Culture Magazine Monday  23/06/2008 G Issue 253
فضاءات
الأثنين 19 ,جمادى الثانية 1429   العدد  253
 

وعشت في حياتهم
أبو يَعْرُب.. أبو المثقفين
حالة نادرة من الوفاء تستحق التكريمعبد الله الماجد

 

 

محمد بن عبد الرزاق القشعمي (أبو يَعْرُب) بروزه في محيطنا وعصرنا الثقافي، ليس استثناء وحسب؛ وإنما ضرورة تمليها طبيعة الأحقاب الثقافية، فكأنما وجوده ظاهرة يستجيب بها العصر لضرورات تناسقية، حتى يستقيم إطار العصر الثقافي، وفي عصور خلت، كان وجود (ابن النديم) حالة تلبي احتياج عصره، وتقيم نسقاً تاريخياً، كأنما هو حاجة الأرض إلى المطر، ونبات العشب والزرع، وقيام تناسق الحياة بعد ذلك. وثيقة (ابن النديم) هي بمثابة (الحُجَّة) الشرعية، تثبت عطاء عصره وما سبقه. من هنا برزت أهمية عمل (ابن النديم)، حينما وضع (الفهرست) شاهداً على عطاء عصره الثقافي، لم تكن أهميته أنه وضع أول إشارة علمية، تدل على علم (الفهرسة) الذي ينظم العلم، مثبتاً أن نصف العلم تنظيمه وحسب؛ وإنما حُجيته، إثبات حالة على معطيات عصره، لم يكن مؤرخاً ينحاز وتطغى عاطفته، وإنما كان (مثبتاً) حالة الإثبات هي مصدر للتاريخ وللمؤرخ. ومثل (ابن النديم) وضع (حاجي خليفة) كشافه، مؤسساً لعلم هو من (الفهرسة) وهو (التكشيف) وموسعاً دائرة شهادته على عصور ثقافية، راصدًا لحركية تاريخية ثقافية، ومثبتاً لوجود أعمال ومصادر ثقافية، تاركاً للباحثين التثبت من وجودها، ولايزال البحث جارياً للكشف عما لم يتم الظفر به من أعمال ثقافية طالتها دالته الكشفية التي أَشهْرَها في (كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون) بين الكشف والظن تظهر حالة الإثبات. وقد نعمت عصورنا الثقافية، بأعلام أثبتوا حالة عصورهم الخوالي والمعاصرة، وقفوا جهودهم على البحث وإثبات حالة تلك العصور، يلمع من بين تلك الأسماء الأعلام، اسم (ابن حجر العسقلاني) و(ابن خلكان) و(ياقوت الحموي) وفي عصورنا الماثلة، كان الدّال على عَلمية (خير الدين الزركلي) و(رضا كحالة) كأعلام من أعلام عصرنا، أنهما فهرسا وكشفا عصوراً عربية ثقافية.

(الزركلي) شاعر ومؤرخ وسياسي، الدّال عليه عمله الموسوعي قاموس (الأعلام) ومثله (كحاله) الذي وضع (معجم المؤلفين). لهما الأبوة لعصور ثقافية عربية.

(أُبوّة) (أبو يَعرُب) للمثقفين في عصره، لا تقف عند حد التوثيق والتأليف وإنما تتعدى ذلك إلى الفعل والجهد الإنساني الفاعل، فهو (أمين رابطة المثقفين) التي أسسها هو في شخصه، هي رابطة تتحرك وتنتقل معه، مقرها حيث يكون، نجده في كل محفل ثقافي، ويكون هو في أغلب الأحوال، الداعي والمؤلف لهذا المحفل، من غرائبه أنه - حسب علمي حتى الآن - لا يحمل هاتفاً جوال، ومع ذلك فاتصالاته وتحركاته أسرع من الجوال. يمد هذا المثقف بالمعلومات التي يطلبها، ويرتب مواعيد اللقاءات الثقافية، ويجمع بين المتباعدين في المحيط الثقافي، وفي غمرة هذا الجهد الذي يماثل عمل النحلة الدؤوب، ينكب إلى مصادره موثقاً ومؤلفاً لحالات ثقافية ربما كانت مهملة أو منسية، قلبه مجهد بهذا التآلف، ينسى الظغينة، ولو لم يكن على هذا الحال، لما أمكن له أن يكون على ما هو عليه، لقد جُبل على حب الناس، واراه مع كل ذلك (ثعالبي) الطبع، في ذكاءه وحذره، وليس فيه من مكر الثعلب، إلا ما تحبه النفوس المجبولة على الطبع الطيب والذكاء المحبب .

من بواكير جهده الثقافي، التأسيس لفكرة سلسلة (هذه بلادنا) التي صدرت عن الرئاسة العامة لرعاية الشباب قبل أكثر من ربع قرن، حيث كان يعمل حتى العام 1414 هـ، وكان قد بدأ في إصدار هذه السلسلة منذ عام 1403 هـ. خلال أحد عشر عاماً أصدر ما يقارب الخمسين كتاباً من هذه السلسلة وصدر منها تسعة وستين كتاباً، تؤرخ وتترجم للبلدان السعودية، وهي فكرة يستحق عليها التكريم، وللأسف لم يستمر توالي صدور هذا العمل الثقافي الهام، مع توالي الرغبة في إتمام استمرار صدور أعداد أخرى من هذه السلسلة، أو حتى إعادة إصدار ما صدر منها وأصبح في حكم النافد. وكانت لدي فكرة طرحتها واطرحها الآن، وهي إصدار هذه السلسلة في طبعة مخفضة السعر، تباع بسعر رمزي، وتكون فاتحة للبدء في مشروع القراءة للجميع المنفذ الآن في مصر، تحث الشباب على القراءة.

وقد التفت أبو يعرب، التفاتة لها مغزاها ومعناها، تحمل لمحة ذكية من الوفاء لجيل الرواد، فكان أن اتجه إلى رمز مهم من جيل الرواد، وهو (عبد الكريم الجهيمان) فاعاده مرة أخرى إلى الظهور، فإلى جانب وقوفه على إعادة طبع وإصدار بعض مؤلفات هذا الرائد كتب عنه وجمع بعض شتات ما كَتب وما كُتب عنه، بل لازمه في حياته ورحلاته، حتى قال عنه أبو سهيل عبد الكريم الجهيمان، إن أبا يعرب أحد أبنائي الأوفياء، وإلى جانب ذلك، فهو مهموم بالكشف عن رواد أهملتهم دالة البحث، فأعاد إلينا (سليمان الدخيل) الصحفي والباحث النجدي، الذي تغرب في العراق في أواخر حياته، وعاصر الأب (انستانس الكرملي) وساعده في إصدار وتحرير مجلته التاريخية المعروفة (لغة العرب). ولم يكن اهتمامه بالدخيل كرائد من رواد الصحافة، إلا حلقة في مشروعه بالبحث عن أوائل الصحف والمجلات التي صدرت في بداية عهد التأسيس للصحافة في بلادنا.

وتتسع دائرة اهتمامه لتشمل المعاصرين الأحدث من أجيال الوسط، فيترجم إعجابه وانحيازه إلى الروائي الراحل (عبد الرحمن منيف) فيصدر عنه كتاباً هو الأول، عن رحلة هذا الروائي المهاجر أيضاً، وكان قد اصدر كتابه هذا قبيل رحيل (عبد الرحمن منيف) مهدياً إليه باقة وفاء وحب في حياته. وبمثل هذا الوفاء، انكب على جمع ما كتب الشاعر والناقد (محمد العلي)، وما كُتب عنه من شهادات معاصريه ومحبيه، وفي كل هذا الجهد المكلل بالعناء والدأب، الذي يبذله أبو يعرب، وهو مفتون به، عاشق متيم، له ما يبرره في نفسه، فأكمل ذلك كله بتمويل هذا المشروع الثقافي من مصادره الشخصية المتواضعة، وهذه حالة يتسامى فيها قدره الإنساني، ويعلو فوق رغباته وحاجاته الاجتماعية، التي جعلها في مرتبة تالية، لإبراز مشروعه الثقافي وأبوته المزهو بها والعائش في مجدها.

أبو يَعرب، تنقل في وظائف متنوعة، لكنه استقر حيث يجب أن يستقر، في مكتبة الملك فهد الوطنية (من حسن حظي أنني بدأت عملي في (دار الكتب الوطنية) طيبة الذكر، في مقرها الذي لا تخطئه العين، ويهفو لها القلب كلما مررت بها في شارع الملك فيصل) حيث يستقر أبو يعرب الآن، تتحرك حافظة الذاكرة، بأسماء رائدة لمع مجدها حيث كانوا في دور الكتب، أمثال أحمد لطفي السيد، وأحمد رامي، وفؤاد سيد، واعتقد أن مرساة سفينة أبويعرب، استقرت حيث يجب أن تستقر، ولا يجب أن تغادره، حيث حياته ومصادره يغرف منها حيث يشاء، ونتذكر معه صفيه وصفينا حاضر الذكر دائماً (راهب الكتب والمكتبات الدكتور يحيي بن محمود ابن جنيد) الذي عايش عناءه ومجده في التأسيس والبناء لهذا الصرح الثقافي العملاق في حياتنا الثقافية، وينعم بالجهد المخلص الدؤوب الذي يواصله زملاؤه في المهنة المخلصون والحافظون على الأمانة. والدعوة الآن خاصة وأن ثمار هذا العمل الثقافي الهام قد اينعت، أن تتحول إلى مؤسسة ثقافية حكومية ترعاها الدولة في ظل وزارة الثقافة والإعلام، وأن تكون بيتاً لكل مثقف مهما بلغ عمره، يجد فيها مكتبة وراتبه، تكون مكاناً للتفرغ الثقافي الذي طالما دعونا إليه، حتى يأمن المثقف الذي هو رمز من رموز هذا البلد، على معاشه وحياته، وألا يكون سقط متاع. وما أجدر الوزير المثقف الأستاذ إياد بن عبيد مدني، أن يحقق هذا المشروع الثقافي التاريخي، في ظل عهد الأب الراعي الإنسان لهذا الوطن وإنسانه بكل فئاته وتنوعه.

والآن.. لابد أن يأتي دور الأبناء، في الوفاء لهذه الأبوة الصادقة الحانية، لتتسامى مع هذا الدور الفريد الذي يقوم به أبو يعرب.. الآن في فورة حماسة ومضية في مشروعه، حتى تتواكب قوافل الوفاء في حياتنا الثقافية.

***

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMSتبدأ برقم الكاتب«7099» ثم أرسلها إلى الكود 82244

- القاهرة E:marspub2002@yhoo.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة