Culture Magazine Monday  17/03/2008 G Issue 239
فضاءات
الأثنين 9 ,ربيع الاول 1429   العدد  239
 
تداعيات من وهج النجوم
ريمة الخميس

 

 

منذ سنوات قليلة لا تتجاوز العشر كنا نقرأ ضمن (منجزات التنمية) (زيادة عدد نقاط الرقابة على المطبوعات من كذا إلى كذا)، ولم يكن ثمة شك في أن مبدأ الحظر يستند إلى رغبة صادقة في حماية شباب هذا البلد من أي (سموم) ثقافية وافدة من خارج الحدود، وهنا لا بد أن نتأمل الفرضيات التي قام عليها هذا الزعم:

1- شبابنا ينقصه الوعي، وحظه من الثقافة قليل، يحتاج إلى من يرشده إلى الضار والصالح.

2- نحن وحدنا العارفون، ولهذا من ضمن مسؤوليتنا أن نسمح أو نمنع.

3- لابد أن المطبوعات التي نمنع وصولها إلى شبابنا كلها قد تم تأليفها خصيصا لإفساد شبابنا، ذلك أنها ليست ممنوعة إلا في بلدنا وحده تقريبا.

وعدالة نحن الآن ننظر إلى قضية قديمة بوعينا الحاضر، فنراها كلها فرضيات خاطئة جملة وتفصيلا، وربما يوم ذاك كانت حججا وجيهة بدليل استمرار الرقابة الصارمة على المطبوعات لسنوات طويلة، وما تزال وإن تضاءلت إلى حد أوشك أن يكون منطقيا ومقبولا.

مسافة عشر سنوات، أولها تلك النوافذ الموصدة في وجه أي نسمة ثقافية قد تضيء جانبا من تجاربنا الغافلة، وآخرها مساء (الأحد) وما شهدته عيناي من تظاهرة ثقافية كان من المقرر أن تأتي بعد مئة عام أو أكثر لو بقينا على إيقاع الخطو في سنوات سابقة..!

معرض للكتاب، عرض فيه الناشرون من مختلف البلدان أهم ما أخرجوه للساحة الثقافية، بكميات تسمح بتواصل البيع وليس نسخة واحدة مهربة من خلف أعين رجال الرقابة عند منافذ الدخول - من كان يحلم أن يقام معرض سنوي للكتاب منذ عشرة أعوام وأقل؟!

هنا أيضا لا بد أن نتوقف لنتأمل تغير المفاهيم ودلالاتها:

تنمية القوى البشرية في السابق تعني صونها وإحاطتها بكل أشكال الحظر والمنع التي لا يعلم إلا الله كم أضرت بأجيال عذبها حلمها وتوقها للمعرفة.. والغريب أننا برغم هذا الفهم كنا نبعث بشبابنا إلى أوروبا وأمريكا للدراسة دون أن نضعهم داخل غرف زجاجية محكمة، أو ننصب عليهم رقيبا، وقد عاد هؤلاء الرائعون ليقوموا بدورهم على أكمل وجه.

وتنمية القوى البشرية اليوم تعني إتاحة كل فرص العلم والمعرفة أمام أجيال واعية وقادرة على التمييز والاختيار.

هكذا يتحول المفهوم من الضد إلى الضد في عشر سنوات مؤكدا أنه: ليس صحيحا أن شبابنا ينقصه الوعي وبحاجة إلى من يمنع عنه أو يسمح له، وليس صحيحا أن قلة هم العارفون الذين يحملون مسؤولية المنح أو المنع، وليس صحيحا أن بلدا أو فئة أو جماعة أو تنظيما يضعنا وحدنا في دماغه وينتج لنا وحدنا دون سوانا ما نمنعه.

القضية التي أنا بصددها الآن ليست تشديد الرقابة على المطبوعات في الماضي وعقلانيتها في الحاضر، وإنما هي قضية كبيرة وشمولية هذا مجرد مثل من معطيات كاملة لها، هي قضية زمن وعصر وسياق عام، سياق عام كان يحظر، وسياق عام أصبح يفتح نوافذه للإطلال على العالم بكل الثقة، بل بجلب العالم إلى أرضنا والاطلاع عليه بلا خوف أو تردد، سياق يشمل التعليم والثقافة والصناعة والتجارة والاستثمار والاستيراد والتصدير والعلاقات السياسية الدولية وغيرها، تغير فيه كل شيء فأصبح قادرا على التعامل مع أي شيء.

أعود إلى تلك التظاهرة الثقافية التي أضاءت سماء الرياض بنجوم باقية، ففكرة المعارض للمطبوعات في تجربتنا فكرة جديدة عمرها تلك السنوات القليلة، مما يجعلنا نغتفر فيها ارتجاليات صغيرة هي من طبيعة أي تجربة جديدة، ولكننا على العكس من ذلك فاجأنا فيها الإبهار بكل تجلياته، لم يقف المعرض عند حدود أن يكون سوقا لبيع الكتب، وإنما على هامشه تألقت الأمسيات والندوات التي حولته إلى مهرجان ثقافي حقيقي.. أمسيات قدمت لنا رموز الثقافة العربية ممن كنا نقرأ لهم أو عنهم ولا نحلم برؤيتهم، يسمعوننا ونسمعهم، نحاورهم أو نجادلهم، نضعهم باقتدار رائع في مواجهة تجاربهم عبر أسئلة محرجة، يعرفون أن من بين الصغار من شبابنا من يترسم خطاهم، وربما من يقف في مواجهتهم ندا لند.

مساء الأحد الماضي استمتعنا بالشاعر الكبير، أحد قمم الشعر العربي الشامخة، سليمان العيسى، واستمعنا إلى الرائع الدكتور إبراهيم التركي يقدمه عبر ارتجالات جميلة من شعره، ويزف إليه الأسئلة في سياق ذكي جميل، غابت صورة المحاور أو المقدم القديمة وتألقت صورة المبدع المواجه للمبدع في رحاب تدافعت فيه صور الشعر، وأعطى المجاز للأجواء شعارها من التحليق فوق أرض المحال بكل روعتها وبكارتها.

معرض الكتاب هيأ هذه التظاهرة الثقافية التي أضاءت لياليه، فكان تجربة الاختبار التي نجحت مائة بالمائة: هل إذا منحنا الثقة لشبابنا يختار بنفسه ما يريد أن يقرأ، ويحط على ما شاء من ساحات المعرفة، نكون قد قصرنا في رعايته فيضل، أم نكون قد فجرنا بداخله كل قدرات الإبداع والتجويد؟ وربما يكون هذا النجاح الباهر سببا إضافيا في إزالة ما تبقى من تراث سوء الظن وقلة الثقة.

- الرياض


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة