Culture Magazine Monday  20/10/2008 G Issue 257
فضاءات
الأثنين 21 ,شوال 1429   العدد  257
 

حكاية حب غازي القصيبي (2)
د. لمياء باعشن

 

 

يمثل عالم الواقع الحالي دار المرضى البريطاني حيث يحيط بالبطل عدد من المهتمين بشأنه: الممرضتين هيلين وجانيت، الدكتور جون موريسون، البروفيسور أنتوني ميدلاند، الطبيبة النفسية ماري هيلارد، الأسقف جورج مالوني، والسير هنري ماكدونالد. عند انتقال السرد من وعي البطل إلى أحلامه يتناوب هؤلاء الأشخاص على الوقوف عند رأسه ليشهد أحدهم غفوته ثم عودته إلى وعيه. لكن هذه ليست مهمتهم الحقيقية في النص، بل إن وظيفتهم جميعاً تتمثل في مساعدة البطل على تشبيك عالميه المنفصلين، فحكاية الحب تظل حبيسة الأحلام ومخرجها الوحيد هو تسريبها شيئاً فشيئاً وتثبيتها في عالم الواقع وإلا راود الشك قارئها بمدى مصداقية حدوثها. أما بطلتها روضة فهي إفراز حلمي بحت لمريض يُـرسل إلى النوم بواسطة عقاقير مهدئة، أي أن نومه ليس طبيعياً. وتمثل روضة تحدياً لأقوى المخدرات إذ إنها تداوم على الظهور في أحلام يعقوب دون انقطاع مهما ازدادت الجرعات، وبهذا تخيب ظن هيلين التي تعتقد أنها ستعيق ظهورها بحقن يعقوب بجرعة عالية من المورفين قائلة: (سوف ترى إذا كان بوسع حبيبتك التسلل إليك بعد الحقنة..) 65.

إن بناء المنطق الزمني الذي تقوم عليه الحكاية يستلزم هذا الفصل الحاسم بين العالمين، فالخلط بينهما يهدد وجود روضة الواقعي بسبب انتمائها الحصري إلى أجواء حلمية بحتة. لذلك فإن وقوف يعقوب مذهولاً وهو يرى صورة زوجته الراحلة تختلط في ذهنه بصورة روضة حتى لا يكاد يدرك الفرق بينهما 82 يغذي الاحساس بالخطر الذي يتربص بالتكوين الواقعي لشخصية روضة، فتاة الأحلام، فقد يتبادر إلى ذهن القارئ أن يعقوب كان يحلم تحت تأثير المخدر بزوجته لا غير، وبأنه تخيل قصته معها وقمّصها شخصية روضة كونه كاتباً قصصياً لنص افتراضي محتمل فقط!!

وعلى ذلك فإن حدة الخطر المحدق بروضة تزداد عند أقل إرباك زمني يعتري النص، فحين تطفو علاقة البطل بروضة على سطح السرد الواقعي داخل النص تختل مصداقيتها. عندما أراد يعقوب التحقق من كونه الأب الحقيقي لابنة روضة، زينب، فإنه يسأل في عالم الحاضر طبيبته النفسية ماري هيلارد إن كان هنالك طريقة حاسمة يضمن بها هذا التحقق:

- ماري! هل تستطيع المرأة أن تعرف من هو والد طفلها؟ 84

- الحقيقة أنه يستحيل على المرأة أن تعرف . الوسيلة العلمية الوحيد للتثبت هي ..

يقاطعها: الدي . إن . آي.

- لماذا تريد أن تعرف؟ هل تريد أن تتزوجها؟

يرد: ماري! المرأة متزوجة..... تذكري أنني عندما قابلتها كنت أعرف أني...

- آه.. فات الأوان. 86

يسبب هذا الموقف بين يعقوب والطبيبة هيلارد إرباكاً في منطق الخط الزمني للحكاية، فحصول يعقوب على عينة من دم زينب وتقديمه للتحليل في المعمل سبق دخوله الهوسبيز وبالتالي فهو قد قام بإرسال عينة دم زينب قبل سؤاله للطبيبة ، إلا أن تسليم العينة يأتي في الترتيب الحدثي وكأنه فعل جاء نتيجة لذلك السبب الاستفساري وتطبيقاً لتلك النصيحة. وزيادة على ذلك فإن يعقوب لم يقابل روضة وهو يعرف أنه.. مريض، بل إنه لم يعرف بمرضه إلا حين قدم عينة الدم من جرح زينب للدكتور موريسون الذي أبلغه بقرب منيته:

- لدى أخبار سئية.. وصل المرض إلى المرحلة النهائية.. في هوسبيز.. هناك مكان في ضواحي لندن أشبه ما يكون بفيلا خاصة.. 106

وقبل أن يدخل يعقوب المصح، يعود إلى وطنه ثم يعرج على روضة لقضاء يومين حيث يودعها وينهي حكايته معها 107، لذا فهو حتماً لم يعرف بمرضه حين قابلها.

من الواضح أن الفارق الزمني بين إطار الواقع والحلم ضئيل جداً إلى درجة أدت إلى انكسار إيقاع البناء المتوازي ليس فقط في هذا المكان في الرواية، بل إن هذا الإرباك في المنطق الزمني يتكرر أيضاً في محاولة تحديد مدة العلاقة بين يعقوب وروضة نسبة إلى عدد مرات اللقاء بينهما. تسأل هيلين يعقوب إن كان يرى محبوبته بانتظام، فيجيب:

(مرة كل بضعة شهور). وتعود فتسأل عن مدة العلاقة إجمالياً، فيقول: (استمرت العلاقة أربع سنوات إلا قليلاً). ولكنه يحدد عدد مرات اللقاء إجمالياً بـ(أربع مرات على الأكثر) 72، وهذا خلط واضح إذ يعني أنه لم يكن يراها إلا مرة كل سنة وليس مرة كل بضعة شهور.

ربما لهذه الأسباب تأتي محاولة القصيبي لترسيخ قدمي روضة في عالم الواقع بعد ختام النص، فقد كتب الجزء اللاحق لحكاية الحب هذه وأصدر حكاية تالية تحت عنوان: (رجل.. جاء وذهب)، تقوم بسردها روضة لتكمل قصتها بعد وفاة يعقوب وتكشف فيها عن جوانب من حياتها الخاصة وعن طبيعة علاقتها به. هكذا تظهر روضة إمرأة حقيقية من لحم ودم لتقطع الشك باليقين وتصل بين ثلاثة أزمان مختلفة: ما قبل الرجل، ومجئ الرجل، ثم ذهاب الرجل.

لكن بينما يبقى الماضي مكتملاً وغير قابل لاقتحامات الحاضر، فإن حكاية الحب الحلمية ال تذكرية تقتحم العالم الحقيقي من خلال تكنيك النقـل والتشكبيك. يستسلم يعقوب للمورفين، وبين الغفوة والغفوة، يفتح عينيه (10، 16، 24، 26، 33، 37...) ليجد نفسه في المصح وفي حضور أحد شخوص الواقع الذين لا يروي لهم ما رأى في نومه، بل يستعين بهم لشرح وقائع حلمه ويشركهم في تأمله لمجرياته وذلك بتوجيه أسئلته المستقاة من صميم الموقف الماضي ومن رحم المرحلة التي وصل إليها السرد الحلمي:

هيلين، هل تعبثين بأنوف أصدقائك؟ 10

هيلين، هل تؤمنين بالرضاعة الطبيعية؟ 29

جانيت،هل تعبثين بأنوف أصدقائك؟ 20

ماري! لماذا نكذب أحياناً؟ 32

ما هو الحب يا ماري؟ 60

المرأة التي أحبها ترفض أن تقبل أي هدية مني. هل تعرفين السبب؟ 63

جون! هل سبق أن أحببت امرأة كانت ترفض أن تسميك (حبيبي)؟ 55

هيلين، لماذا كانت ترفض هداياي؟ 57

وهكذا تتوالى الأسئلة التي تشبه أسئلة الأطفال، سهلة ولكن الإجابة عليها صعبة جداً 32 في امتحانات صباحية مسائية 56 غرضها التقني شبك مقطع حلمي بآخر واقعي، أما غرضها الموضوعي فهو حث شخوص الواقع على دعم النص بتجارب حياتية تساند أحد أو كل عناصر المعادلة الأصلية: حب (مع فارق السن)/ مرض (هرم )/ موت (رحيل). وحين تتحدث هيلين عن موعدها الأول وعن خيانتها لزوجها فهي تساعد يعقوب في إدراك أبعاد تجربة موعده الأول مع روضة وعلاقتهما التي تنضوي أيضاً على خيانة زوجية، وحين تجيب الطبيبة النفسية هيلارد عن سؤال يعقوب: (ما هو الحب يا ماري؟) يأتي ردها تلخيصاً لتلك العلاقة وأسبابها وعواقبها:

- (كنت أقول للرجل الذي هجر زوجته بعد أربعين سنة من الزواج ليعيش مع فتاة في الثامنة عشرة إنه لا يحب الفتاة ولكنه يحب شبابه الذي تعيده الفتاة إليه مؤقتاً). 61

تكوّن اعترافات الشخصيات المحيطة بيعقوب في مرضه نصوصاً موازية لحكايته تتفق معها في خطوط معينة رغم اختلافها، فعندما تقول هيلين: (دعني أخبرك عن نفسي..)71، أو تغضب جانيت لعدم إصغائه لحكايتها قائلة: (بدلاً من أن تستمع إلى قصتي نمت وتركتني أتكلم) 37، نجد أنفسنا أمام فيض من القصص لرواة يتنافسون فيما بينهم على شد انتباه السامعين. لكن مضمون قصصهم لا يبتعد عن عناصر المعادلة، فهو تفصيل لمآسي الحب أو المرض أو الموت، وما أحزان السير هنري ماكدونالد إلا تأكيدا لتلك العناصر: (رزقت ببنتين. ابنتي الكبرى ماتت في حادثة اصطدام. والابنة الصغرى انتحرت. والزوجة ماتت بالجلطة). هذه قصة قد تبدو رديئة ويعلق عليها يعقوب بقوله: (شيئ مؤسف) 74، لكنه يعبر بسخرية مُرّة مترسخة أن الروايات الرومانسية وقصص الأطفال الحالمة لا تمثل الحياة جيداً، وبأن القصص الهزلية 17 التي يعيشها البشر هي في مجملها من هذا النوع المأساوي. 98

****

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة«7712» ثم أرسلها إلى الكود 82244

جدة


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة