Culture Magazine Monday  23/06/2008 G Issue 253
فضاءات
الأثنين 19 ,جمادى الثانية 1429   العدد  253
 

بين المنظور الروائي والسيرة الذاتية«5»
د. سلطان سعد القحطاني

 

 

وقف النقاد الإنجليز موقف المدافع عن سلطة الراوي في الرواية الحديثة أمام فوضى النقد الأمريكي، بعد الحرب العالمية الأولى وما سببت من تداعيات في أسلوب الرواية، حيث اعتبروها نوعاً من الحكي يقال كيفما اتفق، متجاهلين البناء الروائي القائم على أركان الرواية الحديثة المطورة عن الرواية التقليدية، للمحافظة على المنظور الروائي، الذي يقع بين الراوي والمتلقي، أي بين الصياغة الفنية Formulation، والصوت الموصل لهذه الصياغة Voice، إلى المتلقي، ويحلو للبعض أن يسميه( المروي عليه) وأنا أحبذ تسميته (المروي له) وقد تنبه جيرار جينيت إلى هذا المنظور منذ ظهوره في أواخر القرن التاسع عشر، ووجد في هذا المصطلح خلطاً عجيباً بين الراوي والرائي، أي الذي يروي والذي يتكلم، ووجد أن الراوي قد يتعدد في العمل الواحد، ومثل لذلك برواية (الأوديسا)، فأغلب أجزائها يرويها هوميروس، بينما هناك أجزاء يرويها أوليس(Ulysses) (9)، فهل يمكن أن يروي السيرة أكثر من راوٍ؟؟. وفيما يخص الحبكة والشخصيات، يقول الناقد الأكاديمي الدكتور(ف.كارل) في كتابه ( المرشد إلى الرواية الإنجليزية المعاصرة): (إن الرواية على أيدي(جراهام غرين، وإليزابث بون، وسنو، وجورج أورويل، وجويس كاري) تمثل بوجه عام العودة إلى رسم الشخصيات والحبكة...)(10) وهذا ما أردنا أن نقوله فيما يخص البناء الروائي الذي يختلف عن السرد العادي التاريخي، والقصة الطويلة ذات الراوي الواحد العالم بكل شيء، ولم نرفض الصياغة الفنية، ولذلك يشترط في الرواية وجود العقدة، والحبكة والرؤيا الفلسفية الرمزية، وتعدد الشخوص، وزمان ومكان مناسبين لأحداث الرواية، بينما لا توجد هذه العناصر في السيرة الذاتية ولا حتى غير ذاتية، لكن الاجتزاء من السيرة والمذكرات والذكريات وارد في حبكة الرواية، ولن نذهب بعيداً عن مقولة الكاتب الروائي الفرنسي ( جورج مارلو) الذي يقول: (أنا أستعيد بعض المشاهد التي حولتها فيما مضى إلى روايات، كثيراً ما تكون مرتبطة بالذكرى روابط متشابكة، وربما تشابكت في المستقبل...) (11)، وفي مثل هذه الحالة نجد أن جزءاً من السيرة يسد فراغاً من فراغات الرواية في صياغة روائية، يوظفها الروائي، وربما تكون على لسان الراوي، الذي سنتحدث عنه في الصفحات القادمة؛ ومن المعلوم أن الروائي يعيش على مخزونه من الذاكرة، وما يكتسبه في الحياة العامة، لكنه يوظف هذه الأحداث في صياغة روائية لها شروطها وأصولها، ولا يمكن أن تكون السيرة رواية بكاملها، وإلا سيصبح الفن هجيناً لا قيمة له، وسيضيع بين الفنون الأدبية، وينعدم الخيال الذي يشكل ركناً أساسياً في البناء الروائي.

وتتماس الرواية بالسيرة الذاتية في الصياغة التي يلبسها الروائي رداء السرد الفني، عندما يوظف موقفاً من مواقف السيرة في صلب روايته، أو يصوغ كاتب السيرة سيرته في أسلوب قصصي، وبالتالي تكون السيرة الذاتية التي عرَّفناها من قبل جزءاً من السرد القصصي وليست رواية؛ فالذين قالوا عن الأيام، وهي - في نظري- قصة حياة شخص تحوي تاريخه، إلا أنها تختلف عن كتابة التاريخ في ناحية واحدة، وهي كون الكاتب لا يستطيع قلب الحقائق من زمن إلى آخر، كما هي الحال في كتابة التاريخ، لكنها تسير في اتجاه واحد تجمعها أحداث مترابطة لا تنفصل عن بعضها البعض، وقد أسرف النقاد والدارسون العرب في تحميل الرواية على السِّير والمذكرات والذكريات واليوميات...، فاعتبروا الأيام لطه حسين رواية، يقول عبد الله الحقيل: (كما نشر العقاد، وطه حسين، وأحمد أمين، والمازني، والزيات، وغيرهم فصولاً عن سيرهم الذاتية....، وفي موضع آخر من نفس المقال يقول: وهناك مجموعة من الأدباء السعوديين كتبوا سيرتهم الذاتية، كأحمد السباعي، ومحمد عمر توفيق في كتابه هذه حياتي، وحسن كتبي أشخاص في حياتي، وحسن نصيف مذكرات طالب، وعبد العزيز الربيع ذكريات، وغازي القصيبي سيرة شعرية، ورحلة الثلاثين عاماً لزاهر الألمعي، وذكريات العهود الثلاثة محمد زيدان، وسوانح الذكريات لحمد الجاسر، وتباريح التباريح لأبي عبد الرحمن بن عقيل، ورحلة العمر لمحمد مرداد، وحياة من الجوع والحب والحرب لعزيز ضياء، ومذكرات خلال قرن من الأحداث لخليل الرواف، ومذكرات في ذكريات لعبد الكريم الجهيمان ومن حياتي لمحمد بن حسين...)(12) وقد كثر الخلط بين الأجناس الأدبية في النقد العربي غير المختص، وصار إطلاق المسمى يؤخذ في الكثير من الأحيان مباشرة من العنوان، فضلاً عن قراءة الموضوع وفحصه من الداخل ومقارنته مع المواضيع الأخرى، دون التقيد بالتعريف المصطلحي في سياق أدبي، فالفعل (سار) ومشتقاته، من( يسير، وسيرة، وسيْر، ومسيرة) لم يلق لها الدارسون بالاً، سواء أدركوا هذا الخطأ أولم يدركوه(13) ومثله الفعل(ذكر) ومشتقاته، ( يذكر، ويتذكر، وذاكرة، وذكرى، ومذكور، ومذكرة، وذكريات)(14)، لم يستخدمها الدارسون في سياقاتها المعرفية والدلالية، فلو فعلوا ذلك لوجدوا أن السيرة، مشتقة من المسير، الذي له بداية ونهاية، وأن السائر لا يقطع الطريق في منتصفه، بل يواصله إلى نهايته، وهذه هي السيرة المعروفة في اللغات الأخرى

(Autobiography)، وأن الذكريات recollections ) مشتقة من الفعل، تذكَّر،فهي ذكرى وهي

ما يتذكره الإنسان في أوقات محدودة قد يجلبها موقف معين من المواقف المشابهة لما مضى من مواقف مخزونة في الذاكرة تحت( اللاشعور)، أو منظر يذكِّر بمثيله، أو شخص تتداعى المعاني مذكرة بشخص ذي علاقة به؛ فالإبداع يقترن بالسياق النفسي والفطري والثقافي والحضاري والاجتماعي للإنسان، أو ما تدركه إحدى الحواس الخمس، من رائحة أو طعم أو لمس... (15) وهذه الكلمة في أصلها الأجنبي مأخوذة من الفعل(col

lect) أي جمع الشيء، و(re) إعادة جمع ما

تفرق من معلومات.

وأن كلمة مذكرات جمع مذكرة Memo

ries)، وهي ما يستعين به شخص ما في

حفظ مشاهداته ومواعيده باليوم والساعة والتاريخ، وهي شبيهة إلى حد كبير باليوميات، وبما أن هذه المفردات تمثل جزءاً من حياة الإنسان، ما عدا السيرة الذاتية، فقد شكلت معضلة للدارسين الذين لم يتعمقوا في هذه الجزئيات، ومعرفتها في سياقها الأدبي، يقول الناقد الفرنسي جورج ماي: (إننا كلما أوغلنا البحث عن الحدود الفاصلة بين السيرة الذاتية والمذكرات ازددنا يقيناً من أنها زئبقية وغائمة)(16)، وهذا ما دعا النقاد الغربيين إلى أن ينسبوا كتاب ( الشعر والحقيقة) للشاعر الألماني المعروف (غوته) إلى سيرة ذاتية، حتى صحح النقاد المختصون هذه المعلومة إلى أنها مذكرات، لأنهم وجودوا فيها مذكراته عن آخرين ولم يجدوا فيها أحداث تكوين شخصية غوته، عندما فحصوا أطوار حياته(17) ، فمدار نص الكتاب حول الأحداث التي شاهدها أو شارك فيها؛ وهذا ما انطبق على كتاب الدكتور غازي القصيبي ( سيرة شعرية) الذي نسبه البعض إلى السيرة الذاتية، أو كتاب محمد عمر توفيق (ستة وأربعون يوماً في المستشفى)، وغيرها على أنها سير ذاتية، وبالرغم من التشابه الكبير بين الذكريات والمذكرات، إلا أن الأمر في غاية الوضوح لمن أوتي حظاً من الدراسة الأدبية وفروعها المتكاملة حيناً، المختلفة في أحيان كثيرة، حسب خصوصية كل فن منها، على أن سيرة القصيبي الشعرية مختصة بشعره، وليس فيها محطات العمر التي تكوّن في مجموعها سيرة ذاتية، ووجود محمد حسن توفيق في المستشفى لمدة معينة لا يمكن أن يكون سيرة ذاتية، حسب تعريف الناقد الفرنسي (فليب لوجون) وغيره من الدارسين، كما أن مذكرات الأميرة سالمة بنت سعيد (1844- 1924)، وهي من أسرة آل سعيد العمانية المعروفة التي كانت تحكم ( زنجبار) وعمان، قامت بانقلاب على أخيها ماجد لمساعدة أخيها برغش، وعندما فشل انقلابهما عُزلت عن المجتمع فهربت مع شاب ألماني إلى إسبانيا، ثم هامبورج في ألمانيا وتزوجته، وأنجبت منه بنتين، ثم مات، وغيرت اسمها إلى (إملي بروتي) على عائلة زوجها ( هابترش بروتي)، امرأة غيرت دينها واسمها، وعانت ماعانته في حياتها، وكتبت مذكراتها على مدى ثمانين عاماً، ولم تسمها سيرة، لعدم توفر شروط السيرة فيها، لأنها أدركت وأدرك النقاد معها انقطاع الزمن في بعض أطوار حياتها خلال سردها للأحداث،(18) وغيرها الكثير في الأدب العربي، فقد آثر الكثير من الكتاب وأصحاب التجارب العلمية والفكرية والاقتصادية والسياسية، الذكريات على السيرة، تجنباً لسلطة الزمن عليهم، وخوفاً من خيانة الذاكرة، فنجد الدكتور محسن العيني الذي كتب مذكراته بعنوان (خمسون عاماً في الرمال المتحركة) وسماه، مذكرات، ويترجم مذكرات الطبيبة الفرنسية ( كلودي فايان) بعنوان( كنت طبيبة في اليمن) ويقدم لها على أنها مذكرات،(19) ومثلها (العقود الثلاثة لمحمد حسين زيدان) ذكريات ثلاثة عقود من حيات رجل تجاوز السبعين!!، والدكتور عبد العزيز الخويطر (وسم على أديم الزمن) سماها مذكرات، ولم يسمها سيرة، لأنه أدرك عدم الثقة في الذاكرة رغم أنه يذكر في مقدمته للجزء الأول اعتماده على المذكرات اليومية التي يحتفظ بها منذ أن كان طالباً في القاهرة (20)، ثم لندن، طالباً، فالعودة إلى الوطن يحمل أول شهادة دكتوراه، ثم تحمل مسؤوليات الوظيفة وما قابله فيها من عقبات، ومن عمل معه من الشخصيات.

وهناك من أخطأ في العناوين وسمى مذكرات وذكريات (سيرة ذاتية)، مثل أحمد عبد الرحمن الألمعي (من بيروت إلى حضرموت: سيرة اجتماعية سياسية)، وهناك الكثير ممن كتبوا ونقدوا يسمون هذا اللون من الذكريات سير ذاتية، وهذا يعود إلى عدم الإدراك والتفريق بين الفنون القولية النثرية، كمن يخطئ في الفنون الشعرية والفنون التشكيلية، ومذاهبها الفنية.

***

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5703»ثم أرسلها إلى الكود 82244

- الرياض


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة