Culture Magazine Monday  19/05/2008 G Issue 248
مراجعات
الأثنين 14 ,جمادى الاولى 1429   العدد  248
 

استراحة داخل صومعة الفكر
الحب للأرض وللإنسان : عبدالله الجشي
سعد البواردي

 

 

الجشي -رحمه الله- أحد رموز الشعر المعاصر في وطننا.. جزالة في الدلالات.. وأصالة في اللفظ.. تجشم في حياته الكثير، وبقي واقفاً شامخاً كنخلات القطيف التي غنى لها.. تعطي جَنْيها.. وتهب ثمرتها للأفواه.. الجامحة إلى الأفضل..

في خطابه الشعري الكثير من الوجدانيات.. والتأمليات.. وأيضا المناسبات.. وكلها جميلة وجديرة بالإشارة إليها.. سأحرص المرور عليها ولكن ضمن وقفات متفاوتة وفق ما تسمح به المساحة المتاحة لهذه الاستراحة.

(الربيع) زهرة عمر تخاف عليه أن يذبل ويتعرى.. لا من ضمه وشمه.. قبل أن يعاجله الخريف.. هكذا تقاطعت الرغبة والخشية في مشاعره: جاء بوحه فرحاً وحذِراً..

هذا الربيع أتى فاستجل فتنته

فإنما هو آمال وأوطار

وجذوة من غرام غير خامدة

يثيرها من شباب الكون إعصار

فباكر الروضة المتناف منتشقا

فالروضة البكر أنسام وأعطار..

هذا عن فرحه.. ماذا قال عن حذره؟

غداً تلُف من الأكمام حلتها

وتنطوي في ثنايا السحب أقمار

وتخرس الطير حتى لا غناء لها

كأنما كفنت بالصمت قيثار

ويذبل الزهر في روض الشتاء كما

تذوي على راحة الأقدار معطار

شاعرنا يريد أن يذكرنا بمقولة الخيام في رباعياته:

واغنم من الحاضر لذاته

فليس في طبع الليالي الأمان

يشده البحر بأمواجه وابتهاجه بقواربه وسفنه.. بسمكه وصدفه.. ولكنه كغيره يخشى من تغير مزاجه.

موجة ترتقي وأخرى تغور

هكذا تبدأ الحياة البحور

أي سر في عمقها يتوارى

أحياة؟ أم ميتة ودثور؟

يعجز الطرف أن يجد مداها

كسماء يكل عنها البصير

ويخاطبها.. والموج خطابها والطوفان.. حسنا أن لا تستجيب فتجيب!

يا بحاراً عاشت قرونا طوالا

لم يحدد آمادها التفكير

أنتِ دنيا تضم لغزاً كبيراً

مثلما تحزن الأماني الصدور

هل تودين أن تُسرِي إلينا

بعض ما سرّه إليك الدهور

إبحار تأمل يغرق في لج البحار دون أن يلقى الرد له ولغيره من الشعراء الذين وقفوا أمام مشهده مشدوهين مبهورين، منهم كاتب هذه السطور الذي وقف أمامه متسائلا في قصيدة طويلة مطلعها:

يا بحر مالك كالفجيعة تلطم

وعلى غبار الذكريات تتمتم!

الكون فيك حقيقة أحصيتها

فلمن صداها وسط موجك يرزم؟

نترك البحر لشأنه مبتعدين عنه.. أمامنا التاريخ ونظرة شاعرنا نحوه:

إلي أيها التاريخ إن كنت غاضبا

على قلة قد زُيفت في الروايات

فإن ملايينا من الناس ضللوا

بما زُعمت أو زُورت من حكايات

إذا المرء لم يعطِ الحقيقة حجمها

فلن يرفد الدنيا بغير النفايات

يا عزيزي.. أصدق ما في التاريخ هو الذي لا يُقال..

(عندما غاب القمر) أو البدر بمعنى أصح تزداد حلكة الليل سواداً:

في لحظة كئيبة أغفى القمر

وانحسر الضوء. وغابت الصور

وأجهشت خواطر حائرة

لا تدر كيف؟ ومتى فُض السمر

قد نشر الظلام في أشباحه

ملامح الرعب وأجراس الخطر

ينتهي شاعرنا الجشي إلى بيت قصيدة:

واحيرة النفوس في كبوتها

إن لم تفارقها تهاويل القدر

عقولنا ذاهلة وأعيننا

غائمة، وما نحسه صور..

القمر له مساره ومداره يُطل ويختفي كأقدارنا تشكل حياتنا بين لحظة حضور ولحظة غياب لا مناص منهما.. اليقين وحده هو القمر الذي لا غياب له.. (حلم) مقطوعة تمتزج بالخيال فيه الصباح (بشمسه) وفيه الحب بيومه وأمسه كلاهما خاطرة أمنيته جسدها في رباعيته..

يا ليتني كالعطر يطوى كلما ذوت الزهور

يا ليتني كالنور يُحسر كلما اختفت البدور

يا ليتني كاللحن يغنى كلما غفت الطيور

يا ليتني.. يا ليت لو مسحت جراحي. ليتني

لماذا اللحن يغنى يا عزيزي.. دعه يشدو آخذاً دوره في الحلم.. ثم ليت التمني.. إنها خاطرة عجز.. ليت وهل تنفع شيئاً ليت؟!

(مرارة الإخفاق) أجتزئ منها هذه الأبيات وقد أحس بغربته بعيداً عن رفاقه:

فجري ياعواطفي أشواقي

وأسعديني بباقة من رفاق

ما الفراديس دونهم بفراديس

ولا العطر طيب استنشاق

كلما خلت أن كفي أثرت

برفيق أحسست بالإخفاق

قبلك يا صاحبنا من قال (جنة بلا ناس ما تنداس)..

شاعرنا يهرب من حزن إلى آخر أشد منه وقعاً ووجماً أشبه بالمستجير من الرمضاء بالنار..

وأهرب من حزن لحزن يفوقه

كما يهرب الظمآن للفلوات

يخطط بعض الناس مسرى حياته

وألقي عناني بين كف عداتي

كأن حياتي من سواي معارة

وعيبي أني قد أعرت حياتي

بيدك لا بيد عمرو استعادة وديعتك، أنت إذاً الملوم في عجزك.. ومن العتب إلى الحب المشبوب في داخله:

قد زرعت الحب في أعماقها

قبل عقدين فكان الزمن

ونثرت الأنجم الزهر على

عينها النشوى فكان الوطن

كم رشفت السحر من مقلتها

ففؤادي بهواهها مدمن

أنبل أنواع الإدمان إدمان الحب رغم مضاعفاته التي قد تسوق إلى الجنون.. والغيرة.. وكلاهما قاتل..

ومع عروسة البلقان المفجوعة والموجوعة كوطنها يقول:

أعروسة البلقان كم نزفت

منكِ الدماء.. وجفت الجذر

كل الجنائن فيكِ خاوية

قُتل الربيع بهن والزهر

قد شوهت منها الذرى وذوى

من قصفهم فردوسها النضر

وتجمد الدم فوق تربتها

مثل العقيق وعندم الشجر

سفكوا دماء الناصري فلا

عجب إذا دم قدسنا هدروا

في كلتا الحالتين ما زالت البوسنة والهرسك في مهب الريح تحت الوصاية.. وما زالت القدس تجوسها الأقدام الهمجية، تهودها وتشرد بنيها على مرأى من العالم ومسمع.. الإسلام لا يحبه خصوم السلام.. وهنا تكمن المأساة.

في أغنية عشقه لوطنه جاءت هذه المقاطع الجميلة:

سلام على هضبات الحجاز..

تشمخ كالأنسر الطائرة

و(نجد) وآرامها والصبا

وعزة أمجادها الغابرة

سلام على سعفات القطيف

وشطآنها الحلوة الزاهرة

وجنات أحبابنا (بالهفوف)

ونيران (ظهراننا) الهادرة

كل حبة تراب في وطنه أهدى لها السلام مشتاقاً من شغاف قلبه.. الشوق للوطن ذروة الأشواق وأبقاها في النفس..

مشهد غمامة تترقرق.. أوحى إليه بهذه الصورة الرومانسية:

قولي لثغرك أن يزيح سواده

عن ناظري لأرى عيونكِ تشرق

وترفقي عند العناق فلفتة

من ساعديك بها السماء تطوق

إني لأظمأ للسعادة لحظة

فأراك مثل غمامة تترقرق

لا تبعدي عني فقلبي تائه

حتى أراكِ حقيقة تتألق

عطش الروح كعطش الفم كلاهما دافعه إحساس بالظمأ.. الروح وجود حين تروى.. والجسد مطية حين يبل الصدى وينتصر على ظمئه..

ولجبل التوباد غنى:

كنتَ طيفا ألقاً في خاطري

منذ أن صرت فتيا يفعا

لم تكن ليلى وقيس حلما

بل حبيبين لديك اجتمعا

جبل التوباد حدث عنهما

(رب ذكرى وصلت ما انقطعا)

يولد التاريخ في أذهاننا

عندما نذكر منه الأربُعا

مقفراً كنت ولكن بهما

صرت روضا للهوى منتجعا

الجبل في طبيعته الصخرية يتحول إلى مرج في خاطرة الشعراء عندما يرتبط بذكريات عشق خالد.. أو مشهد تاريخ كبير..

في مقطوعة قصيرة اختصر مساحة عمره:

لو ظل عقلي طفلا

لكنت أسعد حالا

لكن كبرت فصار

الرضا لدي محالا

لا المال أغنى طموحي

ولا التوجس زالا

ولا الهوى هز روحي

فصار حبي دلالا

ماذا أبقيت لنا يا شاعرنا من عمرك؟! نعم الطفولة بعقلها المحدود هي الأسعد.. إلا أن الحياة تكبر ونكبر معها.. وتكبر المشاغل والمشاكل معنا ومع الحياة.. لا مكان للطفولة والأمنيات التي قال عنها شاعرنا القديم:

صغيرين نرعى البهم يا ليت أننا

إلى الآن لم نكبر.. ولم تكبر البهم

مدرجة الرسالات.. الوطن الذي هام في حبه:

بلادي مصنع التاريخ والمدينة الزهراء

تلاقى العلم والفن بها والجد والإثراء

هنالك أمة تنشى وثمَّ مفكِّرٌ بناء

مدائن صالح، والخطه والبطحاء والأحساء

نجوم في سماء المجد تمنح أفقه الآلاء

جابَ وطنه فكر، واستغرقه شعرا.. حفلا، وسهلا، وجبلا، ونخلا، وأثلا، وإبلا.. ورجلا، وأملا كلها طوَّف بها ورصدها في ذاكرته الشعرية..

شاعرنا عاش للحرف وفي الحرف، وبالحرف نطق:

عشت في الحرف كما

عاشت أساطير وحكمه

آه لو جددت نفسي

في غدٍ أجهل رسمه

فيه آمال وأحلام

وضيئات لأمة

أملي أن تُزرع الحكمة

في سفح وقمه..

من عاش بأمل الحياة يلقَ الحياة.. لا مكان للقنوط.. كما لا مكان للتشاؤم.. الحياة محصلة عمل الإنسان وحده هو الذي يسعى إلى تحصيله بجهده وجده واجتهاده.. لا مكان للقاعدين أوالمتقاعدين..

الجشي أعادنا جميعاً معه إلى مراتع صبوته وذكريات صباه:

قال: قم معي إلى البحر نلعب

لعبة الصيد، والهوى، والشراع

ونبث الأنغام مثل العصافير

على غصن سدرة، أو يفاع

مَن يكون هذا القائل.. أو هذه القائلة..؟ إنها

صبية كالورود لم يتفتق

عنهمو برعم طري القناع

يحبون الحياة لهوا وإيقاعا

ورقصا في مسرح الإبداع..

مسرح الإبداع غير مسرح الابتداع.. تبدو فيه المشاهد مختلفة.. والشواهد متباينة.. الرقص فيها نغم له إيقاع حياة وصوت حنين:

يا ضفاف الخليج كم ذكريات

لك في خاطري وفي وجداني

كم تمنيت لو تسيل القوافي

في لساني، وترتوي من بياني

لزرعت الشطآن من أغنياتي

ومنحت الأصداف أغلى الجمان

وسقيت النخيل أحلى رحيق

عشقته (دلمون) من أزمان

كل هذا العشق لوطنه باعثه البعاد.. وبعد أن عاد عاد معه الحلم.. وتحركت عسبان النخيل تخاطبه بصوت صامت ولكنه مقروء..

وفي رثائيته لشقيقته الوحيدة كان له وفاء وشوق.. وشوك..

أختاه هل في الغابرين مغيب

يشتاق يوما للحبيب ويذكر

واقسوة الأمل الشهيد وادمع

لم يبق منها قطرة تستقطر

إن الدموع كثيرة في عمرنا

ومصبها هذا الفراق المبكر

وأخيراً مع عذوبات شاعرنا وعذاباته نتوقف أمامه أمام محطة ندمه:

لم يبق لي في العيش ما يغري

قد ضاع عمري وانطوى فجري

كان الشباب يمد في حدقي

شبه العمى الوردي يستضري

نشوان من وله الهوى طربا

وكأنني اقتاد للأسر

كالنسر ينتفه من قوادمه

ما كان قبل يشد من إصري

لم يحتقب عمري سوى أسفٍ

ينساب مثل النار في صدري

لا شيء يا شاعرنا يحملك على الندم.. إنها سنة الحياة، وطبيعة الأشياء، لا زهرة دون ذبول.. ولا عمر دون أفول.. ولا ربيع دون خريف.. لستَ وحدك في هذه المعادلة كلنا نقضيها بقضاء لا مرد له.. أما أنت فقد بحت لنا بفكرك حيث لا ندم.

لو تنفع المقتول حشرجة

لضممت حشرجتي إلى صدري

إني أحن لميتة طمحت

طمح الشهيد لوافر الأجر

لا تقربوا نعشي إذا اعتصرت

روحي المنية.. وارجموا قبري

أتوسل الأحلام لو عرفت

قدري.. إذا ما حزت من قدر

يا ليت لو لم ترتجف شفتي

يوما.. فأنشد تافه الشعر

ما هذا الذي تقوله؟ بناء لبناته خلجات شعر حي لا يمكن تقويضه حتى ولو أردت.. حتى ولو أعطيت له صفة التفاهة.. التافهون هم المكابرون الذين لا يعترفون بتفاهة وضحالة أفكارهم.. قسوتك على نفسك تجاوزت طاقة حسك يا شاعرنا الإبداعي..

لو عاد إنسان لمولده

لبدأت تفكيري من الصفر

هكذا تقول.. وأقول لك ماذا ستعطي أفضل مما أعطيت، الإنسان رسالة حياة.. ولقد كتبت رسالتك كوصية حياة فيها الاعتذار. وفيها الندم.. وفيها ما هو أهم.. فكر متجدد.. وروح تندفع مع رياح العمر.. لها أكثر من وقفة.. وأكثر من موقف عشناه معك دون ملل.. الشعر خاطرة مجنحة لها ابتسامة ودمعة عشتها بشتى الوجهين وهذا يكفي شهادة بأنك شاعر واقعية لا تأخذه المتاهات دون عودة إلى الحياة.

ليرحمك الله أبا قطيف ويمامة.

*****

لإبداء الرأي حول هذه المراجعة، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب «5621» ثم أرسلها إلى الكود 82244

* كتبت هذه الاستراحة قبل وفاة الأستاذ عبدالله الجشي.

الرياض: ص.ب 231185 الرمز 11321 - فاكس 203338


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة