Culture Magazine Monday  28/01/2008 G Issue 231
الملف
الأثنين 20 ,محرم 1429   العدد  231
 

نموذج حيٌ على لغة حية
أ.د.عبدالله محمد الغذامي

 

 

هناك أناس تشعر أن اللغة تتجمل بهم، وإذا نطقوا لغة الضاد نطقوها وكأنما هي رحيق يتقاطر على ألسنتهم وشيخنا الأستاذ الدكتور ناصر الدين الأسد هو رجل أخذ نفسه بأدب الفصحى علماً ومسلكاً وحديثاً وإذا تحدث إليك أو روى شعراً من محفوظاته أمامك يجعلك تشعر وكأن البحتري بين يديك يقول قصيدة ويعمر سمعك بالفصيح من النطق السليم والعميق للغة حتى لترى جمال اللفظ بعينيك وتسمع إيقاع الكلمات تسعى بين يديك.

في آخر مرة التقينا وكنا في مطار أبو ظبي ينتظر كل واحد منا نداء طائرته أمضينا الأحاديث وأي أحاديث..؟. مع ناصر الدين الأسد هناك حديث واحد يسمو على كل الأحاديث، وهو حديث اللغة وأسرارها، وليس هذا لأن هناك غير ذلك، وهو السياسي والدبلوماسي والإداري المجرب والخبير في كل واحدة من تلك، ولكن اللغة تسمو على كل ذلك وتبسط يدها له لكي يقرأ في نسغها وفي دقيق لفظها ومعناها، وأطلق العنان لخياله وخيالي معه في رحلة ماتعة (ولا أقول ممتعة وأنا في حضرة الأسد) أطلق العنان مع أبيات المثقب العبدي

أفاطم قبل بينك متعيني

ومنعك ما سألت كأن تبيني

واستطرد مع أبياتها في ترنيم شجي وأخاذ وهو يقف مع كل بيت ليؤكد عدم صعوبة الشعر الجاهلي ويذكر تجربته في تدريس طلابه نصوصاً جاهلية يثبت لهم فيها أول ما يثبت أن الشعر الجاهلي قريب من النفس وسهل الفهم وسلس القياد، ويظل يردد الأبيات حتى ليشدني معه في رحلة وجدانية عميقة الفعل في الخيال وكأنه يجعلك تشتهي لغتك الفصحى وتتعشقها وتندمج في إصغاء فعال تندفع معه إلى ترداد الأبيات ومسابقة الرواية إلى الشطر الثاني وكأنك في سوق عكاظ لا في مطار حديث وكأنك تنتظر ناقة لا طائرة أيرباص الفرنسية.

إن رجلاً مثل أستاذنا الأسد لهو نموذج حي على لغة حية هو مثال عليها لأنه أدمن حبها فأحبته وتعشقها حتى صارت منه وله، وهو المعلم العربي الذي صرف عمره كله في درس اللغة وتدريسها وحملها معه في حقيبة سفره، ويوم جلستنا في مطار أبو ظبي لم يكن معه حقيبة يد وتخلص من كل محمولاته بأن أودعها موظفي الطيارة، وجاء خالي اليدين وكان متاعه وحمله من بجر الحقائب هو رصيد اللغة الفصحى بكنزها وشعرها ومعانيها، يحملها في رأسه ويمثلها في ضميره، وكم تراه سمحاً كريماً باسماً ولكنك سترى هذه السماحة والبسمة تزول وتأتي الغضبة المدوية حينما يسمع انتقاصاً للحق الثقافي للأمة في دينها أو في لغتها أو تاريخها ولقد رأيت له غضبات إحداها كانت في قاعة الملك فيصل للمؤتمرات حينما قاده الحديث عن أحداث غزو الكويت فانتفض ضد تلك الذكرى التي فرقت ولم توحد ولعن لحظة الفرقة وصداها وهي غضبة للتاريخ وللضمير تشبهها غضبة أخرى رأيتها منه في القاهرة حينما تعرض أحد الشباب المصريين لطه حسين وأساء لذكراه فهب الأسد هبة أسدية وقال ما يقوله الضمير الثقافي في مقام مثل هذا. تلك صور ذهنية أختزنها عن أستاذنا وشيخنا وهي مثال على صور أخريات كثر وكلها تكشف عن نموذج للأستذة فريد وراق.

- الرياض


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة