Culture Magazine Monday  20/10/2008 G Issue 257
الملف
الأثنين 21 ,شوال 1429   العدد  257
 

محمد الفهد العيسى: (الحب يزهر شوقاً)
شعرية التدويم الرومانتيكي تؤثث أركان العالم الجمالي
عبد الله السمطي

 

 

يتطلع الشاعر دائماً إلى تغيير العالم، إلى تقديم واقع آخر أمثل يتجاوز به الواقع المادي المحسوس، وهو لذلك يظل مشدوداً إلى عوالم الأحلام، والخيال، والآتي، وبالتالي تبقى مواجيده الشعرية في حال تأمل وتدبر شعري يترى في فضاء المطلق الذي لا يحد.

هكذا هو عالم الشاعر سواء كان كلاسيكياً أو رومانتيكيا، أو كان منتمياً إلى الشعر الحديث. إن عالم المطلق المخايل الجميل يحاصر مخيلته دائما، ولا يغير انتماء الشاعر لواقع ما، أو لقضية ما، أو لموقف ما من هذه الطبيعة الشعرية التي هي أشبه بالفطرة الشعرية التي تولد مع موهبته، وتتراكم جمالياً وفنياً بين قصيدة وأخرى وبين ديوان وآخر. إن الشاعر المتضامن، والشاعر المباشر، والشاعر الذي يقدم مستويات عدة من التجريب الشعري يبقى أسير هذا البحث الدائب عن الجمال، عن تقديم واقع أكثر مثالية، وأكثر تعبيراً عن الروح الإنسانية الحقة، في بياضها، وجمالها، وجلالها الشفيف معا.

إلى هذا العالم ينتمي الشاعر محمد الفهد العيسى الذي بدأ يوطد دعائم عالمه الشعري منذ ما يقرب من أربعة عقود، قبل وحين وبعد أن تراكمت أعماله الشعرية وبدأ في إصدارها في صورة مجموعات شعرية متنوعة، منها:(ليديا)، (على مشارف الطريق)، (الحب يزهر شوقاً)، (دروب الضياع)، (الإبحار في ليل الشجن) و(ندوب). يتأثث العالم الشعري لدى محمد الفهد العيسى من جملة من العناصر الدلالية تتمثل في الاحتفاء بالذات، وجداناً، وروحاً، ووعياً شفيفاً مركوزاً على الفرح بالأشياء، والاحتفاء بما هو جميل وفاتن في الطبيعة والحياة، والسعي إلى تمثل هذه الطبيعة لتصبح هي المعادل الموضوعي للعالم الجمالي المثالي الذي يقدمه الشاعر، ويلوذ إليه، وينبني هذا العالم في توقه الشعري الخلاق على تقديم موضوع:(الحب) ليضحى الموضوع الأثير الذي تتكوكب حوله هذه العناصر، وتترى وتجوس.

من هنا يمكن أن نؤول لماذا صنع الشاعر عالمه خارج الأمس والغد، خارج الزمان والمكان، هناك حيث يتماهى الحب والمطلق، كما في قصيدة (زهرة) وفيها يسعى الشاعر إلى تجاوز عالم الواقع إلى عالم آخر، يفارق اللحظة والبقعة إلى (هناك) حيث يعثر الحب على حريته:

يا حلوتي

يا زهرة الخزامى والحبقْ

بكل نبض الشاعر الإنسان

هتفت ألف مرة

أحبك الأمس والغد..

وكل غد ما بعده غدي

أنت مثلما تاريخ مولدي

مزروعة ما بين أضلعي

مثلما غابات نخل

في (الغزيلية) الندية العبقْ

هناك..

يداك في يدي..

بين المروج الخضر

والأترج والليمون

نلهو كطائرين

يشرقان بالهوى

صدٍ - يا حلوتي - التقى صدي

القصيدة من ديوانه: (الحرف يزهر شوقاً) الصادر بالأردن في العام 1409هـ وهو الذي سنتأمل في بعض أسئلته، التي تسعى لتقديم عالم آخر، مثالي، نموذجي يفارق اللحظة والبقعة معا، على الرغم من احتفائه بتفاصيلهما.

شعرية التدويم الرومانتيكي

الإيناس إلى عوالم الرومانتيكية، بمثابة إصغاء للنبض الداخلي الذاتي الحميم، أن الشاعر يسقط ما بداخله، ما بجوانياته على العوالم الرومانتيكية: الطبيعة، الخيال، الحلم، الأماكن، اللحظات. يحدث نوع من التراسل المعنوي والحسي بين الذات وعوالمها التي تحياها، تحول المحسوس إلى معقول والعكس، تندمج الأزمنة والأمكنة، ويتسامى المطلق:

يا حبي

يا ومض الأمل الآتي.. اليوم.. الأمسْ

يا ملء الكون حنانْ (ص 44)

ومض الأمل يغرق الزمن، والحنان يغمر الكون، إنها أمنيات وتمثلات عالم آخر غير عالمنا الواقعي.

إن محمد فهد العيسى يذهب بشعريته إلى هذا العالم، يستدعيه ويتمثله، ومن هنا يمكن لنا أن نفهم دلالة هذا التدويم الرومانتيكي، التكرار المتوالي لعناصر وقيم الرومانتيكية في شعره، وهي عناصر ليست خارجة بالضرورة عن عصرنا، أو عما نتأمله في واقعنا من أحلام ومن خيال، ومن وعي آخر مفارق بالأشياء.

إن تمثل هذه الشعرية من لدن الشاعر هو أيضاً بمثابة بحث عن جواهر الأشياء، عن معانيها الأولى الحميمة الجميلة المخايلة، عن قداسة الماضي فيها، وعن مشارفة المستقبل. أن الشاعر بذلك يقوم بتعرية هذه الشوائب التي لحقت بالقيم الجميلة، وعلى رأسها قيمة الحب، وهو في ديوانه: الحرف يزهر شوقاً يتمثل هذه القيمة بكل جلاء.

ومن هنا تتكرر الأزهار، والغيوم، والأمطار، وليالي العاشقين، والغابات، والأشجار، وسنابل القمح، وشلال القمر، والترياق العذب، وهي كلها دلالات تؤثث لهذا العالم الجمالي الرومانتيكي.

رسالة الأمل الآتي:

محمد الفهد العيسى تواق للآتي، فالآتي كما يسمه شعريا: (بين يدي مركبة الشمس)أي أنه يتجدد دائماً مع إشراقة الشمس، الشمس هي التي تقود، تغير، وتبدل. الآتي هنا يرتبط بالإشراق، وبالوضاءة، يرتبط بالضوء، كأن الضوء هو الذي سيأتي، هو الذي سيقضي على العتمة، أو على (حندس الليل) كما يعبر في قصيدة أخرى.

يبحث العيسى عن الآتي بهذه الصورة الغزلية الحالمة:

عقد الفل الثلجي

على الجيد الغجري

يشرق في لاعج أسطورة بابلْ

أو حين يصاحب الطيور، ويساررها، في صورة بديعة:

ساررتُ حمامة إيك

أن تحمل في ظل جناحيها رشقة عطر

مما أبقيتُ بكفيّ.. وبوح قصيدةْ

أو حين يخاطب المحبوبة:

يا حلوتي

لا أدري ما الأيام ما الزمانْ

ما بعد.. أو ما قبل

راعني احتضان قلبي الجريح

في عينيك

يا إشراقة الأملْ

لذا فالعيسى مهموم بالآتي، بصنع عالم آخر، عالم الشعر والمخيلة الطليقة.

في ظل هذا الوعي فإن الغد إحدى الدالات المهمة في شعرية العيسى: (الغد الميلاد: يشرع شلالات عطاء سمح) و(الأمل الآتي كل مساء خُط غدا).. والغد مرتبط دائماً بالميلاد، كما يولد الغد ويتجدد عبر الضوء، يأتي الميلاد بالبشارة بالجديد. (يا أملي الآتي بعد شقاء العمر).

حين تتجدد الأشياء، تتجدد الروح، والعالم والإنسان، والتجديد هو نوع من التغيير، تغيير أفق اللحظة، وأفق المكان، وأفق الذات معا، وهذا التغيير يأتي فيما يصور الشاعر من قيمة (الحب) الذي إذا ذهب، و(التاث) فسيأتي الطوفان، كما يعبر في قصيدة (فليأت الطوفان). والحب هو الذي سيغير، ويجدد: (ضعي يديك في يدي وأشرقي.. مع الفجر الجديد يا ندية الشوق العطر).

إن محمد الفهد العيسى وهو يكتب قصيدته، ويؤثث لعالمه إنما يضعنا حيال أنموذج مثالي جمالي، يتولد فيه الجلال قبل الجمال أحيانا، وهذا الأنموذج لا يحفل كثيراً بمسألة التجريب الشعري، أو فلسفة الشعر، ووضعه في قوالب فكرية قد تنأى كثيراً بسؤال التأويل، لكنه يحبذ إشراقة المعنى، جلاءه ووضوحه، ويحبذ أن تبقى شفرات التواصل مع القارئ العام موصولة، تمد بأطناب من الخيال، والحلم، والغبطة بتفاصيل الطبيعة، والمكان.

إن هذه الشعرية المنفتحة على الوجدان قدر انفتاحها على العالم، لا تقف حيال إشكالية ما، سوى إشكالية البوح الشعري، ولا تسعى إلى أن تتجمل، أو تتزيا بأفكار قد تفضي إلى تغييب المعنى الشعري بعيداً، إشكالية هذه الشعرية تتجلى في بشاطة الأداء، ويسر المعنى، ولذلك فإنه لا توجد لدى الشاعر أسوار صينية تفصل بين الأشكال الشعرية، أو تؤزم نوعاً من الصراع بين ما هو عمودي أو تفعيلي أو نثري، الأشكال كلها متاحة لدى الشاعر، وما يشغله بشكل حقيقي هو أن تصل قصيدته للقارىء، بشفافية جمالية، وببوح تعبيري دال.

سنظل نسعى لسكنى في هذا العالم الذي يؤثثه العيسى في قصائده، الذي يبنيه عبر الكلمات حرفاً حرفاً:

عالم العشق بنيناه هنا

وغرسنا كل حفافي الدرب فيه

شوق حب

لهفة

بوحا

شجونا

ألف غمر من ورود العشق

أضحى شوك سدرةْ

- الرياض


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة