Culture Magazine Monday  31/03/2008 G Issue 241
فضاءات
الأثنين 23 ,ربيع الاول 1429   العدد  241
 
هل مكتوبنا محتال؟!
سهام القحطاني

 

 

التعامل مع الكلام له خصوصية، وكون الكتابة مجرد كلام؛ فلا شك أنها تخضع لذات الخصوصية، وبما أن الكذب - التخيل سمة من سمات الكلام؛ فهو أيضاً سمة من سمات الكتابة. أكيد أن التقابل السابق لا يتساوى في بساطة الخاصية وعمقها ودرجة الوعي التي يُمارس بها داخل النص المكتوب، وخارجه بما فيه المحكي الشفهي الذي يُغلق بموجبه تنامي فعل الكذب - التخيل، وهذا هو الفرق بين النص المكتوب والمحكي والذي يؤثر على تطور الفعل القرائي أو محدوديته؛ فالنص المحكي الشفهي يكاد يكون محدوداً من حيث التطور القرائي؛ لأن ذهنية القارئ الشعبي الناقل لذلك المحكي لا يحرص على إضفاء خياله الخاص على المحكي الشفوي، لخاصية التوثيق المسبق الذي يتمتع به ذلك المحكي أو التكوين المعرفي السابق له، وكأن تلك الخاصية مزلاج يغلق النص أمام مؤثرات القارئ له ويحميه من تدخله؛ فهو للقراءة فقط، أما إذا أردنا النشوء الأولي للمحكي الشفهي فلا تختلف نسبة الكذب - التخيل كثيراً في محدودية تنشئته، باعتباره وُضع لتوثيق وتوصيف حالة، وهذا الاعتبار التأريخي ينقص من قيمة التخيل داخله. ونقطة أظن أنها تستحق التنويه، وهي أن حركة المحكي الشفهي هي نتيجة اختلاف الناقل له وليس تطور خطاب المحكي ذاته. والفرق بين المحكي الشفهي والمكتوب من حيث التخيل حديث طويل.

كما أن المكتوب يحمل مخططاً سابقاً كيف يكذب؛ مما يجعل الكذب جزءاً من الصنعة الفنية للكلام المكتوب، بل ومهارة مهمة من مهارات جودة الصنعة الفنية للمكتوب، ولعلي أزعم أن كلما أتقن المثقف الكذب زادت جودة صنعته؛ لأن الكذب وسيلة كسر الحاجز بين المعقول واللامعقول لإيجاد توافق واقعي من التصديق؛ أي العمل على تحول المختلق إلى خبر يخضع لمقياس الصدق والكذب. إنها أنسنة المختلق التي يمارسها المثقف عبر مهارة الكذب، وهي مهارة احترافية إتقانها مرتبط بجودة الصنعة الفنية للمكتوب.

ولكن الغرض من هذا الموضوع ليس الكذب - التخيل كصنعة فنية للمكتوب الإبداعي، بل الكذب الذي أقصده هو ممارسة الاحتيال الذي ينفذه المثقف عبر مكتوبه التوعوي والفكري والإرشادي والتحليلي والإعلاني. هل هذا يعني أن الكذب في المكتوب الإبداعي لا يمارس الاحتيال؟

أولاً أظن أن إجراء تقابل بين المكتوب الثقافي والمكتوب الإبداعي هو إجراء غير صحيح، والأمر الثاني أن هناك ضوابط ومواصفات لكي يصبح المكتوب الإبداعي مكتوباً ثقافياً، وما فهمته - عزيزي القارئ - من النقطة الأخيرة صحيح، هو أنني لا أعتبر المكتوب الإبداعي مكتوباً ثقافياً إلا بتوافر سقف معين من المواصفات والضوابط التي يحملها ويحققها.

والأمر الثالث أن المكتوب الإبداعي يتعامل مع النموذج المعيشي تعاملاً مجازياً لا يُشترط عليه ضابط المصداقية والواقعية والإحالة ومنطقية مراعاة الحالة كمكون معرفي؛ لأنه يسير دون ارتباط شرطي، ووفقاً لذلك فهو لا يخضع لمحاكمة إلا في ضوء نواقصه الفنية وحينها نتيجة المحاكمة إما التحصيل الجيد أو الضعيف لمحتواه. لكن الاحتيال هو حاصل محاكمة المكتوب الذي يتعامل مع النموذج المعيشي بصورة مباشرة كناقد وموجه ومحلل ومرشد ومُقوم لذلك النموذج، أي تطابق المكتوب مع الإحالة كمحتوى معرفي له وثائقه وأوعيته المعلوماتية وأسبابه ومراعاة نتائجه لوعي المتلقي وما يحققه له من إثراءات تساعده على إنتاج موقف لإصلاح تجربته المعيشية، وأي تلاعب في تفسير ذلك النموذج وحيثياته وسحب المتلقي إلى متاهة التأويل لغايات يضمرها مُصمم المكتوب الثقافي، كتغييب المتلقي عن مواجهة الواقع أو دفعه للمصادمة معه أو تزيين الاستسلام للواقع باعتباره أفضل نموذج متاح، أو تخويفه من اتخاذ القرارات الداعمة للتغير والتغيير، هو احتيال من قبل المكتوب الثقافي؛ لأنه يتعامل مع ردة فعل المتلقي مع غيبوبته الناتجة عن انفعالاته مما يدفعه إلى إنتاج تعبير يغلب عليه التطرف، والتعامل دائماً مع ردة فعل المتلقي أسهل من التعامل مع وعيه وأسرع في تحصيل جذب ذلك المتلقي؛ لأن كل ما يحتاج إليه المثقف هو مجرد الضغط بقوة على ردة فعل المتلقي من خلال استباحة النقاط المركزية للعقل الجمعي، وهو يعني أن المكتوب الثقافي لدينا يستغل فصائح أو نقاط ضعف العقل الجمعي لمصلحته وكسب الشهرة وليس لمصلحة إصلاح التجربة المعيشية والتوعوية للمتلقي، وهو احتيال آخر يمارسه المكتوب لمنفعة المثقف الخاصة، وقد يكون هذا هو السبب وراء غياب استراتيجية ممنهجة وواضحة للخطاب الإصلاحي في مكتوبنا الثقافي والتعويض عنها، عبر وصايا وتنظيرات وأحياناً هرطقات هي محتويات المكتوب الثقافي لدينا، لا تؤدي إلا إلى بعض اضطرابات ما تلبث أن تهدأ وتعود المياه إلى مجاريها.

واحتيال المكتوب الثقافي على ردة فعل المتلقي قد يعيق استجابته للتغير والتغير أو يؤخرها، أو العكس يجعله يتهور ويبالغ في الاستجابة، والناتج في الحالتين مضر، سواء تم عبر انفلات الضابط أو إغلاق الإدراك، مع غياب البديل الصحيح أي التعامل مع وعيه، كيف يختار، ولماذا حرية القرار والموقف والإنتاج، وهو طريق أحسبه صعب فنحن لا نزال نعاني من الثقافة النخبوية، ونفتقد المكتوب الثقافي الشعبي الذي يخاطب وعي المتلقي، يخاطب حالة اليقظة، التي تمكنه من استيعاب التخطيط الإصلاحي لتجربته المعيشية، المكتوب الذي يؤمن بحقوق المتلقي ويحترم قناعاته، لا المتاجرة بردة فعله؛ لأن التغير الناتج من ردة الفعل كارثة تضاف إلى فواتير التخلف، والتلاعب بردة الفعل لغرض التغير والتغيير يدفع إلى تشنج انفعال المتلقي؛ وبالتالي فإتمام فعل قبول الفكرة المطروحة عبر إحدى الانفعالات السابقة، التغيب والمصادمة والاستسلام والتخويف، غير مضمون، ولا منتج لموقف الإصلاح والتغير؛ فالانفعال ليس موقفاً بل حالة تعبير مؤقتة، ولا شك أن المكتوب الثقافي من خلال الرد التعبيري للمتلقي يحقق نرجسيته، إضافة إلى اعتقاد المثقف أن الضغط على ردة فعل المتلقي دون إيجاد الطرق السليمة للمناظرة مع أفكاره والتفاهم معها يحرق المسافات ويُسرع عملية التغير والتغيير وهي عجلة ضررها أكثر من نفعها، طبعاً لا يعني رفضي التعجل في التغيير تأييدي لمبدأ التسويف الذي يتبناه أصحاب الاستسلام للواقع باعتبار أن الواقع يمثل النموذج الأفضل المتاح، أو باعتبار أن الواقع لا يسمح بحركة تغيير.

بل علينا أن نخطط وأن نقرر الأولويات قبل الثانويات والتفاصيل قبل الكليات، وأن نمهد عبر القنوات الثقافية المختلفة لا عبر المكتوب الثقافي فقط، فهو أحد أشكال التمهيد، ودون تضافر مع الأشكال الأخرى لا يجدي الأمر، وإحساس المكتوب الثقافي بأنه فرض كفاية في مسألة التمهيد تلك الذي يحاول أن يسربه إلى المتلقي هو احتيال آخر يمارسه.

وقد تكون الصدمة التي يتبناها مكتوبنا الثقافي مجدية إلى حد ما في حركة الوعي لكنها غير رئيسة في تفعيل التحول؛ ولذا فهي بمفردها لا تحقق أي شيء دون تفاهم صريح مع الوعي ذاته وقناعاته، وحيناً تصبح الصدمة مصدر الاحتيال في المكتوب الثقافي حينما تحرق عظام الموتى لتوحي للآخرين بأن البشر يحترقون أحياء! أي المبالغة والتضخيم.

حتى لو نجحت الصدمة في استفزاز ردة فعل المتلقي فسيكون ناتجها دفاعياً لا استجابة، وخطرها قد يؤدي إلى الهجوم على ذلك المكتوب وعدائه ومصادرته؛ وبالتالي يخسر المكتوب رهانه على تفعيل التأثير والتغيير.

****

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة«7333» ثم أرسلها إلى الكود 82244

- جدة


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة