Culture Magazine Monday  26/05/2008 G Issue 249
الملف
الأثنين 21 ,جمادى الاولى 1429   العدد  249
 

في الرواق الجامعي
د.عبد الوهاب أبو سليمان

 

 

دعوى معرفة شخص المعرفة الحقيقية تستدعي السفر معه، والتعرف على طباعه وخصاله.

السفر هو محك الشخصية لما يتعرض له الفرد إلى مختلف الحالات الطارئة، المريحة، والمتعبة من خلال تصرفاته، وتعامله مع الحدث الطارئ، والأشخاص الذين يجهلونه، هذه تجربة عشتها كاملة سفراً وحضراً مع معالي الدكتور محمد عبده يماني قبل أن يكون بيننا معرفة سابقة.

حظيت بالسفر مع معاليه لأول مرة في رحلة إلى الجزائر في بداية التسعينيات الهجرية تعرفت عليه عن قرب، ولم يكن لي به سابق معرفة قبل ذلك برغم أن كلينا ينتمي ولادة ومنشأً، وتراثاً، وفكراً إلى مكة المكرمة.

شاءت إرادة المولى أن أكون ضمن أعضاء وفد المملكة العربية السعودية إلى الملتقى الفكري بالجزائر عام 1392هـ، وكان - حفظه الله - يرأس الوفد السعودي بحكم منصبه وكيلاً لوزارة المعارف آنذاك، وكنت قد اصطحبت عائلتي في الرحلة، فكان يتفقدها برعاية واهتمام، ويحيطها بنفسه بالسؤال عن ما يحقق راحتها، وراحة جميع أعضاء الوفد، يتباسط مع الجميع، يأنس بهم، ويأنسون به، في تواضع تام، ومن دون حواجز، وقد كان من بين أعضاء الوفد معالي الدكتور عبد الله نصيف، وفضيلة الأستاذ الدكتور محمد علوي المالكي (رحمه الله تعالى)، كان أعضاء الوفد منسجمين مع رئاسته فكراً وروحاً، وتنظيماً، وكانت من أسعد الرحلات وأجملها في تاريخ العائلة، وأعضاء الوفد.

أما الرحلة معه في الحضر فذلك حديث طويل لما ينته، وعلاقات وطيدة مستمرة، وتناغم فكري، وروحي، بدايته لدى تعيين معاليه مديراً لجامعة الملك عبدالعزيز في بداية عهدها الحكومي، وكنت يومها عميداً لكلية الشريعة، جمع بيننا العمل ولكن في إطار أخوي رفيع.. بدأت أزداد تعرفاً على مواهبه وخصائصه الإدارية والأكاديمية، وكانت أحداث وأحداث يشتد السجال بيننا من أجل تقدم الجامعة، وتطورها، كنا نتفق حيناً، ونختلف أحياناً، ولا يغير هذا شيئاً من العلاقات الحميمة، والتقدير المتبادل بيننا، وكذا العلاقات بينه وبين كافة أعضاء هيئة التدريس والإدارة بالجامعة، كان الجو الجامعي في عهده نقياً فسيحاً، حراً للنقد الموضوعي المتجرد، والاعتراضات دون تحفظ في انطلاق غير مألوف في مجتمعنا بين الرئيس والمرؤوس، الكل حماس لأن يخطو بالجامعة إلى الرقي والتقدم بكل ما أُوتي من فكر، فكانت الجرأة والصراحة في الرأي دون تزلُّف، أو مجاملة، ومعاليه يتقبل كل ذلك بصدر رحب، بل ويشجعه، كنت من أشد المنتقدين، والمطالبين بالمزيد لكلية الشريعة، ولفرع الجامعة بمكة المكرمة، وما كان يضيق بذلك، بل يرحب به، يتقبله برضا؛ لأن كل ذلك يصب في المصلحة العامة، يفعل ما يراه صواباً، ويأخذ به دون استعلاء، يزيده ذلك حباً، وإعجاباً في ابتسامات هادئة، وصدر رحب.

بقيت عميداً في عهده لعام كامل، وكنت أعتقد أنه عند انتهاء فترة عمادتي سيكون سعيداً بانتهاء فترتي للتخلص مني، لكني وجدته متمسكاً ببقائي فترة أخرى في عمادة الكلية، وبعث برغبته هذه ينقلها رموز من أساتذة الجامعة، وإدارييها، وأمام إصراري دون الرغبة في التمديد تحقق إعفائي من عمادة الكلية، وقدم لي في حفل جامعي ميدالية الجامعة من الدرجة الأولى.

إيمانه بحرية الرأي بلا حدود في الساحة العلمية جعله يعقد الاجتماعات لكافة أعضاء هيئة التدريس للجامعة في ساحة منزله بطريق الجامعة بجدة لمناقشة شؤونها في فضاء فكري رحيب، يشتد فيه النقد، وتطرح الأفكار في حرية وصراحة، ولست أُبرئ نفسي من موقف متشدد، وإصرار وذلك لا يزيده هذا إلا حباً للناقدين وتقديراً لهم، وعشقاً للجامعة، وبفضل الله ثم بفضل هذا الفكر المنطلق خطت الجامعة في عهده خطوات واسعة إلى الأمام، وشاهدت من التوسع في معظم المجالات الأكاديمية توسعاً كبيراً، ولا أشك أن الكثير الحاضر الذي أُنجز في جامعة أم القرى، وجامعة الملك عبدالعزيز هو نتاج جهوده.

كان أمين المكتبة المركزية الدكتور عبد السبوح القاسمي (رحمه الله تعالى) أكاديمياً مخلصاً، عاشقاً لمكة المكرمة، مكتبة الجامعة بمكة المكرمة في توسع مجموعاتها، وتطورها مدينة لجهوده المخلصة.. وهو من فضلاء الأكاديميين المتعاونين من باكستان الشقيقة (رحمه الله) ومن الخبرات النادرة التي منَّ الله بها على هذه البلاد، كان جريئاً في الحق، يعارض مدير الجامعة معالي الدكتور محمد عبده في صراحة تامة فيما يخص شؤون المكتبة، بحكم تخصصه، يصر على رأيه، فكان لرأيه المكانة والتقدير في نفس معاليه إجلالاً، وإكباراً، يأنس معاليه برأيه، ويحقق طلباته، ويذكر معارضاته له في تقدير واحترام.

حنكة معالي الدكتور محمد عبده يماني الإدارية في إدارته للجامعة تتجلى في فراسته واستقطابه الكفاءات الإدارية، وحسن اختيار العاملين معه، يسعى حثيثاً لكسبها، والاستفادة منهم، يمنح الصلاحيات لمن عرف فيه الثقة وتقدير المسؤولية، فمن ثم خطت الإدارة في عهده خطوات كسب بها رضا الجميع، لأنه - حفظه الله - كان يعمل كل ما من شأنه راحة العاملين معه في غير خرق للمصلحة العامة.

أكاديمي: سارت الجامعة في عهده في اتجاه أكاديمي أصيل، طموحات علمية رفيعة على مستوى الجامعات العالمية، من مظاهر هذا حثّه أساتذة الجامعة على البحث العلمي، وفي المقابل يتعهد بتحقيق طموحاتهم المادية، أذكر من هذه المشاريع إنشاء مراكز علمية عديدة بمفهومها العالمي، عيّن لها متخصصين يصبحون مرجعاً في كل ما له علاقة بموضوعاتها، منها إنشاء: مركز الشؤون الفلسطينية، الفرق المعاصرة في أمريكا، وأوروبا، وغيرها من المراكز البحثية؛ بحيث تكون هذه المراكز المرجع للدولة، وللمؤسسات العلمية فيما يتصل بالجانب المتعلق بها في شؤونها، وأحداثها، كما هو المعمول به في الجامعات العالمية؛ ترجع الدولة، ومراكز البحوث والإعلام إلى المتخصصين فيها، كنت قد انتدبت من قبل معاليه للسفر إلى أمريكا من خلال هذا البرنامج الأكاديمي للقيام ببحث علمي موثق عن (منظمة إلايجا محمد الأمريكية، المسلمون السود) وكان من نتائج الدراسة الميدانية بحث بعنوان: (منظمة إلايجا محمد الأمريكية دراسة وتحليل)، وقد تمَّ طبعه بدار الشروق عام 1397هـ بتشجيع من سعادة الأستاذ السيد محسن باروم - شفاه الله -، كان هذا البحث يمثل مفردة في البحث العلمي عن هذه المنظمة في ذلك الوقت.

أسلوب معاليه للإصلاح الإداري فريد يعتمد الصراحة ولكن بلباقة، ونكتة هادفة، هي وسيلته النقدية للإصلاح وسداد العمل.

اهتمامه بالناحيتين الأكاديمية والإدارية يسير في خط متوازٍ، وعلى حد سواء.

تواضع معالي الدكتور محمد عبده يماني أحد مفاتيح شخصيته، ودليل أصالة محتدة، جعل الجميع يلتف حوله، يبثهم حبه، ولا يعدمون نصحه، يحب الخير للجميع، ولا يألو جهداً في بذله دون منة، أو ترفع.

لا أنسى مشهداً شهدته بعد توليه إدارة الجامعة، وقد كنت أحد مرافقيه في زيارة للحرم الشريف، فأراه يذهب إلى بعض كبار السن يحتفي بهم، يحييهم في تواضع وحب، منهم العامة الذين لا يُلقى لهم بال، ومنهم ضعيف الحال والمظهر الذي لم يعدم نواله.

لم ينسه حاضره الوارف ماضيه الخشن الذي عاشه ورفقاءه، لم يتنكر لأيام قضاها في صباه، وحياة قاسية عانى منها، بل يعتز بها وبرجالها كل الاعتزاز، يتواضع للكبير، ويحترم الند والصغير، يبادر الجميع بعبارات الحب والتقدير.

صاحب مواهب متعددة فهو عالم جيولوجي، وصاحب فكر وقلم مبدع، ومتحدث بارع، إذا تكلم في موضوع أشبعه، أو حديث عن الماضي أطربك، يشنف الأسماع خطيباً ومتحدثاً.

اختياره موضوعات مؤلفاته دليل صفاء نفسه، وحبه لأمته، وتاريخها؛ كلها ذات أهداف تربوية، واجتماعية، ودينية، سواء القصصية الاجتماعية، أو التاريخية، وقد لفت نظري، وهز مشاعري لأول ما وقع نظري على عنوان مؤلفه عن أم المؤمنين السيدة خديجة رضي الله عنها (أم المؤمنين خديجة بنت خويلد سيدة في قلب المصطفى)، وما تضمنه الكتاب من عرض مشوق، وأسلوب سهل رفيع، مشوب بنَفَس إيماني، وعشق صادق، وكذلك كل مؤلفاته يلمس القارئ خصائص مؤلفها من العنوان، أتمنى لو وضعت ضمن المقررات الدراسية لتملأ نفوس الطلاب حباً لسلفنا الصالح من الصحابة وآل البيت رضوان الله عليهم، لتغرس في الجيل الحاضر حب السيرة النبوية المطهرة، ويتمثلوا مواقفها فتقوي إيمانهم وصلتهم بتاريخهم والعمل على متابعة خطواتهم في الحياة .

مؤلفاته - حفظه الله - منهجاً، وأسلوباً أنموذج يعبر عن تشبع صادق للمعاني الكبيرة، والمثل الرفيعة، ونشر للفضيلة، وهي مظهر من مظاهر عواطفه الدينية الجياشة.

لم يمنعه تخصصه العلمي أن يكون صاحب قلم رفيع، فمعاليه - حفظه الله - معدود بين العلميين الذين ضربوا بسهم وافر في الكتابة والتأليف في مختلف الأغراض الاجتماعية والقيم، والمبادئ الدينية، طوعوا القلم لأفكارهم، ومشاريعهم الفكرية والإصلاحية أمثال: معالي الدكتور محمود بن محمد سفر، ومعالي الدكتور عبد العزيز خوجة، وغيرهم من العلميين الذين سبقوا في المجال الكتابي أندادهم من النظريين.

مشاعر معالي الدكتور محمد عبده الإسلامية الإنسانية تتجلى عملاً في إسهاماته الاجتماعية العديدة داخل المملكة العربية السعودية وخارجها، فهو أحد أمناء الهيئة العليا لجامعة الأحقاف الإسلامية في اليمن الجنوبي، يسهم فيها بالمال والفكر، والتشجيع لتخريج أجيال عالمة بدينها، وتاريخها، وإعدادها للحاضر والمستقبل، وفي غيرها من البلاد الإسلامية.

يغشى مجالس الخير، وإصلاح ذات البين، مآثره الاجتماعية عديدة يضيق بها وقته، حضوره المؤتمرات والندوات العلمية، وإسهاماته فيها، وإدارته لها يزيدها رشداً، ونضجاً، ويضفي عليها جلالاً.

لست هنا قادراً على حصر خصائص معالي الدكتور محمد عبده يماني - حفظه الله -، لكني عددت بعضها في تواضع، وألخصها في كلمات معدودة تكفي عن الكثير من القول:

هو أنموذج لابن مكة البار في خصائصه، وسجاياه، وسلوكه، مشعل يضيء المجتمع بفكره، وأصالته وحبه لوطنه، وغيرته على مكتسباته، يتدثر الحب والإخلاص في جميع أعماله مبتغياً بذلك وجه الله.

معالي الدكتور محمد عبده يماني معدن أصيل لم تغيره المناصب، متواضع، ذو مواهب متعددة: إدارية، وعلمية وفكرية متنوعة، سريع البديهة لماحاً، متشبعاً بعواطف دينية متدفقة، ومشاعر إنسانية نبيلة، هذه مفاتيح شخصيته، وسر تفوقه.

صفات لا أدعيها، وحقائق لا أبالغ فيها، فكلمات العقلاء محسوبة وأحاديثهم مرصودة، لكل عبارة في هذا المقال رصيد من الشواهد، والحقائق، والتجارب التي عشتها لهذا الأنموذج الفريد من الأعلام الأفذاذ، متابعاً له بإعجاب، وملاحظاً له بتقدير واحترام لما يزيد على ثلاثة عقود من السنين، (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (69) (سورة العنكبوت) ومن صَدق الله صدَّقه.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة