Culture Magazine Monday  31/03/2008 G Issue 241
فضاءات
الأثنين 23 ,ربيع الاول 1429   العدد  241
 

أول كتاب«2»
د. ملكة أبيض

 

 

جدير بالذكر أنني اضطررت للقيام بالمعالجة الكمية يدوياً لأن استخدام الحاسوب لم يكن منتشراً في دمشق آنذاك، وقد تضمنت هذه المعالجة وضع 37 جدولاً إحصائياً، و22 رسماً بيانياً بأشكال مختلفة، وتسع خرائط لدمشق والشام والعالم الإسلامي في ذلك العصر.

وسأتوقف الآن لذكر بعض الشواهد والأمثلة المستقاة من ابن عساكر:

فيما يتعلق بتعليم الكتابة، عمد المسلمون بعد فتح الشام مباشرة إلى إرسال أبنائهم لتعلم الكتابة في الكتاتيب القائمة والتي كان يديرها المعلمون النصارى، على ما يبدو، وذلك قبل افتتاح الكتاتيب القرآنية.

جاء في ترجمة أدهم بن محرز: إني أول مولود في الإسلام بحمص، وأول مولود فرض له بها، وأول مولود رئي في كتف يختلف بها إلى الكُتّاب، أتعلم الكِتاب.

وفي ترجمة إياس بن معاوية: كنت في مكتب بالشام، وكنت صبياً. فاجتمع النصارى يضحكون من المسلمين (بشأن الطعام في الجنة دون طرح الفضلات...).

وكان المعلمون، الذين يسمون بالمكتّبين، يعلمون الكتابة عن طريق نسخ الأمثال والحكم. كما يتبين من ترجمة هجيمة بنت حيي، أم الدرداء التي جاء فيها:

قال عبدربه بن سليمان: كتبت لي أم الدرداء في لوحي فيما تعلّمني:

تعلموا الحكمة صغاراً تعملوا بها كباراً،

إن لكل حاصد ما زرع من خير أو شر.

وفيما يتعلق بتعليم القرآن، جاء في ترجمة عبادة بن الصامت:

قال محمد بن كعب القرظي: (... ولما كان عمر، كتب يزيد بن أبي سفيان: إن أهل الشام كثير، وقد احتاجوا إلى من يعلِّمهم القرآن ويفقههم. فقال عمر لأصحابه: أعينوني بثلاثة. فقالوا: (عن أبي أيوب الأنصاري) هذا شيخ كبير، (وعن أبيّ بن كعب) هذا سقيم. فخرج معاذ بن جبل، وعبادة بن الصامت وأبو الدرداء. فقال عمر:

ابدؤوا بحمص، فإن رضيتم عنها فليخرج واحد إلى دمشق وآخر إلى فلسطين. فأقام عبادة بحمص، وخرج أبو الدرداء إلى دمشق، ومعاذ إلى فلسطين. ومات معاذ عام طاعون عواس، فصار عبادة بعدها إلى فلسطين ومات بها. ولم يزل أبو الدرداء بدمشق حتى مات).

كان أبو الدرداء يسمى قارئ الشام. وقد قام بالمسؤولية التي كلفه بها الخليفة بصورة تثير الإعجاب.

قال أبو عبيدالله، مسلم بن مشكم: قال لي أبو الدرداء: أعدد من يقرأ عندنا، يعني في مجلسنا هذا. فعددت ألفاً وست مائة ونيفاً. فكانوا يقرؤون ويتسابقون عشرة عشرة، لكل عشرة منهم مقرئ، وكان أبو الدرداء قائماً يستفتونه في حروب القرآن، يعني المقرئين، فإذا أحكم الرجل من العشرة القراءة تحول إلى أبي الدرداء.

وكان أبو الدرداء يبتدئ في كل غداة إذا انفتل من الصلاة، فيقرأ جزءاً من القرآن، وأصحابه محدقون به يستمعون ألفاظه، فإذا فرغ من قراءته قام كل رجل منهم إلى موضعه وجلس على العشرة الذين أضيفوا إليه. وكان ابن عامر (عبدالله بن عامر اليحصبي) مقدماً فيهم.

وقبل أن تأتيه الوفاة (32هـ -653م)، أوصى أبو الدرداء، معاوية بن أبي سفيان، والي الشام في حينه، بتعيين فضالة بن عبيد الأنصاري (صحابي ت 59هـ - 679م) في المنصبين اللذين يشغلهما بعد وفاته، وهما الإقراء والقضاء. فعمل معاوية بذلك.

وقد ورد ذكر (مشيخة الجند) و(قارئ الجند) في مواضع متعددة من (تاريخ مدينة دمشق)، خلال تلك الفترة، مما يعني إنشاء وظيفة رسمية تحمل هذا الاسم.

جاء في ترجمة عطية بن قيس الكلابي (7- 110هـ - 629-739م)، أنه كان قارئ الجند. وكان الناس يصلحون مصاحفهم على قراءته وهو جالس (أو وهم جلوس) على درج الكنيسة في مسجد دمشق قبل أن تهدم.

وفيما يتعلق بمواد الدراسة في هذه الفترة المبكرة، يبدو أنها تضم إلى جانب الكتابة والقرآن، الحديث والشعر:

جاء في ترجمة أشعب: .... لما دخلت الكتاب قتل عثمان، فلما تعلمت القرآن قتل علي، فلما تعلمت الشعر قلت الحسين.

وجاء في ترجمة واصل، وهو رجل من أهل دمشق: أسر غلام من بين (بطارقة) الروم. فلما صار إلى دار الإسلام، وكان ذلك في ولاية بني أمية، أخذه الخليفة وسماه بشيراً، وأمر به إلى الكتاب، فكتب وقرأ القرآن، وروى الشعر، وطلب الحديث، وحج.

وجاء في ترجمة عمرو بن ميمون بن مهران (ت 45هـ-763م) أنه كان مؤدباً يعلم القرآن والنحو بحصن مسلمة.

بالإضافة إلى التربية العامة التي كانت مناهجها تتسع لتضم النحو والشعر والحديث إلى جانب القرآن والكتابة، كانت هناك تربية خاصة لأبناء الطبقة العليا، يقوم عليها مؤدبون يختارهم الخليفة أو الأمير أو الوالي، ويحددون لهم مواد الدراسة وطرائق التدريس، التي تؤهل الأبناء لخلافة آبائهم في هذه المناصب العليا.

حتى أن ترجمة خالد بن يزيد بن معاوية تذكر أنه تعلم علم العرب والعجم، مما يعني أنه حصل على تنشئة علمية إلى جانب التنشئة الدينية واللغوية والأدبية.

وفي إطار هذه التطورات تجدر الإشارة إلى انتشار العربية في صفوف الموالي، حتى أنهم أصبحوا من معلميها، كإسماعيل بن عبيدالله بن أبي المهاجر الذي اختاره الخليفة عبدالملك بن مروان لتعليم أبنائه العربية. وفي ترجمة (رجل فصيح)، يذكر ابن عساكر أن الخليفة عبدالملك سأل يوماً رجلاً دخل عليه: أمن العرب أنت أم من الموالي؟ فأجاب الرجل: يا أمير المؤمنين، إن تكن العربية أباً فلست منها، وإن تكن لساناً فأنا منها. فأعجب الخليفة بهذا الجواب.

هناك ملاحظات عدة بشأن التربية في عهد عمر بن عبدالعزيز، منها أن الخليفة طلب من ولاته أن يعطوا العلماء من بيت المال لينصرفوا إلى التعليم في المساجد، ذلك أن العطاء كان قد أوقف عن غير المحاربين. وبما أن أهل العلم كانوا قلة بين البدو، فقد بعث إلى هؤلاء علماء كباراً يعلمونهم القرآن ويفقهونهم في الدين وفيهم الحارث بن يمجد الأشعري ويزيد بن عبدالرحمن (أبي مالك).

وقد شهد عصر عمر اتساع حركة الدخول في الإسلام بفضل إعفائه الداخلين في الإسلام من الجزية. لذلك عمد الخليفة إلى إرسال العلماء للبلاد المفتوحة لنشر التعليم الإسلامي بين أهلها. ومثال ذلك تكليفه إسماعيل بن عبيدالله بن أبي المهاجر بولاية إفريقية، وإرساله إليها مع عشرة من كبار الفقهاء لتعليم أهلها. وقد أعطت هذه السياسة نتائج باهرة، فقد أسلم معظم أهل إفريقية آنئذ.

كما اهتم هشام بن عبدالملك بتعليم الحديث. يذكر في هذا المجال أنه كلّف ابن شهاب الزهري تدريسه لأبنائه في الرصافة، حيث كان يقضي معظم أيامه. وهناك كان المحدث الكبير يروي الأحاديث، وكان كتاب الخليفة يسجلونها، كما كان عدد من الأمراء والمقربين يستمعون إليها ويحفظونها. وهكذا انقلب قصر هشام إلى مدرسة حقيقية للحديث تجاوز إثرها الرصافة والشام إلى بقية أقطار العالم الإسلامي. كما اهتم هشام بجوانب ثقافية أخرى ومنها الفروسية والشعر والنحو والأنساب والأمثال والأخبار.

هذه الجوانب ازدهرت فيما بعد أيما ازدهار. والرجل الذي برز في هذا الميدان هو حمّاد بن أبي ليلى، الملقب بالراوية (95-155هـ - 714-774م) فقد طاف في البادية باحثاً عن هذه الموضوعات للتقرب بالدرجة الأولى من الخليفة والأمراء، وقد غدا حماد الرواية الصاحب المفضل ليزيد الثاني، بحسب ابن عساكر.

لقد نجح الحكام آنئذ في التوفيق بين العناصر الدينية واللغوية - الأدبية في الثقافة، وإبراز أهمية اللغة العربية بشكل خاص. فمما يذكر ابن عساكر في ترجمة عمر بن هبيرة الفزاري والي عمر بن عبدالعزيز على الجزيرة، أنه قال: (والله ما استوى رجلان دينهما واحد وعقلهما واحد ومروءتهما واحدة، أحدهما يلحن والآخر لا يلحن. إن أفضلهما في الدنيا والآخرة الذي لا يلحن، فقاطعه مسلم بن قتيبة قائلاً: أصلح الله الأمير! هذا أفضل في الدنيا لفضل فصاحته، أما الآخرة فما باله أفضل فيها؟ فردّ عليه: إنه يقرأ كتاب الله على ما أنزله الله، وإن الذي يلحن يحمله لحنه على أن يدخل في كتاب الله ما ليس فيه، ويخرج منه ما هو فيه، قال مسلم: صدق الأمير).

وقد سار العباسيون فيما بعد على نفس النهج، لا بل إنهم وسعوا نطاق الثقافة العربية- الإسلامية لتشمل العلوم القديمة التي كانت تسمى علوم الأوائل.

يذكر ابن عساكر عن الرشيد (وقد كان قريباً جداً في الشام، يحج سنة، ويجاهد سنة في الثغور الشمالية، وقد سكن فترة في الرقة)، يذكر أنه حين التقى الرشيد بالشافعي أول مرة أعجب بفصاحته، وذكائه. فسأله عن معارفه في موضوع القرآن، ثم الفقه، ثم الطب، ثم النجوم، ثم الشعر، ثم أنساب العرب. وعندما سمع منه ما سرّه سأله أن يعظه، ثم أمر له بخمسين ألفاً وبفرس حمل عليها وركب بين يدي الخليفة.

وهكذا نرى أن نظام التعليم بدأ يتكوّن منذ الفتح، ويستقي مواده من عناصر ثقافية ثلاثة: الإسلام، والتراث العربي التقليدي، وجوانب العلم والعمل المستفادة من المنطقة المفتوحة.

فعلى المستوى الابتدائي كان الصبيان يتعلمون الكتابة والقرآن ومبادئ النحو. وحين كانوا يتمكنون من هذه المواد والمهارات كان بعضهم يسمع الشعر والحديث، ويستمر قسم منهم في الدراسة ويتعمق في واحدة أو أكثر من المواد الدينية، أو اللغوية - الأدبية، أو العلمية. وهذا التعمق في بعض المواد يقابل الدراسات العليا في أيامنا.

أما فيما يتعلق بمؤسسات التعليم، فقد كان هناك كتاب لتعليم الكتابة، يعلم فيه المكتب، ثم الكتاب القرآني ويعلم فيه المقرئ، وإلى جانب هذا وذاك كان هناك الحصن أو المسلحة أو المسجد الذي يعلم فيه قارئ الجند أو فقيه الجند المكلف رسمياً بهذه المهمة. وكل من هؤلاء المعلمين كان يبتكر طريقته الخاصة في التعليم ومثال أبو الدرداء أوضح دليل على الكيفية التي استطاع بها تعليم القرآن لأكبر عدد من الطلبة في أقصر وقت ممكن، وبكفاءة عالية، ومثال أم الدرداء في تعليم الكتابة ظل يحتذى حتى فترة قريبة.

هذه أمثلة وشواهد مقتطفة مباشرة من المرجع، أما نتائج البحث الكمي فهي تحتاج إلى مقال مستقل.

-دمشق


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة