Culture Magazine Monday  28/01/2008 G Issue 231
الملف
الأثنين 20 ,محرم 1429   العدد  231
 
(مصادر الشعر الجاهلي) لناصر الدين الأسد والرد على طه حسين
د.إبراهيم الكوفحي

 

 

ثلاثة كتب تبحث في قضية الشعر الجاهلي، ظهرت خلال القرن (العشرين) الماضي، أحسب أنها أهم ما صنف في هذا الموضوع الشائك الصعب، وهي بلا شك ستظل على مر الأيام منارات بارزة لدارس الشعر الجاهلي، بحيث يكون من الصعوبة أن يتلمس هذا الدارس طريقه، وهو في منأى عن ضوئها، وما تكشف عنه.

فأما الأول، فهو كتاب الدكتور طه حسين (في الشعر الجاهلي) 1926، الذي هو في الأصل محاضراته التي كان يلقيها على طلبته بالجامعة المصرية منذ أواخر سنة 1925، ثم رأى غبَّ ذلك جمعها وإذاعتها على الناس في كتاب.

وأما الثاني، فهو كتاب أستاذنا الدكتور ناصر الدين الأسد (مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية) 1956، الذي هو في أرومته الأولى بحث نال به العلامة الأسد درجة الدكتوراه في الأدب من جامعة القاهرة، بتقدير ممتاز سنة 1955م.

وأما الأخير، فهو كتاب الأستاذ محمود محمد شاكر (نمط صعب ونمط مخيف) 1996، وكان قبل أن يجمع بين دفتي كتاب قد نشر منجماً في سبعة مقالات في مجلة (المجلة) خلال سنتي (1969-1970).

وعندي أن أهمية الكتاب الأول (في الشعر الجاهلي) ليست من الناحية العلمية، فلا جرم أنه من هذه الناحية ليس بذي غناء، أو كما يقول الدكتور الأسد: (إنه أقل الكتب حظاً من العلم، وأبعدها عن منهجه وتحقيقاته)، وحسبي أن أومئ، ها هنا، لأجل التدليل على صواب هذا الحكم الذي أضحى من البداءة الجلية في ميدان الدراسة الأدبية، إلى الكتب التي ألفت في الرد عليه، وتفنيد ما تضمنه من آراء وأحكام، أو التي تطرقت، فيما تطرقت، إلى نقده ونقضه، ومن ذلك على سبيل المثال:

- نقد كتاب الشعر الجاهلي، لمحمد فريد وجدي.

- نقض كتاب في الشعر الجاهلي لمحمد الخضر حسين.

- النقد التحليلي لكتاب في الشعر الجاهلي، لمحمد أحمد الغمراوي.

- الشهاب الراصد، لمحمد لطفي جمعة.

- تحت راية القرآن، لمصطفى صادق الرافعي.

- مقالات في الشعر الجاهلي، ليوسف اليوسف.

- قضايا الشعر الجاهلي، لعلي العتوم... إلخ.

ولكن أهميته الحقيقية، في نظري، إنما تكمن في أنه كان السبب الرئيس في هذه العناية الخاصة التي نالها الشعر الجاهلي منذ منتصف العشرينات من القرن السالف حتى يومنا هذا، والتي تتمثل في عشرات الكتب والدراسات والمقالات التي تتحدث عن الشعر الجاهلي، وتبحث فيه، وتتناول جوانبه المختلفة، ولعل أهميته إنما تبرز، على وجه الخصوص، في أنه كان الدافع الأول لتأليف أهم كتابين، من الناحية العلمية والمنهجية، تناولا الشعر الجاهلي في العصر الحديث، وأقصد بذلك: (مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية) و(نمط صعب ونمط مخيف)، إذ كانا ردين متكاملين على أطروحة الدكتور طه حسين، وما انتهى إليه من أن الكثرة المطلقة مما نسميه شعراً جاهلياً ليست من الجاهلية في شيء، وإنما هي منتحلة (كذا) مختلقة بعد ظهور الإسلام، وإن كان مؤلفاهما لم يفصحا، بطبيعة الحال، عن هذه النية في الرد على أستاذهما طه حسين، لاعتبارات كثيرة.

ويبدو لي أن ثمة وجهين لهذه العلاقة التي تربط بين كتاب الدكتور الأسد وكتاب أستاذه طه حسين: وجه ظاهر مستبين، ووجه خفي دفين.

فأما الأول، فهو ما تدل عليه السطور الأولى من مقدمة كتاب الدكتور الأسد، وذلك قوله: (... ثم قرأت قبل دخولي الجامعة، كتاب الأستاذ الدكتور طه حسين في الشعر الجاهلي ففتح أمامي آفاقاً فسيحة من التفكير، ودفعني إلى أن أنظر في هذا الشعر نظر المتسائل عن قيمته وصحته، وحملني على أن أستقصي الموضوع من جذوره، وأتتبعه من جميع أطرافه).

وحري بالذكر أن هذه الحالة التي لازمت الدكتور الأسد منذ قراءته الأولى لكتاب (في الشعر الجاهلي) هي الحالة عينها التي لازمت الأستاذ محمود محمد شاكر، وهو يومئذ طالب في قسم اللغة العربية بالجامعة المصرية، يسمع محاضرات أستاذه طه حسين (في الشعر الجاهلي)، حتى كانت هذه المحاضرات سبباً مباشراً في الخلاف المشهور بينه وبين أستاذه، الذي أدى بآخره إلى أن يفارق (التلميذ) الجامعة، وهو لا يزال في السنة الثانية، قبل أن يتم دراسته فيها.

وقد أشار الأستاذ محمود شاكر إلى هذه الحالة التي رافقته منذ دخوله الجامعة، والتي تحور إلى آراء الدكتور طه حسين حول الشعر الجاهلي، في أكثر من مكان، يقول على سبيل التمثيل: (... مضت أعوام طوال، وأنا أدور في مسارب مختلفة من الآداب والعلوم، ولكن الذي بقي يشغلني، في أغمض قرارة من نفسي، بل في حياتي كلها، إنما انشق عن (محنة الشعر الجاهلي)، وأنا بعد فتى صغير أخضر، غر بين الغرارة كسائر زملائي في الدراسة، مضيت في غلواء الشباب ألتمس العلم والمعرفة والشعر، وأخوض الغمرات التي يخوضها الجيل الذي أنا منه، فمن حيث لا أدري ولا أتعمد، صارت كل معرفة أكتسبها، وكل علم أقتسبه، وكل تجربة أخوضها، وكل إحساس أنتفض له، كأنه رتق لهذا الفتق).

وأما الوجه الآخر الخفي، فهو ما يرمي إليه الدكتور الأسد من مصادر الشعر الجاهلي، وهو الرد على ما ذهب إليه الدكتور طه حسين من الشك في صحة الشعر الجاهلي، وأنه شعر منحول وضعه الرواة في الإسلام، ولعل الناظر، أول وهلة، ربما يرى خلاف هذا الرأي، إذ كانت الثلاثون سنة التي تفصل بين الكتابين (1926-1956م) وهي مسافة زمنية رحيبة، إلى حد ما، زعيمة بأن تنفي عنه كونه كتاباً في الرد، ولا سيما أنه يختلف اختلافاً ظاهراً عن الكتب التي تلقت كتاب الدكتور طه حسين، فور صدوره، بالتفنيد والنقض، فضلاً عن أن مؤلفه لم يفصح هو نفسه عن هذه الطوية أو هذا الهدف.

وفي الحق أن فهم الدكتور الأسد لقضية الشك في صحة الشعر الجاهلي التي أثارها الدكتور طه حسين في كتابه، ومن قبله طائفة من المستشرقين، على رأسهم مرجليوث في مقالته المعروفة (نشأة الشعر الجاهلي) التي نشرها في مجلة الجمعية الملكية الآسيوية، كان من الشمول والعمق، إذ كانت القضية عنده مرتبطة ارتباطاً متيناً بمعضلة (المنهج)، منهج دراسة الشعر الجاهلي، ولم تكن مرتبطة، بالدرجة الأولى، بمجمل الآراء والأنظار التي يقررها طه حسين، والتي تفهق بالأوهام والأخطاء، ومن هنا باين منهجه مناهج الألى سبقوه في الرد على طه حسين، والتي تنتحي على النظرة الجزئية إلى المسألة، والتعليق الوشيك، واستخدام العنف اللفظي أحياناً، كما يتجلى ذلك في أسلوب الرفاعي خاصة، في مقالاته التي يرد فيها على طه حسين، وانضم عليها كتابه (تحت راية القرآن).

ولذلك آثر الدكتور الأسد أن يبدأ الطريق من أوله، (... وقضيت أربع سنوات أخرى، خرجت فيها بهذا البحث لدرجة (الدكتوراه)، وأنا مقتنع بأن هذا الموضوع الذي أبحثه هو الخطوة الأولى الصحيحة التي تسبق كل خطوة غيرها، في سبيل دراسة الشعر الجاهلي، وأن بحث هذا الشعر بحثاً مجدياً لا يتم إلا عن طريق دراسة خارجية أولاً، تعنى بمصادره جملة في مجموعها، وتبحث رواية هذه المصادر وتسلسلها، ورواتها ومدى الثقة بهم، ثم تتبع المصادر الأولى التي استقى منها أولئك الرواة، خطوة خطوة، حتى تصل بين هؤلاء الرواة والشاعر الجاهلي نفسه، وكل دراسة قبل هذه إنما هي تجاوز عن الأصل الأول الذي لا بد من البدء به).

وهذه الخطوة الجريئة والجديدة في ميدان دراسة الشعر الجاهلي، التي آثر الدكتور الأسد أن يخطوها، على ما تتطلبه من جهد وصبر، إنما جاءت بعد استعراض واسع ودقيق لمجمل ما كتب عن الشعر الجاهلي من قبل، ولا سيما ما كتب في إطار الرد على طه حسين، فلم يجد الدكتور الأسد مقنعاً في كبر ذلك، وظلت فكرة المعالجة الجذرية للمسألة هي التي تحركه، وتوجه قراءاته لهذا الشعر، وغيره من متعلقاته الجمة من عناصر تراثنا العربي والإسلامي.

ولهذا كان حريصاً أشد الحرص على أن يخفي كل ما من شأنه أن يجعل عمله يفهم على أنه رد مباشر على كتاب الدكتور طه حسين، لإثبات صحة هذا الشعر المنسوب إلى الجاهلية، خشية أن ينسحب على كتابه ما يقال عن تلك الكتب التي سبقته في الرد عليه، مما يكشف عن إدراك عميق لطبيعة المزالق التي وقعت فيها هذه الردود، وعن محاولة واعية لتجنب هذه المزالق، سواء على صعيد المنهج أو الأسلوب. ولا ريب أن هذا ما يفسر لنا مثل قوله: (وقد بذلت أقصى الجهد في أن أنهج نهجاً علمياً خالصاً، لا أميل مع هوى، ولا أتعصب لرأي، ولا أعتسف الطريق من أمامي اعتسافاً، بل لعل من الصواب أن أذكر أني حين دخلت في الموضوع، لم يكن نصيب عيني غاية بذاتها أتوخاها وأرمي إلى إقامة الدليل عليها، غير الغاية المجردة التي سينتهي إليها البحث الموضوعي وحده).

وأحسب أن اختيار الدكتور الأسد لهذه الخطوة الضرورية في دراسة الشعر الجاهلي، والتي سلفت الإشارة إليها، هي التي جعلت الأستاذ شاكراً يخطو خطوة أخرى في دراسة هذا الشعر، انطلاقاً من النقطة التي انتهى إليها الدكتور الأسد، كما يتجلى ذلك في دراسته (نمط صعب ونمط مخيف) التي آثر فيها طريق الدراسة الداخلية للشعر الجاهلي من خلال تحليله العميق لقصيدة (إن بالشعب الذي دون سلع) وإثبات جاهليتها من هذه السبيل خاصة، إذ أدرك أن الدكتور الأسد قد أوفى على الغاية في دراسة موضوعه، وليس ثمة زيادة لمستزيد، وهو أخبر الناس، بلا مثنوية، بالشعر الجاهلي خاصة، وبتراث العربية عامة، فكان خليقاً به أن يتجاوز ذلك إلى ما يكون مكملاً لجهود الدكتور الأسد، في إثبات صحة الشعر الجاهلي من جهة، وحل كثير من المعضلات التي تتصل بدراسة هذا الشعر من جهة أخرى، وها هو في سياق حديثه عن خلف الأحمر، يقول الأستاذ شاكر: (... وهذا باب واسع، والقول في صدق خلف، أجاد في تخليصه أحد أصحابنا، وهو الدكتور ناصر الدين، في كتابه (مصادر الشعر الجاهلي).

إن (مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية)، للدكتور ناصر الدين الأسد، في رأيي، من أهم الكتب التي ألفت في الرد على كتاب الدكتور طه حسين (في الشعر الجاهلي)، ولكنه رد غير مباشر، أي من خلال تقديم دراسة للشعر الجاهلي تنهض على منهج علمي بديل ينتهي إلى النقيض مما انتهى إليه الدكتور طه حسين في كتابه، وها هنا تتجلى قيمة هذا الكتاب وأهميته، سواء في مقارنته مع كتاب (في الشعر الجاهلي) نفسه، أو مقارنته مع الكتب التي تصدت للرد على هذا الكتاب كفاحاً، إذ هي لا تكاد تذكر بالقياس إلى كتاب الدكتور الأسد، الذي لا يكاد يخلو كتاب لا حق يعرض للشعر الجاهلي من إشارة إليه، أو إفادة منه، أو حوار معه.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة