Culture Magazine Monday  19/05/2008 G Issue 248
فضاءات
الأثنين 14 ,جمادى الاولى 1429   العدد  248
 

الفكر العربي المعاصر وملامح الأزمة
د. خلف الجراد *

 

 

هناك أزمة قائمة في الفكر العربي المعاصر، ولا سبيل إلى فصلها عن أزمة الواقع العربي نفسه موضوعياً وتاريخياً. وتؤرَّخ هذه الأزمة بعصر النهضة، وبما يُسمّى بصدمة الحداثة، أي هذا اللقاء الدرامي بين الواقع المتخلف والواقع الأوروبي الوافد بفكره وأطماعه وعلمائه وأساطيله وجيوشه منذ مفتتح القرن التاسع عشر، بل إنّ هذا التأريخ ليس تأريخاً لبداية الأزمة، بل هو تحديد كذلك لأسبابها الموضوعية والتاريخية. فالأزمة ليست مجرد أزمة تفاوت في المستوى الحضاري بين متأخر ومتقدم، إذ لو كان الأمر كذلك لما كان ثمة أزمة. ولا نحصر الأمر في محاولة اللحاق بالمتقدم إذا لم يكن هناك ما يحول دون ذلك. بل إنَّ القرن الثامن عشر كان يغلي بإمكانات فكرية نظرية وتفتّح حداثي ذاتي لم يستكمل نمّوه، وسرعان ما أجهضه هذا الوافد الأوروبي. وتكمن أهمية هذه الرؤية في تفسير اللقاء بين الشخصية العربية - الإسلامية والآخر الأوروبي بأنه لم يكن بداية التحديث في فكرنا وواقعنا العربيين، وإنما كان أساساً بداية لأزمتها التحديثية، والاحتلال الغربي الذي بدأ في الحملة الفرنسية على مصر، وجملة الاحتلالات الاستعمارية لمعظم أجزاء الوطن العربي.

فمنذ ذلك التاريخ وبسببه حتى اليوم، أخذت تسود في فكرنا النظري العربي ثنائية تتمثَّل في هذه العلاقة الملتبسة المتأزِّمة بين الأنا العربية والآخر الأوروبي. ولا يعود هذا الالتباس أساساً إلى ثنائية التخلُّف والتقدم، بل إلى ثنائية أخرى في قلب هذا الآخر الأوروبي نفسه هي ثنائية التحضُّر الذي يمثِّله هذا الآخر بما يتضمنه من منجزات علمية واقتصادية واجتماعية من ناحية، وبين العدوان والاستعمار الذي يمارسه علينا هذا الآخر، والتبعية التي ما زلنا نعيشها منذ مرحلة الصدمة الأولى حتى بعد أن تحقق لأقطارنا العربية جميعاً استقلالها السياسي.

فما زال فكرنا وواقعنا يعانيان التخلُّف والتبعية إزاء هذا الآخر. من هذا الالتباس بين الأنا والآخر، من حيث مستوى التحضُّر، ومن حيث هذا الالتباس داخل الآخر نفسه بين التحضُّر والهيمنة الاستغلالية الاستعمارية، ومن هذا الالتباس برزت أزمة مزدوجة كذلك في الفكر العربي وفي الواقع العربي على السواء.

والفكر العربي الذي ساد منذ ذلك الوقت المبكر وحتى الآن لم يستطع أن يجيب على أسئلة الواقع، وبالتالي لم يستطع أن يقدِّم حلولاً ناجعة لهذه الأسئلة، بل يمكن القول، إنَّ هذا الفكر السائد منذ ذلك الحين وحتى اليوم يكاد في معظمه يغترب عن هذه الأسئلة ويغيب الإجابة عليها.

أما الوجه الآخر للأزمة فتمثل في ثنائية الفكر والواقع، حيث كانت الثنائية وليس الاستقطاب، الإطار النظري أو ردّ الفعل الفكري لصدمة الحداثة ذات الطابع الملتبس. ولقد تولّد عن هذه الصدمة من ناحية انبهارنا بما تتضمنه الحداثة الأوروبية من منجزات علمية وتقنية وتنظيمية وقانونية وإدارية، كما تولّد عنها من ناحية أخرى الرفض والمقاومة ضد الاعتداءات التي تمسّ الهويّة والكرامة الوطنية، وكلّ ما يمسّ الخصوصية الدينية والمشاعر القومية وعناصر الحضارة العربية - الإسلامية عامة. وتفاعلت هذه الثنائية والفكرية والنظرية الملتبسة تفاعلاً يغلب عليه الطابع السلبي مع ثنائية موضوعية واقعية هي ثنائية العلاقة بين التحديث التابع والمفروض سلطوياً في المجالات العمرانية والعسكرية والإدارية والإنتاجية والتعليمية المختلفة وواقع البنية التقليدية الموروثة القائمة بمقوماتها وعلاقاتها الاقتصادية والحرفية وعاداتها وأعرافها وقيمها. وكان من الطبيعي أن تتولّد عن هذه الثنائية ثنائية حادة جديدة بين المجتمع الأهلي التقليدي والسلطة المركزية الجديدة، سواء السلطة المفروضة أو الوافدة من الخارج أو النخب الوطنية الصاعدة، التي أخذت ترتبط بالسلطة المركزية فكراً وحداثة ومصالح، وأخذ ينمو معها جنين مجتمع مدني جديد داخل المجتمع الأهلي التقليدي.

وفي إطار هذه الثنائيات الملتبسة والمتداخلة فكراً وواقعاً، مجتمعاً وسلطة، أخذت تسود التوفيقية كجسر نظري بين هذه الثنائيات المختلفة، والتي تحدّدت صيغتها في ثنائية التراث والتحديث، الأصالة والمعاصرة، النقل والعقل، التقليد والتجديد إلى غير ذلك من ثنائيات ما تزال تسيطر بمستويات على فكرنا المعاصر في تجلياته المختلفة.

على أن الطابع الثنائي التوفيقي أو الطابع الأصولي لمختلف التيارات الفكرية لم تكن مجرد ردّ فعل، بل كانت كذلك محاولات للتلاؤم والتكيف مع الواقع السائد المفروض. وكان هذا الطابع مشروطاً محدوداً في بنيته النظرية بهذا الواقع السائد المفروض. وكان بهذا، وبرغم الطابع النقدي لعقلانيته التوفيقية أو أصوليته الاستقطابية، جزءاً من مشروعية هذا الواقع السائد. ولعلّ هذا يفسّر لماذا لم يستطع هذا الفكر أن يغذّي المجتمع آنئذ برؤية نظرية قادرة على تفسير هذا الواقع السائد تفسيراً كلياً متّسقاً يتيح للحركة الاجتماعية والوطنية أن تتسلّح بالوعي الكفيل والقادر على تحرير الوطن فكراً وواقعاً من الهيمنة الاستعمارية والاستبدادية.

والمثال الساطع على الأزمة المنهجية والبنيوية والتطبيقية للفكر العربي الحديث والمعاصر، تضارب التفسيرات والتحليلات والاستنتاجات، التي خلص إليها ممثلو التيارات الفكرية والسياسة العربية المختلفة بشأن هزيمة 1967. فقد اختلفت ردود الفعل الفكرية والثقافية والإعلامية بين تضخيم الهزيمة إلى حدود جلد الذات، أو التهوين من شأنها والنظر إليها كمجرد عدوان ونكسة عابرة نواجهها بتصفية آثارها وغير ذلك من مواقف متناقضة وتبريرات تبسيطية عرضها بشكل تفصيلي وموثق الدكتور صادق جلال العظم في كتابه (النقد الذاتي للهزيمة). والواضح أن وراء هذه التفسيرات والتسويغات المختلفة والمتناقضة خلفيات نظرية تجمع بشكل عام بين الرؤية التقنية أو الجزئية أو الذاتية أو التبريرية أو السياسية أو الإيديولوجية أو التعميميّة الإطلاقية أو التآمرية إلى غير ذلك، ولكنها لا تشكل جميعاً رؤية فكرية متَّسقة، وإنما تؤشر بوضوح إلى الأزمة وتجلياتها المتنوعة، التي برزت بقوَّة خلال هزيمة حزيران 1967 وما أعقبها من لحظات قاسية.

ولعلَّ أبرز هذه المؤلفات في هذا المجال كتاب الدكتور عبد الله العروي (العرب والفكر التاريخي)(4)، الذي يقول فيه: (إن أوروبا انتهجت من أربعة قرون منطلقاً في الفكر والسلوك ثم فرضته منذ قرون على العالم ولم يبق للشعوب الأخرى إلا أن تنتهجه بدورها فتحيا أو ترفضه فتفنى)، ويؤكد في موضع آخر وبصورة قاطعة وحاسمة: (إنّ اجتثاث الفكر السلفي من محيطنا يستلزم منَّا كثيراً من التواضع والرضا بأن نتميَّز عن الغير بنبراتنا فقط لا بمضمون ما نقوله.. ورب معترض يقول: ستكون حينئذ ثقافتنا تابعة لثقافة الغير.. وليكن إذا كان هذا هو طريق الخلاص).

لكنَّ العروي يعود ليتراجع (ولو بصورة غير مباشرة) عن استخلاصاته الحاسمة والمضادة بالمطلق للفكر السلفي والتراث العربي - الإسلامي، حيث يقول: (إنَّ موقفنا اليوم يتلخص في رفض تراثين: تراث الثقافة المسيطرة على عالمنا الحاضر، التي تدَّعي العالمية والإلمامية وتعرض نفسها علينا إلى حدِّ الإلزام والضغط ولا تفتح لنا باباً سوى باب التقليد أو الاعتراف بالقصور، وتراث ثقافة الماضي الذي اخترناه تعبيراً لنا في عهودنا السابقة، لكنه لم يعد اليوم يعبِّر عن جميع جوانب نفسياتنا).

لقد أفضت التغيّرات الدرامية العاصفة الحاصلة بدءاً من تسعينات القرن الماضي إلى سيادة حالة استقطابية مزدوجة في الفكر العربي المعاصر، تتمثل باتجاهين متعارضين: الأول هو الخضوع المطلق لمنطق ومتطلبات وإملاءات الوضع العالمي الجديد، وإعادة ترتيب الأوراق السياسية والاقتصادية والثقافية للتكيُّف معه. وبرغم تسمية هذا الاتجاه لنفسه بالاتجاه الليبرالي الجديدة، إلا أنه في حقيقة الأمر هو الاتجاه الليبرالي التابع القديم، وإنْ كان قد أخذ في الظرف العالمي الراهن منحىً أكثر شراسة وتوحشاً وصفاقة. حيث يتصف مناصروه بالبراغماتية النفعية المسطّحة القائمة على الأنانية الفردية والرؤية الجزئية، وروح اللامبالاة القومية والوطنية، والبذخ الاستهلاكي، والتدني الأخلاقي، والتبعية التامة للآخر، الأجنبي، والبحث عن مسوِّغات لكل ما تقوم به أميركا والدول الاستعمارية (وحتى الكيان الصهيوني) من جرائم جماعية واحتلال، واجتياحات، وتدمير للتراث والهوية، والبنى الثقافية والسياسية والدينية والقيمية في منطقتنا العربية. أما الاستقطاب الثاني فهو استقطاب أصولي يشكل ردَّ فعل ديني - أخلاقي - ثقافي إزاء تصرفات الاتجاه التابع، ووضع نفسه في خدمة قوى الاستعمار الجديد والهيمنة العالمية. لكنّ الاتجاه الثاني هو أقرب إلى التعبئة الروحية الشعبوية وتتراوح مواقف هذا الاتجاه بين الدعوة إلى القطيعة السياسية والاجتماعية والمعرفة مع الأنظمة القائمة والثقافات الغربية عامة، وبين الحركات والعمليات الإرهابية المسلَّحة، دون أن يمتلك هذا الاتجاه رؤية نظرية واقعية وعقلانية للخروج من حالة التخلف والتبعية، باستثناء مواقفه الانفعالية المتسمة بالتعصب والجمود ولجوء بعضها إلى تكفير كل رأي مخالف، وصولاً إلى تكفير المجتمع برمته. والواقع إن الاتجاهين المتضادّين المشار إليهما يشكّلان مظهراً لأزمة الفكر والواقع العربييّن (وكلاهما يفتقد الرؤية النظرية المنّسقة لحقائق واقعنا العربي واحتياجاته، ولهذا فلعلّهما أن يكونا من عوامل تأزيم هذا الواقع. فإذا كان الاتجاه الأول يكاد يلغي الخصوصية القومية والثقافية في اندماجه التابع الهامشي في النظام الرأسمالي العالمي، فإن الاتجاه الثاني هو اتجاه رافض للحضارة الإنسانية الراهنة ويغلب عليه طابع الانعزال والتقوقع والاغتراب عن حقائق العصر ومنجزاته باسم حماية الهوية الحضارية الإسلامية في مواجهة الحضارة الغربية).

ومن أجل أن نتجاوز تخلفنا وتبعيتنا لا بدَّ من محاولة وضع مشروع فكري تنموي شامل ذي أبعاد اقتصادية واجتماعية وسياسية وتربوية وثقافية وعلمية وإعلامية وتنويرية وقيمية، مشروع يستوعب تراثنا استيعاباً عقلانياً نقدياً، ويضيف إليه، ويستوعب حقائق عصرنا الراهن استيعاباً نقدياً مستقلاً منطلقين في الوقت نفسه من الاعتراف بوجود الأزمة المركَّبة للفكر والواقع العربي، فهي أزمة معرفة.

إنها في النهاية أزمة فكر نظري نتيجة لهذه الأزمات المتداخلة، ونتيجة فقداننا للإستراتيجية الشاملة لتغيير الواقع وتجديد الفكر.

فلا سبيل لنا للمشاركة في معركة الحضارة والعصر إلاّ من خلال سعي مثقفي الأمة بمختلف مرجعياتهم لمواجهة نقدية واعية للواقع والفكر في آن معاً. ولا نعتقد أننا يمكن أن نتجاوز تخلفنا وتبعيتنا بغير النقد العقلاني, والرؤية التاريخية السوسيولوجية لجذور التخلف والأزمة الراهنة وعدم الإغراق في الأمور والأطروحات الجزئية, أو اتباع أساليب الإدانات والتهميش والإقصاء المتبادل, السائدة الآن بين المثقفين والباحثين والكتاب العرب!!

(*) باحث وكاتب من سورية.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة