Culture Magazine Monday  28/01/2008 G Issue 231
الملف
الأثنين 20 ,محرم 1429   العدد  231
 

ناصر الديّن الأسد العالم المتحرّز
د . عمر الفجاوي

 

 

إنّ من تمام حق الشيخ على تلميذه ومريده أن يتحدّث عنه وينشر علمه الذي أخذه منه، فهذا صنيع نبيل يردّ به المريد جزءاً من الأيادي السّابغات التي أسداها إليه أسْتاذه، إذ ليس من العدل أن يظلّ علم الشيخ وشيجة بينه وبين تلميذه فقط، فهذا نكوص وإركاس، ومن أين للآخرين أن يتعرّفوا على هذه الفوائد والذّخائر والنّفائس إذا بقيت حبيسة في صدور أناس معدودين.

وإنّما قدّمت هذه التقدمة وأنا أتذكّر أنّ الليث بن سعد كان أستاذ مالك بن أنس، ولكن لم يشع علمه بسبب تلاميذه الذين لم يفعلوا، فكان -رحمه الله- أعلم من مالك، ولكنّ أصحابه قعدوا به.

وتقتضي الحكمة أن نسأل الله تعالى أن يوالي عطفه وحنانه، ويرادف خيراته وبركاته على شيخنا ومعلمنا صاحب المعالي الأستاذ الدكتور ناصر الدين الأسد الذي يفرض بتقواه لله أولاً، ثمّ بنفيس علمه ونبيل سجاياه على مريديه أن يأخذوا ما يقول بقوّة، وأحسب أن الفضل ينبغي أن يزجى إليه، في المقام الأوّل؛ لأنّ الذي يحضر مجالسه العلمّية يرى نفسه أمام عالم ربّاني، قد تأتّى له من الخُبر والتجربة ومداورة الشؤون ما تأتّى لأولئك الألي من علمائنا المجدودين في القرون الأولى، فهو يرعى تلعات العلم، ويجمع أشتات النثر والنّظم، وتضرب إليه آباط الإبل.

وقد تخيّرت الكلام على تحوّط الشّيخ وتحرّزه في اصطفاء الألفاظ، وحالنا في هذا الزّمان كما كانت الحال يوم كتب ابن قتيبة الدّينوري أدب الكاتب، في القرن الثالث الهجريّ، فيقول: (فإنيّ رأيت أكثر أهل زماننا هذا عن سبيل الأدب ناكبين، ومن اسمه متطيّرين، ولأهله كارهين، أمّا الناشئ منهم فراغب عن التعليم، والشادي تارك للازدياد، والمتأدّب في عنفوان الشباب ناسٍ أو متناسٍ، ليدخل في جملة المجدودين... فالعلماء مغمورون، وبكرّة الجهل مقموعون، حين خوى نجم الخير، وكسدت سوق البرّ، وبارت بضائع أهله، وصار العلم عاراً على صاحبه، والفضل نقصاً، والجاه الذي هو زكاة الشّرف يباع بيع الخَلَق، وآضت المروءات في زخارف النّجد وتشييد البنيان، ونبذت الصّنائع، وجهل قدر المعروف، وماتت الخواطر، وسقطت همم النّفوس.. فأبعد غايات كاتبنا في كتابته أن يكون حسن الخطّ قويم الحروف، وأعلى منازل أديبنا أن يقول من الشّعر أُبيّاتا في مدح قينة أو وصف كأس..، ثمّ يعترض على كتاب الله بالّطعن وهو لا يعرف معناه، وعلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتّكذيب وهو لا يدري من نقله، قد رضي عِوضاً من الله وممّا عنده بأن يقال: فلان لطيف وفلان دقيق النّظر..

فالحمد لله الذي أعاذنا وشيخنا من هذه الرّذيلة، وأباننا بالفضيلة، وحبانا بِخيِم السّلف الصّالح، وردّانا رداء الإيمان، وغشّانا بنوره، وجعله هدى من الضلالات، ومصباحاً في الظّلمات.

كما نحمده تعالى مثنى وثلاث ورباع أنّنا تعلمنا من شيخنا ألاّ نستطيب الدّعة، ونستوطئ مركب العجز، فلا نعفي أنفسنا من كدّ النّظر، وقلوبنا من تعب التفكّر.

وإنّ ممّا يشعر المريد في حضرة الشيخ بهيبة العلم ووقار العلماء أنه أمام عالم يحسن تخير كلمه، فلا يرسله على عواهنه كيفما اتفق، بل يضع اللفظة في موضعها الأليق بها، ويجتبي أفخر التراكيب وأزهاها فتكون عباراته سائغة تستقر في الأذهان والألباب، ولا تشوبها شائبة الغموض، ولا يشغب عليها شاغب النّقص، وكأنّ الشاعر قد عناه بقوله:

فليس ابن العميد له بندّ

وليس البحر يشبهه الغَديرُ

وقد تحدّث الأستاذ الأسد عن هذه القضيّة في مقدّمة كتابه البهيّ (تحقيقات لغوّية) فيقول: (كانت الكلمة- من حيث هي لفظة مفردة ومن حيث هي لبنة في بناء نظم الجملة - موضع شغفي: بإيحاءاتها وموسيقاها وألوانها وظلالها وامتداداتها، منذ صباي المبكّر، حتّى لقد كنت أحس أحياناً كأنّ اللفظ كائن حيّ، أحاوره وأدواره، ويجاورني ويداورني، قبل أن يستقرّ في موضعه من الجملة وأرفع عنه قلمي).

فهو يعلن - كما أشرنا- أنّ اللفظة تشغله، ولا تهدأ نفسه حتّى يجد لها سياقاً لغويّاً يحتفي بها، ولعلّ القارئ لأعمال الشيخ يلقى صدق ما قال، فلو اقترأنا مصادر الشعر الجاهليّ وقيمتها التاريخية مثلاً، في حديثه عن الجزيرة العربية والعرب: (..كانت تسيح هذه الأمّة العريقة في الأغوار والأنجاد، وفي السّهول وفوق قنن الجبال، وفي أجواف الصّحارى.. ففيها شواظ من لهيب الحرّ يشوي الوجوه، وسموم تلوّح الأبدان، وفيها ثلوج تكلّل الجبال.. تقوم على حفافِيها مدن وقرى..).

فإذا تدّبرنا هذا المقتبس - ومثله كثير في كتابات الشيخ - ألفيناه وقد جعل اللفظ حيّاً يسير على الألسنة بعد أن كان مغمراً في المعاجم أو في شعر شاعر جاهليّ قديم، فاستعمل الأنجاد والقنن، وإنّ الامتاع الذي يتحصل للقارئ قادم عندي من قلة استعمال الباحثين مثل هذه الألفاظ، مدّعين أنّها غريبة أو وحشيّة، ولا تناسب الزمان، وهذا - والله وهم، بل هو الوهم الأكبر.

ثمّ انظر إليه وقد أتى فيما اقتبسنا بلفظ قرآني هو شواظ، وجعله مسطوراً في محلّه الأصوب، علماً بأنّ كل الناس يقرؤون هذا اللفظ ويتعبدون به، ولكن قلة من العلماء - من أمثال الشيخ - يتنبّهون عليه ويضعونه في سياقه.

وما أجمل التركيب القرآني - يشوي الوجوه- إذ وهب للسّياق قيمة جزيلة لأنّ حال تلكم الصّحراء في الجزيرة العربية يصلح لها هذا التركيب القرآنيّ، فشيخنا يحسن نقل اللفظ والتركيب من سياقهما القرآني أو الشعريّ أو حتّى المعجميّ إلى سياق جديد يمنحهما حياة وتفاعلاً مع النّص الجديد، فلو حقَّقنا في لفظة (حفافيها) لتبدّى لنا أنّها استعملت الاستعمال وفق المعجم ووفق ما أراده العرب..

كأنّ جناحَيْ مضرحيّ تكنّفا

حِفافيه شكّا في العسيب بمسردِ

ففي هذا البيت من معلقة طرفة، جاء الاستعمال الصّواب، ولكنّ النّاس في زماننا -إلاّ أقلّهم- يستعملون حافّة بتشديد الفاء، وهذا أمر غلط.

ولو تتبّعنا كتاب الشّيخ (تحقيقات لغويّة) لبدا لنا كذلك صدق ما تقدّم (معاجم ومعجمات ونوادٍ وأندية ووديان وأودية وحماس وحماسة وأعراب وبادية والعشرينات والعشرينيّات) فالاستقصاء سِمة غلاّبة على أستاذنا، وهو يتقن محاورة النّص وتقليبه وقراءته في كلّ أقطاره، وهذا ليس أمراً سهلاً، فان يقرأ كتب التّراث حتى يجد فيها استعمال لفظ ما أمر وعر، ولكنّ في شيخنا خلقا علميّا وعراً، فهو ذو همّة شمّاء، لا تقنع بالقليل ولا تربع إلاّ بالتمّام، ومن يقرأ بحثه النّفيس المشعّ (أعراب وبادية) يجد مقدار الإصر والعنت اللذيّن تحمّلهما الشيخ، وهو يستخرج شواهد هاتين اللفظتين في القرآن والحديث والشعر.

إن اللفظ لم يكن عند الشيخ هدفاً أو مسعى يسعى إليه، بل هو غاية ووسيلة يحسن توظيفها في مكانها الدّقيق، لذا فعنده من الحيطة ما يصل حدّ القلق والحذر من أن يسيء استعمال لفظة في غير موضعها، أو يعتسف الطّريق فيجعل لفظة مكان لفظة، وواضح أنّه قد تمثل قول الله تعالى - وهو العالم كما خبرته، الذي لا ينفكّ يجعل القرآن أعلى شواهده-:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا..}، فالبادية لها استعمال والأعراب لها استعمال، وهو يزيل الخلط الذي ران على أفئدة الناس في استعمال البدويّ والأعرابي وقد أحسن الشيخ في استنباط الفرق بين هذين اللفظين، وأنا في هذا الأوان في غنى عن أن أجمل بحثاً مفصّلاً في سطر أو سطرين.

وما أحسن ما قال في هذا المعنى من مقدمة كتابه (تحقيقات لغوية): (...وقد أحسّ بعد ذلك أنّه لم يرض عن موقعه -والحديث عن اللفظ القلق- ولم أرض عنه، فيظلّ قلقاً يتململ حين أعيد قراءته أو سماعه، ولا يهدأ إلا بعد أن أضعه في موضع آخر يرضاه وأرضاه، وأحلّ محلّه لفظاً غيره يستسيغه ذوقي وتطمئنّ إليه نفسي).

- عمّان


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة