مقاييس اللغة لابن فارس، والمفردات للراغب، وأساس البلاغة للزمخشري، والجنى الداني في حروف المعاني، وديوان الأدب للفارابي، وكتاب سيبويه، وكتاب المبرد (وكلاهما في النحو)، وتاج العروس للزبيدي.. وأوصيه بالعناية بالنحو الثاني الذي هو البلاغة، ويكفي في ذلك كتابا عبدالقاهر.. كما أوصيه بكثرة القراءة والتصفح قبل التأليف تحقيقا لقول إيليا أبو ماضي:

لم تعط مع أذنيك نطقاً واحداً

إلا لتسمع ضعف ما تتكلم

فهذه وصية نافعة من أبو ماضي، والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها.. وأوصيه أن يستغل جزءا من وقت النشاط في قراءة حواشي العلماء المتأخرين، والحواشي على الحواشي، فإنها مليئة بكنوز من العلم في غير مظانها، وبقية النشاط -ولا سيما بعد النوم، وفراغ البال- في قراءة العلوم الصعبة، وأما عند ضعف النشاط فيكون التصفح للعلوم السهلة كالتراجم وكتب المسامرات والمحاضرات.. وليصبح قراءته وتصفحه بالتقميش، فقد قال شيخي أبو غدة رحمه الله: (فتِّش، ثم قمِّش)؛ وذلك بأن يُعْلِمَ على ما يريده بقلم رصاص خفيف، ويضع رقم الصفحة في الغلاف، ثم بعد الفراغ من المجلد يسجل ما قمَّش في كُنَّاشة كما قال الناظم:

لا بدَّ للطالب من كُنَّاشِ

                                                 يكتب فيها قاعداً أو ماشي

قال أبو عبدالرحمن: مستعلن (. ه . . . ه) إذا لم تكن لازمة في كل القصيدة فهي كسر للوزن لم يحسّ بقبحه أكثر الشعراء، لأنهم يعتمدون على التقطيع البصري للعروض، ولا يعتمدون الغناء بالقصيدة غناء ساذجاً بلا آلة كما قال حسان رضي الله عنه:

تغنَّ بالشعر إما كنتَ قائلهُ

إن الغناء لهذا الشعر مضمارُ

والناظمون يتجوَّزون في نظم العلوم على بحر الرجز بزحافات وعللٍ (غير لازمة في القصيدة كلها) يقبح سماعها، ويسلس ذلك النظم لو قال:

لا بدَّ للطُّلاب من كُنَّاشِ

                                       يُجْبَى لها من قاعدٍ أو ماشي

أو (لا بد للتقييد)(1).. وأوصيه بذكر هوية الطبعة في الكُنَّاش، فلو استبدلت الطبعة بغيرها يسهل عليه الرجوع إلى الطبعة التي قمَّش منها من مكتبة عامة.. وأجيزه الآن بهذا الإسناد، لتكون إثبات من ذُكروا في السند مرجعا له كحصر الشارد للسندي، وقطف الثمر للفلاني، وثبت الكزبري، وفهرست الحافظ ابن حجر، وثبت الوادي آشي رحمهم الله، وهذا هو الإسناد إلى عبدالحق: (قال أبو عبدالرحمن محمد بن عمر ابن عقيل: حدثني شيخي إسماعيل بن محمد بن ماحي بن عبدالرحمن الأنصاري رحمه الله تعالى بمدينة الرياض في 21-5-1400هـ إجازة بعد قراءة أحاديث من صحيح مسلم عليه قال: حدثني الشيخ أبو محمد عبدالحق المكي في 21-2-1372هـ إجازة قال: ح.. قال أبو عبدالرحمن: وحدثني شيخي أبو تراب الظاهري رحمه الله تعالى بالإجازة العامة مشافهة عن أبيه عبدالحق إجازة قال: ح.. قال أبو عبدالرحمن: وحدثني الشيخ المذكور أبو محمد عبدالحق المكي الهاشمي العمري المدرس بالحرم المكي رحمه الله -وهو والد شيخي أبي تراب الظاهري- بمنزله بمكة المكرمة منذ خمسة وثلاثين عاما مشافهة وكتابة بالإجازة العامة لجميع مروياته قال: أجازني شيخنا أبو سعيد الحسن بن عبدالرحيم: عن السيد نذير حسين الدهلوي: عن الشاه إسحاق الدهلوي: عن عمر بن عبدالكريم: عن الشيخ محمد عابد السندي بنفس إسناده لكتب عبدالحق المدوَّن في حصر الشارد.. قال أبو عبدالرحمن: وبالإسناد المار الذكر إلى السيد نذير: عن عبدالرحمن بن محمد الكزبري: عن صاحب قطف الثمر الشيخ صالح بن محمد بن نوح العمري الفلاني المسوفي المغربي قال: رويت جميع كتب أبي محمد عبدالحق بن عبدالرحمن الأزدي البجائي رحمه الله تعالى بالإجازة عن شيخي محمد بن سِنَّة، وقرأت عليه الأحكام الصغرى من أوله إلى آخره، وقرأت عليه كتاب الأحكام الكبرى إلى كتاب الزكاة.. روى شيخنا ابن سنة كتب عبدالحق عالياً من مولاي الشريف محمد: عن محمد بن خليل (عرف بابن اركماش الحنفي): عن الحافظ ابن حجر العسقلاني: عن إبراهيم بن أحمد بن عبدالواحد التنوخي: عن محمد بن جابر الوادي آشي سماعاً، وقال: قرأت بعض الأحكام الصغرى من أولها على الشيخين أبي محمد عبدالله بن هارون، وأبي زيد عبدالرحمن بن الدباغ مفترقين، وناولانيها، وأجازانيها برواية الأول منهما لها عن الشيخين أبوي الحسن علي بن فاتح البجائي، وسهل بن مالك إجازة منهما له بسماع الأول من مؤلفها وإجازة الثاني منه.. وبرواية الثاني عن شيخي لها عن أبي يعقوب يوسف بن أبي بكر بن عيسى: عن المؤلف المذكور عبدالحق).

قال أبو عبدالرحمن: وقد أجازوني بروايتهم لكل الكتب المذكورة في الإثبات التي مر ذكرها، وإنما ذكرت الإمام عبدالحق نموذجاً، فأنا أروي كتب السنة والتفسير وكتب ابن حزم.. إلخ بهذه الأسانيد؛ وبهذا أجيزه.

والله أسأل أن يعلِّمنا ما ينفعنا دنيا وآخرة، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يعمر بقية أعمارنا بالعصمة والصحة والجد والنشاط فيما يُرضي ربنا تعلماً وعملاً وتعليماً، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وسلام على المرسلين.

***

(1) قال أبو عبدالرحمن: مُسْتَعِلُنْ (. هـ . . . هـ) في قوله: (يكتب فيها) ضرورة لغة تُخِلُّ بغناء اللحن الذي يُظهر الوزن، فإذا استقام الوزن اختلت اللغة، فكانت (يكتب) في الغناء هكذا (يكتاب فيهي)، وهذه الزحافات والعلل القبيحة لاحظها الخليل بن أحمد -رحمه الله- في ضرورة إقامة الغناء، لعلمه بألحان العرب سماعاً، ولأنه ألف في أصول الأنغام والموسيقا.. وأما من بعده -إلا مَن كان يُغني بشعره- فاعتمدوا على التقطيع البصري القبيح.

كتبه (محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل)

- أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري


 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة