Culture Magazine Monday  20/10/2008 G Issue 257
قراءات
الأثنين 21 ,شوال 1429   العدد  257
 

النسق المفتوح في الخطاب النقدي
قراءة في كتاب (نظريات معاصرة) للدكتور جابر عصفور
أ.د محيي الدين محسب

 

 

لا يهدف كتاب (نظريات معاصرة) للدكتور جابر عصفور إلى تقديم تاريخ تحليلي للنظريات النقدية الغربية. بل إنه - من جهة هذا الهدف - يمكن أن يتلقى تهمة الانتقائية وعدم الشمول (فأين -مثلاً- نظريات النقد النسوي feminist criticism، ونقد التحليل النفسي psychoanalytic criticism، ونقد استجابة القارئ reader- response criticism...إلخ؟).

كذلك فإن الكتاب لا يستهدف - من وراء النظريات المحددة التي عالجها- أن يقدم تعريفاً للقارئ العربي بها. فربما كان في جهود أخرى سبقته إلى ذلك الهدف بعض الغناء. بل إن المؤلف نفسه سبق له أن قدم ترجمة لمرجع عام في النظرية الأدبية، وهو كتاب رامان سلدن.

ومن ثم فإن إدراكنا الناجم عن قراءة هذا الكتاب هو أن هناك أهدافاً أخرى هي التي حدت بجابر عصفور أن يقدم للقارئ العربي هذا المؤلَّف.

وقد يكون الطريق إلى تعيين جملة الأهداف التي تغياها الكتاب هو أن نحاول - أولاً - رصد الخصائص الأساسية التي تبدى بها مسلك المعالجة فيه، والمنطق الداخلي الضمني الذي انتظمت به هذه المعالجة. وفي هذا السياق فإن النظر الأوليّ في ترتيب الفصول الكبرى، والمفاصل الصغرى، التي كونت الهيكل البنائي لكتاب (نظريات معاصرة) يمكن أن يقود إلى حيازة علامات هادية ومفيدة عند مباشرة دلالات البنية العميقة. وبصياغة أخرى فإننا نريد استكشاف أبعاد خارطة المعالجة قبل القيام برحلة المعاينة لتفاصيل جغرافيتها. ومن خلال هذا النظر الأولي يمكن أن يتبدى ما يلي:

أولاً: الكتاب يبدأ بعنوان (نظريات معاصرة) . وإذا كانت (النظرية) -في أحد تعريفاتها- مبدأ عاماً أو تجريدياً يُستخدم لشرح ظاهرة معينة، فإننا نكون -منذ البدء- أمام عنوان يجسد تعددية المبادئ والتفسيرات. وإذا كانت صفة (المعاصرة) تخصص المجال الزماني لتلك النظريات فإن ما يبدو غائباً في صوغ العنوان هو تحديد الظاهرة -أو الظواهر- التي تعمل هذه المبادئ على تفسيرها. وربما كان للقارئ هنا أن يستعين بمخزون معرفته فيأخذ من دلالة اختصاص المؤلف -جابر عصفور- في حقل الدرس الأدبي ما يكمل به المسكوت عنه في صيغة العنوان ليكون (نظريات أدبية معاصرة). غير أن ذلك -بالطبع- لا يستوفي مغزى سكوت المؤلف نفسه عن إيراد هذا القيد المخصص لمجال عمل تلك النظريات. وأتصور أن هذا المغزى لن يتبدى إلا بعد استكناه القارئ واستيعابه للغايات الضمنية التي أرادها المؤلف من وراء قراءته النوعية لتلك النظريات.

ثانياً: يتضمن الهيكل التخطيطي العام للكتاب وجود (مفتتح)، وفي المقابل فإنه لا يتضمن وجود ما يسمى بـ(الخاتمة) أو أي دالّ يترادف ومعناها. وهنا -أيضاً- لا بد أن ينهض مغزى هذا الغياب -أو بالأحرى: مغزى هذا التغييب. ولعل انفتاح الاحتمال هنا يكون مزدوج الدلالة: الدلالة الأولى هي أنه ليس ثمة نظرية نهائية تحمل كلمة الفصل، وأن كل ما عرضت له القراءة من نظريات قابل -في أفق المستقبل- للإزاحة والنسخ. ثم الدلالة الأخرى وهي أن آليات القراءة نفسها التي اعتمدها الكتاب لا تعترف بإغلاق الدائرة، بل لا تزعم ولا تريد لنفسها امتلاك وضع قوس الإغلاق.

ثالثاً: لا تخلو المفاصل الفرعية المتضمنة تحت فصول الكتاب التي عالجت النظريات الثلاث (نظرية التعبير، والبنيوية التوليدية، والبنيوية والشعرية) من عنوان يشير إلى نزعة تفكيكية واضحة: فهناك: نقض نظرية التعبير، مساءلة البنيوية التوليدية، نقض الشعرية. ثم يأتي الفصل الرابع والأخير قائماً على مساءلة فكرة (النظرية) نفسها. وربما كانت الدلالة هنا داعمة لما أشرنا إليه منذ البدء وهو أن القراءة التي يتضمنها كتاب جابر عصفور لا تستهدف تقديم تعريف بالنظريات، وإنما تستهدف الكشف عن (مصائر النظريات)، بل الكشف عن مصير مفهوم (النظرية) نفسه. ومن ثم فإن الضمني في هذه القراءة النوعية هو التركيز على تحليل تاريخي يبرز تجليات الانفصال بأكثر مما يركز على خطوط الاتصال.

هذه -إذن- أهم الملامح الأساسية التي يمكن للقارئ استخلاصها من خارطة الهيكل التخطيطي لكتاب (نظريات معاصرة): إننا أمام نسق قرائي تعددي المنظور، منفتح الأفق، دائم المساءلة. والكتاب حين يمارس هذه القراءة النوعية فإن هذه الممارسة ذاتها إنما هي - ضمناً - دعوة ورسالة صوب تكريس فعالية هذا النسق القرائي في حياتنا الفكرية. وبطبيعة الحال فإن تهيئة المتلقي لاستقبال هذا النسق وتبنيه لا يمكن أن تتم إلا بشروط المعاينة اللامسة لمدى قدرة هذا النسق على إنتاج معرفة أفضل بموضوعه. ومن ثم فإن ملامح الخارطة ومؤشراتها ما تزال بحاجة إلى اختبار مصداقيتها من واقع الارتحال الفعلي الكاشف لتلك التشكلات الحية فيما تؤديه المعالجة منطوقاً صريحاً، أو فيما تؤديه دلالة ضمنية.

في (مفتتح) الكتاب -ومنذ الفقرة الأولى- نعثر على الدلالة الضمنية التي تكرس اندماج مشروع هذه القراءة التي يقدمها جابر عصفور في الأفق المعرفي العام لحركة النقد الأدبي المعاصر في ممارساته العالمية. فإذا كانت السمة الحاسمة التي تكشف عن أهم ما يتميز به هذا النقد هي أنه (نقد لا يكف عن مساءلة ذاته في فعل مساءلة موضوعه، ولا تتناقص حدة وعيه بحضوره النوعي بل تتزايد يوماً بعد يوم) فإن الدلالة الضمنية الناهضة هنا افتراضاً مبدئياً في وعي القارئ هي أن مشروع قراءة جابر عصفور هو قراءة (المساءلة)، وليس - كما يقول في الفقرة نفسها - قراءة (التعريف بالمذاهب والمدارس والاتجاهات والنظريات).

وإذا كانت (المساءلة) -هذه الكلمة المفتاح التي تتواتر في الكتاب بشكل بالغ الإلحاح والدلالة - مما يجسده تكرارها في المفتتح فقط أربعاً وعشرين مرة- أقول: إذا كانت المساءلة فعلاً معرفياً جدلياً بين الذات والموضوع فإن الكيفيات التشخيصية التي حدد بها جابر عصفور أبعاد هذا المفهوم تنقله من حيز التداول في دائرة المجال النقدي إلى التكريس له في المجال المعرفي العام، وكذلك في المسالك الحياتية بعلاقاتها المتنوعة بحيث يغدو -في آن واحد- إجراءً وموقفاً ووعياً:

(حين يسعى هذا الوعي إلى التخلص النهائي والكامل من عقدة الاتباع في فعل تحرره من كل أنواع التبعية، فإنه يمتد بفعل المساءلة ليشمل كل شئ ابتداء من موروثاته الخاصة في واقعه، مروراً بممارساته المتنوعة في علاقات هذا الواقع، وانتهاء بما يأتي إليه من واقع آخر على الضفة المقابلة من البحر أو المحيط؛ أي ما يسعى إلى تعرفه عند غيره لا على سبيل النقل والاتباع، وإنما على سبيل الإسهام والإنتاج).

ومن الواضح هنا أن ثمة غاية ومجالاً يشكلان معاً حركة هذا الوعي: فأما (الغاية) فهي (فعل التحرر) المؤكِّد لدلالة ممارسة (الحرية) سعياً شاقاً متواصلاً. وأما (المجال) فهو (الواقع) في جدليات ممارساته الداخلية، أو في جدله مع الواقع الحضاري للآخر. وإذا كانت حركة اتجاه الوعي هي (بناء) هذا الواقع فإن الوجود القبْلي لهذا الواقع لا يخلو من أشكال وعي زائف ومضاد تعوق من نهوض إنتاجه بشكل إيجابي مغاير: ثمة إيديولوجيا الاتباع، وثمة إيديولوجيا التبعية، وكلتاهما تتوحدان -اشتقاقاً ودلالة- في تكريس الاغتراب عن تحقق الذات من تاريخيتها؛ أي تحقيق وجودها تحقيقاً إبداعياً لصالح زمانها ومكانها.

وإذ تتحدد الغاية والمجال على هذا النحو فإن النسق المفتوح لقراءة جابر عصفور يشرع في تحديد قاعدة أساسية من قواعد منهج (المساءلة)؛ وهي أن أداتها (عقل شاكّ لا يتردد في مقاومة أي معتقد جامد، أو مفهوم تسلطي، أو خطاب قمعي، أو أنظمة شمولية. عقل لا يكف عن مساءلة نفسه في فعل مساءلته غيره، مدركاً أن المساءلة كالعقلانية وسيلة حتمية للتحرر من احتمالات الاتباع ومخايلات التبعية). وإذا كانت مقولة (الشك) هنا تعيد إلى الأذهان مقولة (الشك الديكارتي) الذي كان الدالّة المؤسسة للوجود، ومن ثم للمعرفة، وإذا كانت هذه المقولة أيضاً تعيد التناص المعرفي الذي أراد طه حسين من خلاله استثمار مقولة ديكارت في البناء الاستناري لتاريخ الأدب العربي -أقول: إذا كانت مقولة (الشك) في العبارة السابقة تفعل ذلك فإن خطورة المطابقة، وتوهم اتحاد هوية التعريف يمكن أن يقود إلى نتائج مضللة في فهم دلالة (الشك) عند جابر عصفور. فـ(الشك) في إطار إبستمولوجيا العقلانية المعاصرة يختلف -بالضرورة- عن الشك في إطار العقلانية الكلاسيكية. شك العقلانية المعاصرة يصدر عن تصور تأسيسي لنسبية العقل وتاريخيته، وليس بوصفه مقولة مطلقة وثابتة ونهائية كما هو التصور في العقلانية الكلاسيكية. ومن ثم فإن منظور (المساءلة) الذي يؤسس له جابر عصفور لا ينتج إلا (عقلاً) مضاداً لمفهوم (العقل الفطري) أو (القبْليّ) في نسق العقلانية الكلاسيكية. ولعل سمات الفعالية التي يسندها جابر عصفور لهذا العقل الشاكّ تكاد تكون تأويلاً لفعالية العقل كما تتجسد -مثلاً- لدى أحد منظري العقلانية المعاصرة -روبير بلانشي- حيث إن هذه الفعالية (لا تقتصر على تلقي موضوع جاهز، بل إنها تساهم في بناء موضوع معرفتها).

هذا من جهة، وأما من جهة أخرى فإن هذا (العقل الشاك) ليس امتداداً للشكيّة في صورتها العدمية التي تعطل كل نوع من أنواع المعرفة، ومن ثم تصل إلى إلغاء قدرة التعرف، وملكة التمييز، وفي المحصلة تخرج الإنسان من التاريخ. العقل الشاك هنا يحيل فعل (المساءلة) إلى أداة مقاومة لكل شكل من أشكال المقولات النهائية التي بجمودها وتسلطها وقمعها وشموليتها تغلق الأفق أمام الإبداع الإنساني.

وعند هذه النقطة فإنه تتبدى لنا أولى الدلالات الضمنية الكامنة وراء تغييب الوصف التقييدي (أدبية) من عنوان كتاب جابر عصفور. ففعل (المساءلة) المؤسَّس بفعالية هذا العقل الشاكّ المبدع ليس مقصوراً على الاشتغال في حقل الدرس الأدبي لا يتجاوزه، وإنما هو منظور رؤية عامة، وأسا س منهجي مبدئي في التنظير المعاصر أياً كان مجاله.

وإذا كان التنظير المعاصر يكرس -في ممارساته العالمية- فعل (المساءلة) المعرفية فإن ثمة ضرورات وتوترات تاريخية تجعل من تكريس هذا الفعل في ظرفنا الخاص أمراً ملحاً، وشرطاً لازماً. فنحن -بانتمائنا إلى واقعيات العالم الثالث-نعيش عدداً من العلاقات المتشابكة التي تستلزم الحضور الفاعل لأقصى درجات الوعي النقدي: وذلك كالعلاقة بإشكال الخصوصية الثقافية وتوترها بين مقولتي الانفتاح والانغلاق، وكالعلاقة بإشكال هيمنة العولمة والتوتر بين الاتباع والمقاومة، وكالعلاقة بإشكال بنى التخلف، وكالعلاقة بإشكال نماذج التقدم...إلخ. وإذا كان (العقل لا يتحول إلى حضور فاعل في التاريخ إلا بفعل المساءلة التي يراجع بها موقفه من التاريخ) فإن موقف العقل إزاء هذه الإشكاليات المتشابكة الحادة والملحة لا ينطلق من نزعة احتكارية متعالية للمعرفة، وإنما من إدراك تأسيسي بأن الإنجاز العقلي (النظرية مثلاً) لا يمكن فصله عن الممارسة نفسها؛ أي عن الحضور في التاريخ. وعلى ضوء ذلك يغدو كتاب (نظريات معاصرة) إسهاماً جزئياً في مشروع أكبر. إنه ممارسة عقلية تحاول أن تنهض بدورها في بناء التعرف على إشكاليات يطرحها ظرفنا التاريخي النوعي. وبطبيعة الحال فإن من بين هذه الإشكاليات إشكالية العلاقة بإنجاز الآخر الحضاري، وهي الإشكالية التي يحاول الكتاب قراءة تجسداتها متمثلة في مجال النظرية الأدبية.

وعند هذا التحديد فإن الأمر يستلزم أن نعاين سمات الحاجة المعرفية المتصل بالنظرية الأدبية خصوصاً التي شكلت حافزاً للمؤلف دفعه إلى تقديم قراءته تلك لتكون قراءة (اختلاف) عما هو قائم بالفعل من قراءات أخرى.

يقول جابر عصفور في مفتتح الكتاب: (وما يطمح إليه هذا الكتاب هو ممارسة فعل المراجعة الذي لا تفارقه المساءلة، في جانب بعينه من الجوانب العديدة للنقد الأدبي، وهو الجانب الذي يتصل بالنظريات المؤثرة في ثقافتنا الأدبية والنقدية، أو التي تسعى إلى أن يظل لها تأثير في مجالات الممارسة النقدية، وذلك بتحليلها تحليلاً يضعها في السياق التاريخي الذي يصلها باللحظة المولدة من ناحية، واللحظة المستقبلة من ناحية ثانية، وفي الوقت نفسه وضعها موضع الفحص الذي يبين عن حدودها وإمكاناتها في مستويات الممارسة النظرية والتطبيقية). ولعل أول ما يجيب عنه هذا الاقتباس هو ذلك السؤال الذي طرحناه -ضمناً- في البداية عندما أثرنا مسألة غياب تناول الكتاب لنظريات نقدية أخرى قائمة في المشهد النقدي العالمي. فالكتاب يقف عند هذه النظرية أو تلك لا من أجل ذاتها، وإنما لأجل رؤيته لحجم تأثيرها في (ثقافتنا الأدبية والنقدية). ومن ثم فإن غياب نظريات أخرى لم تقف عندها قراءة جابر عصفور كان غياباً مبرراً بكونها لم تصل بعدُ إلى منزلة الوجود المؤثر في نسيج ثقافتنا الأدبية والنقدية. فـ(النقد النسوي) -مثلاً لم يجد له حتى الآن مكاناً في المشهد النقدي العربي؛ وذلك لارتباطه الوثيق بواقعه الموضوعي الذي أنتجه في النقد الغربي، وهو الواقع المرتبط بصعود الحركات النسائية feminism بمنطلقاتها التي لم تتوفر موازيات لها في واقعنا الموضوعي. وبذلك يكون فعل التغييب الذي أراده المؤلف أمراً دالاً على طبيعة الاهتمام، ومؤشر التوجه: ليس نقل نتاج الآخر الحضاري، وإنما التحليل المعرفي للمؤثر فينا من هذا النتاج.

وبذلك يغدو كتاب (نظريات معاصرة) -في آن واحد- تجاوزاً وتأسيساً: تجاوزاً لكثير من الجهود السابقة التي انطلقت من منظور (استعارة نظريات الآخر) والاكتفاء بمحاولة التطبيق أو التطويع، وتأسيساً لمبدأ (مساءلة نظريات الآخر) من منظور جدلي لا يقع في (شرك الثنائية الضدية التي تضع الأنا والآخر موضع العداء المطلق)، ولا يصدر عن عقدة الإحساس بالنقص فيذوب انبهاراً في نتاج هذا الآخر (مما لا يعدو أن يكون نوعاً من أنواع المبالغة بمسايرة أحدث صرعات العصر وصيحاته). إنه منظور يتأسس بـ(انفتاح أفق الإبداع الذاتي بما لا يمايز بين نقد ونقد إلا بالإنجاز الكيفي)، وبفكر (لا تكتمل له قدرة الإبداع إلا حين يعي نفسه، ويلتف على حضوره مما يجعل منه فاعلاً للمساءلة وموضوعاً لها).


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة